لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
بلاغة المفارقة الدرامية في إبيجرامات الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة
تتأسس الشعرية في نصوص الشعراء على بنى معمارية متنوعة منها القصيدة الطويلة، والقصيرة، والمقطوعة الشعرية. وقد طرح الشعر العربي الحديث كثيرًا من تلك القصائد التي تفتقت منها أنواع شعرية جديدة مثل قصيدة التوقيعة، والإبيجراما، والومضة، واللقطة…. إلخ.
يروم الشاعر أن يكون منتجًا فنيًّا بالأساس؛ لتتحقق لديه صورة العالم الذي يحلم به متجسدًا داخل القصيدة، سواء أكانت قصيرة أم طويلة. تجلى ذلك في قصائد الشاعر عز الدين المناصرة (1946ــ) فهو من الشعراء العرب الكبار الذين أسسوا لفن الإبيجراما الشعري في الشعر العربي الحديث، فقد أصدر في مطلع الستينيات تحديدًا في (1964م) من القرن الفائت، قصائد شعرية، تحتفي بشكل واسع بقصيدة قصيرة مارقة وحادة المغزى، موجزة العبارة، أو فيما يسميه المناصرة، بالتوقيعات، ذلك الفن الشعري الذي تخلل قصائد الشعراء في العصر العباسي الأول والثاني، ولم يلتفت إليه منظرو الأدب في تلك الحقبة القديمة.
أنتج المناصرة، قصيدة «التوقيعات» عام 1964م، وفي ذهنه التوقيعات النثرية في العصر العباسي، مستدعيًا من ذاكرته الشعرية وثقافته الأوروبية أيضًا مفهوم الإبيجراما اليوناني القديم، وهي القصائد التي كتبها شعراء اليونان منقوشة على الأواني والأحجار، وعلى شواهد القبور. وقد تأثر الشاعر عز الدين المناصرة بهذين اللونين «التوقيعة النثرية، والإبيجراما الشعرية» تأثرًا واضحًا في بنية إبيجراماته الشعرية، وتوقيعاته المفارقة التي جاءت تعبيرًا عن أفق العالم المخنوق الذي تعيشه الذات العربية بشكل عام، والذات الفلسطينية بشكل خاص. وفي حقيقة الأمر أجدني أكثر ميلًا إلى عنونة القصائد التي كتبها عز الدين المناصرة في مطلع الستينيات بقصائد الإبيجراما، لأنها جاءت قريبة من الناحية الفنية فيما عُرِفَ بالإبيجراما اليونانية، وقد تجلى ذلك في مواضع عدة، من خلال التكثيف/الإيجاز، والقصر الشديد، والصدمة الإدراكية في نهاية كل نص. إضافة إلى أنه مصطلح شائع في الشعرية اليونانية القديمة والأوروبية، وبخاصة عند الشعراء الميتافيزيقيين في أوروبا إبان عصر النهضة، أمثال جون دن.. وغيره في ذلك التاريخ الشعري في القرن السابع عشر الميلادي. وقد جاءت إبيجرامات عز الدين المناصرة دليلًا دامغًا على هذا التأثر الواضح من خلال الرؤية والتشكيل الفني، مرتكزًا على المفارقات بأنواعها كافة داخل المتن الشعري، وهذا يجعلنا نقول: إن المناصرة من الشعراء العرب الرواد الذين أنتجوا قصائد الإبيجراما الشعرية في أدبنا العربي، وإن كان قد سبقه طه حسين في كتابتها نثرًا، فأنتج كتابه النثري، جنة الشوك «دار المعارف 1944م». وعليه ستطرح هذه الدراسة مقاربة فنية لمصطلح الإبيجراما في الأدبين العربي والأوروبي، معرجًا على مفاهيم المفارقة، وأشكالها المختلفة في النقد الأدبي. مشفوعًا ذلك كله بالدرس التطبيقي على نصوص وإبيجرامات الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة.
مفهوم الإبيجراما
تنوعت مفاهيم الإبيجراما في الأدب العالمي، بوصفها نوعًا أدبيًّا له سماته ومعاييره الفنية فقد جاء تعريف طه حسين للإِبيجراما في مقدمة كتابه «جنة الشوك» واضحًا ودقيقًا، منظرًا لظاهرة أدبية مهمة في الشعر العالمي، فيقول: «ويجب أن أعترف بأني لا أعرف لهذا الفن من الشعر في لغتنا العربية اسمًا واضحًا متفقًا عليه، وإنما أعرف له اسمه الأوروبي؛ فقد سماه اليونانيون، واللاتينيون «إبيجراما» أي نقشًا، واشتقوا هذا الاسـم اشتقاقًا يسـيرًا قريبًا من أن هذا الفن قد نشـأ منقوشًا على الأحجار؛ فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى وفي معابد الآلهة، وعلى التماثيل والآنية والأداة البيت، أو الأبيات من الشعر». ومن الملحوظ أن طه حسين، هو أول من قدَّم مفهومًا واضحًا عن الإِبيجراما في الأدب العربي؛ وكذلك فقد جاء تعريف عز الدين إسماعيل للإِبيجراما معتمدًا على ما طرحه طه حسين من قبل، وأضاف أنها قصيدة شعرية قصيرة. فيقول: «إن كلمة إبيجراما نفسها كلمة مركبة في اللغة اليونانية القديمة من كلمتين هما (graphein، epos) ومعناها الكتابة على شيء. وفي البداية كانت تعني النقش على الحجر في المقابر، إحياءً لذكرى المتوفى، أو نحت تمثال لأحد الشخوص.
المفارقة الدرامية
تعد المفارقة الدرامية من أنواع المفارقات التي اشتملت عليها نظرية المفارقة في النقد الأدبي، وهذه المفارقة الدرامية إنما تنبع من البنية العميقة للنص الأدبي بعامة والشعري بصفة خاصة، لأنها تمثل جوهر النص، وروحه، وغايته التي خُلِقَ من أجلها هذا النص في الحياة، كما تنبثق المفارقة الدرامية من ذلك الصراع الذي ينشأ من طريق الحوار المخادع بين متحاورين، يتجاذبان أطراف المفارقة للإيقاع بالضحية التي تقع عليها المفارقة، ونجد لها تعريفًا مقاربًا لمفهومنا الذي توصلنا إليه، فإن معجم تاريخ الأفكار يعرف المفارقة بأنها ذلك «التصارع بين معنيين يوجدان في البنية الدرامية المميزة لذاتها: بداية؛ المعنى الأول هو الظاهر الذي يقدم نفسه بوصفه حقيقة واضحة، لكن عندما يتكشف سياق هذا المعنى، سواء في عمقه أو في زمنه، فإنه يفاجئنا بالكشف عن معنى آخر متصارع معه، هو في الواقع في مواجهة المعنى الأول الذي أصبح الآن، وكأنه خطأ، أو معنى محدود على أقل تقدير، وغير قادر على رؤية موقفه الخاص».
وارتبطت المفارقة الدرامية منذ نشأتها بالمسرح، ومنها اتكأت الأنواع الأدبية الأخرى على الإفادة من المفارقة المسرحية إلى الدخول في عوالم أدبية أخرى كالمفارقة الشعرية والروائية والقصصية، وقد أشار دي ــ سي ــ ميويك إلى المفارقة الدرامية، فيقول: «ارتبطت المفارقة الدرامية بالأساس بالمسرح، فهى متضمنة بالضرورة في أي عمل مسرحي، لكن هذا لا يعني عدم وجودها خارج المسرح، وهي تكون أبلغ أثرًا عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية». ويضرب ميوك مثالًا على ذلك من قصة يوسف وإخوته. «ونلحظ يوسف الذي يستضيف إخوته في مصر، وهم لا يعرفونه، وربما أصبحت المفارقة فيها أقل أثرًا لو لم يكن يوسف يعرف إخوته في حين أن القارئ يعرف». كذلك تتحقق المفارقة الدرامية عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية. وهذا النمط من المفارقة متداخل بشكل أو بآخر مع ما يعرف بمصطلح مفارقة الأحداث. ولكي يفرق ميوك بينهما يضرب مثلًا بالمدرس الذي رَسَّبَ طالبًا في الامتحان، في الوقت الذي ظل فيه الطالب يعلن بيقين تام، أنه أدى الامتحان بشكل جيد، وأنه يتوقع النجاح دون شك، فالحالة هنا تمثل حالة مفارقة، ولا يوجد بالنسبة للآخرين شيء من هذه المفارقة إلا بعد أن تظهر نتيجة الطالب. ولا يختلف تحديد مفهوم المفارقة عما قدمه معجم أكسفورد أن مصطلح IRONY مشتق من الكلمة اللاتينية IRONIA التي تعني التخفي تحت مظهر مخادع، أو الادعاء والتظاهر بالجهل، وتستخدم الكلمة بشكل خاص للإشارة إلى ما يسمى بـ المفارقة السقراطية من خلال ما عُرف بفلسفة السؤال، وكان سقراط يستخدمها ليدحض حجة خصمه. وعليه يمكن لنا أن نخلص من هذه المفاهيم المتعلقة بالمفارقة بعامة والمفارقة الدرامية بخاصة إلى أن المفارقة الدرامية، هي نتاج إنساني محض، وإبداعي صرف؛ أي أن صانع المفارقات يريد أن يتخفى وراء أقواله وأفعاله حتى يصبح المتلقي في حيرة من أمره أمام النص المقروء، أو المسموع أو المشَاهَد. ومن النماذج الشعرية التي تجلت فيها المفارقة الدرامية بشكل واسع في إبيجرامات الشاعر عز الدين المناصرة إبيجراما بعنوان: سرقوا مني الخفين. فيقول:
«رجعتُ من المنفى
في كفي خفُّ حنين
حين وصلت إلى المنفى الثاني
سرقوا مني الخفين».
تتجلى في الإبيجراما الفائتة، مفارقة درامية موجعة من خلال الحديث عن المنفى الإجباري الذي اضطر الشاعر إلى أن يفر إليه من جراء تجريف العدو الإسرائيلي البيوت والأراضي العربية في فلسطين، فيعتمد الشاعر على بنية مفارقة درامية حزينة تشي بالوجع العربي، هذه المفارقة التي يغلب على طابعها السخرية الموجعة، من خلال الانتقال من منفى إلى منفى آخر، حتى جنود الاحتلال لم تترك له خفه الوحيد. وكأنَّ الذات الفلسطينية لم تجد قلبًا يجبر كسرها في ظل التخبطات الثقافية والتفكك السياسي الملحوظ. ويقول في إبيجراما أخرى بعنوان «أنت أمير»:
«أنت أمير!!
وأنا أمير!!
فمن يا ترى يقود هذا الفيلق الكبير!!».
ترتكز الإبيجراما السابقة على بنية المشهد المفارق بين سخرية الذات من نفسها وتناقضاتها الإنسانية، حيث تستدعي المثل الشعبي الشائع «أنت أمير وأنا أمير، من سيقود الحمير». وتبدو صور المعنى الشعري الذي يسكن وراء البنية الشعرية واسعة الدلالة لدى المتلقي الذي يصطدم بهذا المعنى الجوهري في تعدد الأمراء وفشل الرعية في وقت واحد. ويقول في إبيجراما موت الأحباب:
«زرعوا الأحجار السوداء
أكلوا ذهب الغيَّاب
وزرعنا عنبًا.. وهضاب
فلقينا موت الأحباب».
يستدعي الشاعر عز الدين المناصرة في الإبيجراما السابقة صورة المحتل الإسرائيلي الذي غرس كل الأحجار السوداء والمتاريس، ليمنع الشعب الفلسطيني من زيارة دياره وأهله وذويه. وفي صورة أخرى تتقابل مع هذه الصورة الأولى، نلحظ صورة الأمل المغروس من خلال «الفعل الماضي: زرعنا عنبًا ــ وهضاب ـ فلقينا موت الأحباب»، وتنتج من هذه الصورة المتقابلة مفارقة درامية نتيجة التصارع اليومي بين أصحاب الأرضي والمحتل. ويقول في إبيجراما بعنوان المقوقس:
«أمر على الدروب.. فتزدريني
ويطلبني المقوقس للمحاكم
وأبكي حين أذكر أهل بيتي
فقد تركوا النجوم مع السوائم».
انشغل عز الدين المناصرة في التوقيعة/الإبيجراما السابقة بصورة الشاعر العربي قيس بن الملوح العاشق المجنون الذي أحب ليلى، فغاب عقله تيهًا وعشقًا، وكلما مرَّ على أطلالها بكى واستبكى الأصحاب والعشيرة، وفي قصيدة المناصرة تلك الروح العربية المحزونة التي كلما مرت على الدروب أنكرته هذه الدروب مجبرة، فنلحظ الصراع الأقوى الداخلي بين الشاعر وذاته مرة والشاعر والحاكم مرات عدة.
ويقول في إبيجراما بعنوان الفعل الناقص:
«كلمني يا مولاي الفارسْ
حتى أحظى بالرؤية حين نموت
قبل تمام الفعل الناقص».
ارتكز عز الدين المناصرة في بناء الإبيجراما الفائتة على اللعب اللغوي المتناقض، فهو يستدعي صوتًا خارجيًّا، ليحاوره داخل النص الشعري، مبديًا صوتًا عربيًّا قديمًا، ومن ثم فإن الفارس هو رمز لكل مجاهد في فلسطين يدافع عن عرضه وأرضه، مجابهًا الموت المحقق على أيدي المحتل الإسرائيلي، فالشاعر يتمنى أن يحظى برؤية فلسطين الوطن الغالي قبل الموت/الفعل الناقص على الاكتمال والتحقق، وعليه فإن التوقيعة السابقة تلهمنا الحياة أفعالها الناقصة. ويقول في إبيجراما بعنوان يا صاحبة الهودج:
«يا صاحبة الهودج
أمي عرجاء
وأبي أعرج
وأنا أضحك من حزني».
اتكأ المناصرة في الإبيجراما السابقة على مفارقة درامية موغلة في الحزن، بل هي تلخص حجم المأساة التي تمر بها الأراضي العربية، فأصبحت الأم العرجاء رمزًا للأمة العربية التي تمشي برجل مريضة، فلا تحقق نصرًا أو تسهم في تحرير الأراضي العربية المحتلة، ومفردة الأب التي يرمز الشاعر من خلالها إلى الفارس العربي الذي تجرد عنه سلاحه، وأصبح أعزل، فلا سيف ولا حرب، والذات الشاعرة التي تصنع مفارقة قوية، وصادمة تكمن في الضحك من شدة الحزن على الذات نفسها التي تمثل نموذجًا للذات الجمعية في الوطن العربي، لأن ذات الشاعر هي كيانه وملامحه، بل تمثل مكنون أفكاره وجوارحه التي لا تستطيع الفكاك من واقع مظلم، فرضته الكائنات الأخرى عليها.
المفارقة التصويرية
صحيح أن المفارقة التصويرية نوع من أنواع المفارقات في النقد الأدبي الحديث، وقد أشرنا إليها، فيما سبق في المبحث النظري، حول المفارقة، ومفهومها، وخصائصها، الفنية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية وأنواعها ومواضعها في القصيدة الشعرية بعامة والإبيجراما بخاصة.
يشير الدكتور علي عشري زايد في كتابه عن بناء القصيدة العربية الحديثة، إلى أن المفارقة التصويرية، «تكنيك فني، يستخدمه الشاعر المعاصر؛ لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين، بينهما نوع من التناقض، وقد يمتد هذا التناقض ليشمل القصيدة بأكملها، ليس في جملة أو بيت كما في الطباق والمقابلة، ويرى أيضًا أن التناقض في المفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان ينبغي أن تتفق وتتماثل». ومن ثم فقد تباينت مناطق المفارقة التصويرية في شعر الدكتور عز الدين المناصرة بعامة وتوقيعاته/إبيجراماته بصفة خاصة. وقد اجتزأت من مختارات بعض إبيجرامات عز الدين المناصرة، لأنه أفرد لها ديوانًا كاملًا، بعنوان مختارات من إبيجرامات عز الدين المناصرة فيقول في إحدى إبيجراماته:
«أسير ﻓﻲ الشوارعْ
محدقًا ﻓﻲ الموت والخرابْ
أسدُّ أنفي بدمي
وأطرد الذباب عن فمي
لكنّه يعود للسردابْ
من يمنع الذباب أن يمرّ ﻓﻲ فمي
من يمنع الذباب؟!!».
ارتكز الشاعر عز الدين المناصرة في التوقيعة السابقة على تصوير المشهد المفارق الواقع على الذات نفسها، فقد طرح الشاعر المشهد المؤلم الذي بالغ في تصويره من خلال رحلته في الحياة وصراعه مع الذباب الذي يمر في فمه، وهو يرمز إلى الاحتلال الاسرائيلي الذي أجبر الفلسطيني على الرحيل عن أرضه وأهله، وقد لجأ الشاعر إلى الاستغاثة الممزوجة بالتساؤل في قوله: «من يمنع الذباب أن يمر في في فمي؟ من يمنع الذباب؟!»، وكأن هذا الذباب/ المحتل لا يجد قوة تمنعه من المرور على أجساد الإنسانية في الأراضي العربية المحتلة. فهذا السؤال يوقظ كثيرًا من المفردات الغائبة في حياتنا، بل يستفز الأرواح المسكونة بالألم كي تدافع عن حقها في العودة، والرغبة في الاستقرار الإنساني البسيط. ويقول الشاعر نفسه في توقيعة أخرى:
«ﻓﻲ قلبي آلاف الأشياء
لا أحكيها، إلا للحيطان الصمَّاءْ
أحكيها لحمام الأسرار على الهَضَبةْ
أرفض أن أحكيها للسيف المسلول على الرّقَبَةْ
أرفض أن أحكيها للغولْ
ذلك أنَّ لساني يا أحبابي، مشلولْ».
في الإبيجراما السابقة، يمكننا أن نلحظ مشهدين متناقضين صنعتهما المفارقة التصويرية وهما المشهد الأول صورة الحيطان الصماء التي لا تسمع بكاء الشاعر وصراخه ضد المحتل الذي يقتل الأطفال والنساء والعجائز ويسجن الشباب في معتقلاته محطمًا بيوتهم ومزارعهم، والمشهد الثاني يتمثل في لسان الذات المشلول الذي لا يستطيع البوح بما يضمر أو يختزن من آلام وأوجاع. حيث حاول الشاعر أن يجمع في توقيعاته بين الحكي في مواجهة الحيطان الصماء، وبين حديث اللسان الذي أصيب بالشلل عن الكلام. فالمشهدان يمثلان تناقضًا واضحًا بين الرغبة في الحياة من خلال التعبير عن أوجاع مسكونة في الروح، وبين الصمت الذي يؤدي إلى الموت والقتل وفقدان الحياة، يتمثل هذا كله في صياغة الشاعر للحياة المتناقضة التي تجبر الذات الشاعرة على اللجوء إلى الحديث إلى نفسها أو إلى الحمام الذي يسكن الهضاب، خوفًا من الذبح والتمثيل بجثته على أرضه المغتصبة. ينسج الشاعر عز الدين المناصرة توقيعاته، من رحم الواقع الممزوج بالخيال الأليم الذي ارتبط بأرضه فلسطين، محاولًا طرحها من خلال السخرية المريرة، والصدمة الإدراكية الواقعة على قلوب الملايين من الشعب العربي، فجاءت توقيعاته، لتسجل المواقف العربية إزاء ما يحدث في الأراضي الفلسطينية، ومدى الأثر الذي تتركه في نفوس الشعب الفلسطيني نفسه من آلام وأحزان ومشاعر متناقضة. وقد حاولتُ في دراستي طرح رؤية الشاعر عز الدين المناصرة حول قصيدة الإبيجراما، مستكشفًا المناطق البلاغية التي صنعها النص من خلال المفارقة بأنواعها المختلفة، لافتًا أنظار الباحثين العرب إلى دراسة الإنتاج الشعري للشاعر المناصرة، ودراسة إبيجراماته الشعرية.
بيت الثقــافـــة والفنون في الأردن يكرم المنـــاصرة بصفته رائــدًا و «الجامع المشترك»
الفيصل عمان
احتفى مثقفون وأدباء في العاصمة الأردنية عمان بالشاعر الفلسطيني الكبير عز الدين المناصرة، في أمسية ثقافية تكريمية احتضنها «بيت الثقافة والفنون».
وفي المناسبة شارك عدد من الأكاديمين الأردنيين، مثل: الدكتور عماد الضمور (جامعة البلقاء)، والدكتور حسين البطوش (الجامعة الإسلامية الدولية)، والدكتور علي غبن (الأونروا)، ووصف هؤلاء المناصرة بـ«الجامع المشترك» بين فلسطين والأردن، شارحين خصائص عدة في شعر المناصرة وشخصيته، (الشاعر، الناقد، البروفيسور، المناضل)، وغيرها. ومما أجمع عليه هؤلاء الأكاديميون: أولا: قدرته المبكرة منذ النصف الثاني من الستينيات على توظيف المورث العربي في شعره، ببراعة، مثل: (قناع امرئ القيس، 1967) – (شخصية زرقاء اليمامة، ديسمبر 1966)، «التي قلدها الشاعر المصري أمل دنقل بعد ذلك بعامين (مارس 1968)». – كذلك شخصية أبي محجن الثقفي و(جفرا الفلسطينية، 1976) و(حيزية الجزائرية 1986) التي نقلها المناصرة من محليتها إلى عالميتها، كما أشار الباحثون.
ثانيًا: ابتدع الشاعر المناصرة «فن التوقيعة الشعري»، وأطلق عليه «النوع الشعري الخامس» بعد الشعر العمودي، وشعر الموشحات، وقصيدة النثر، والشعر الحر التفعيلي، وذلك منذ عام (1964)، وألحق به، فن (الهايكو العربي)، في العام نفسه 1964.
ثالثًا: تميز عن زملائه (شعراء المقاومة) في الستينيات، بابتداعه (الشعر الرعوي الكنعاني المقاوم)، بالحفر عن جذور الحضارة الفلسطينية، وأضاف (عنصر الكنعنة) إلى عناصر الهوية الفلسطينية، حيث كان هذا العنصر مقموعًا.
رابعًا: هو الشاعر الفلسطيني الوحيد الذي حمل السلاح في المرحلة اللبنانية للثورة الفلسطينية، ضد (إسرائيل والمتأسرلين)، وخاض غمار ثلاث معارك عسكرية دفاعًا عن المخيمات الفلسطينية، والجنوب اللبناني، هي: (معركة كفر شوبا، 1976) – (معركة المطاحن، 1976م) – (ومعركة المتحف، 1982م). وعاش حصار بيروت 1982م. وكان قد انتمى إلى منظمة التحرير الفلسطينية منذ العام الأول لتأسيسها (1964م) في القدس، حيث كان عضوًا في (الاتحاد العام لطلبة فلسطين- فرع القاهرة). وكان عضوًا عام 1966م في (المؤتمر التأسيسي لاتحاد كتاب فلسطين) في قطاع غزة، بترشيح من الشاعر (أبو سلمى)، والروائي (غسان كنفاني). وتلقى دورة عسكرية في جامعة القاهرة، صيف 1967م، ودورة عسكرية أخرى في بيروت (دورة الكرامة، 1976م).
خامسًا: يُعد الشاعر المناصرة من أبرز النقاد العرب، خصوصًا في مجال (النقد المقارن)، و (النقد الثقافي المقارن)، وله كتب عديدة تعد من أهم المراجع العربية، وقد تميز أكاديميًّا بالإبداع النقدي، والتميز في التدريس، حيث لعب دورًا مركزيًّا في تأسيس الرابطة العربية للأدب المقارن. وعمل في التعليم الجامعي في (خمس جامعات عربية) طيلة (34 عامًا)، هي:
(جامعة قسنطينة – جامعة تلمسان) في الجزائر، وأسس قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة القدس المفتوحة (1991- 1994م)، وعمل عميدًا لكلية العلوم التربوية في الأونروا بعمان، عام 1995م. أخيرًا، عمل أستاذًا في (جامعة فيلادلفيا الأردنية، 1995 -2017م)، لكنه أحيل إلى التقاعد الإجباري في (1/9/2017م)، بذريعة تجاوزه سن السبعين. ويقول الروائي الطاهر وطار حرفيًّا: «عز الدين المناصرة … لا يقل أهمية عن زميله وصديقه محمود درويش في الشعر، ولا يقل أهمية عن مواطنه إدوارد سعيد في النقد الثقافي المقارن». وحصل (المناصرة) على رتبة بروفيسور عام 2005م في جامعة فيلادلفيا، بعد أن حصل على درجة الدكتوراه في (الأدب المقارن) في (جامعة صوفيا)، عام 1981م التي تخرج فيها الناقدان البلغاريان (تودوروف وكريستيفا) قبل هجرتهما إلى باريس.
سادسًا: وصفه عدد من النقاد بأنه (شاعر عالمي)، ومنهم: (الدكتور غسان غنيم – جامعة دمشق) والباحثة الإيرانية (مريم السادات مير قادري) – والفرنسي (كلود روكيه)، الذي قال في حفلة تكريم المناصرة في مدينة (بوردو الفرنسية، 29/5/1997م): «الشاعر المناصرة، بعد أن قرأت له كتابه الشعري المترجم إلى الفرنسية (رذاذ اللغة) – أعلن أنه لا يقل أهمية عن شعراء فرنسا العظام في النصف الثاني من القرن العشرين».
سابعًا: وكان الدكتور عماد الضمور، قد أشار إلى خاصية مهمة في شعر المناصرة، تميز بها عن أقرانه هي (تفصيح العاميات) في شعره. كذلك طريقته الخاصة في إنشاد الشعر التي يسميها (الطريقة الاحتفالية)، والتي بدأها منذ عام 1981م في بيروت.
وكان الناقد فيصل دراج ذكر في أحد مقالاته التي ينشرها في «الفيصل» (بتاريخ 28/1/2018م) قائلًا: «سألت محمود درويش: من هو أفضل شاعر فلسطيني، فقال بلا تردد: هو إبراهيم طوقان: كان شاعرًا لا يتكلف في شعره، وكانت موهبته تفيض على ما كتب. وحين وصل درويش إلى الجيل المعاصر له، قال: أفضل شاعر، هو عز الدين المناصرة، فهو شاعر متميز لا يعرف قيمته الشعرية». ويضيف فيصل دراج: «وأنا أعلم أن عز الدين المناصرة، إنسان جميل، وشاعر موهوب».
واختتمت مديرة بيت الثقافة والفنون الدكتورة هناء البواب حفلة التكريم بتسليم الشاعر المناصرة الذي أصدر عددًا مهمًّا من الكتب، شعرًا ونقدًا، أمام حضور حاشد «درع التكريم».
– كادر
المنشورات ذات الصلة
الرواية السعودية في مهب التحولات الكبرى
منذ نحو قرن من الزمان، وبالتحديد في عام 1930م، صدرت الرواية السعودية الأولى «التوأمان» لعبدالقدوس الأنصاري. وفي عام...
المرجع في الكتابة الروائية السعودية المعاصرة روايات أحمد الدويحي أنموذجًا
التعبير الإنساني في عمومه يعتمد على فعل (الانتقاء)؛ فمن نسيج العالم المحيط بالذات المعبرة والمحتضن لها في الوقت نفسه...
بيروت في روايات ربيع جابر… الخروج من متاهات العنف إلى ذاكرة عادلة
في محبة بيروت كتب ربيع جابر خمس روايات بارزة. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ في بادئ الأمر ثلاثيته «بيروت مدينة العالم»...
0 تعليق