كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المسرح العربي وتحديات العصر
سؤال الواقع والمحتمل
كلما أعيد طرح السؤال عن كينونة المسرح العربي في وجوده وفي معنى وأشكال اشتغاله، رافق هذا السؤال تهيّبٌ خفي يخشى به الباحثون والنقاد إعطاء الأجوبة النهائية المبنية على اليقين النهائي حول سؤال الواقع والمحتمل في هذا المسرح إلا ويبقى هذا المسرح محكومًا بكل المفارقات، والنزاعات، والتحولات التي يعرفها عالم مهيمن يرسم صورة أخرى للممارسة الثقافية في العالم، ويسعى إلى تثبيت قواعد جديدة بديلة عن القواعد الرائجة في العلاقات، وفي حوار الحضارات، وفي التفاعل بين الذهنيات، والثقافات.
مع كل سؤال حول الواقع الملتبس الذي يوجد فيه شكل هذا المسرح تكبر الاختيارات الفنية والأدبية والسياسية والتراثية والأسطورية التي يتعامل معها المسرحيون العرب مع واقعهم للتعبير عن حالهم وأحوالهم، أحيانًا يتقلص هذا التعبير بتقلص الاهتمام بفاعلية الخطاب المسرحي وانخراطه في عملية التواصل مع المتلقي العربي الذي تختلف مستويات فهمه وإدراكه للنتاج المسرحي الجديد، وأحيانًا أخرى يريد هؤلاء المسرحيون إنجاز مسرح ينتمي إلى زمانهم، ومجتمعهم، وقضاياهم، لكن كيف يمكنهم تحقيق هذا التواصل والبون شاسع بين ما ينتجون وبين مرسل إليه لا يقوى على مسايرة غموض الرؤية التي يقدمها هذا المسرح.
لعل رصد الوجود الذي عليه هذا المسرح هو الذي وهب صِدقية فعل القراءة والمقاربة النقدية ما به يمكن بناء التصورات، والمفاهيم، والدلالات التي تقرب كل قراءة من تمظهرات هذا المسرح وقد اتخذ لكينونته الفنية وجودًا حقيقيًّا مختلفًا من الخليج العربي إلى المغرب أدخلته في السياقات الاجتماعية والتواصلية مع المجتمع اعتمادًا على محاولة فهم كل الظرفيات التاريخية، والسياسية، والثقافية، والفكرية وما يجري محليًّا وعربيًّا ودوليًّا من صراعات؛ لأن وجود هذا المسرح ووجود وعيه غير منفصلين على السياقات التي يستمد منها فهمه لفهم العالم وهو يتعامل مع الظاهرة المسرحية المحملة بكل ما يتمخض عنه التفاعل من تصورات، هي صورة هذا التفاعل بين الذات والعالم.
من هذا الطرح كان المسرحيون العرب يضعون ضمن أولويات تفكيرهم ويقولون في تتظيراتهم للمسرح إذا غاب هذا النوع من الفهم، والإدراك، والتفاعل مع ثقافات العصر فإن حيوية الإبداع المسرحي تضيع، ولا يعود لرحابة الرؤية مكانها في صيرورة العملية الإبداعية، من هنا صار هذا الطرح سببًا قويًّا حفزهم على الانخراط في ممارسة كل مقاربة نقدية تتوفر على أدوات القراءة والتحليل، وذلك من أجل رصد التوجهات والمسيرات التي يعرفها المسرح العربي إبداعًا، وتنظيرًا، ونقدًا هي كلها ممارسات تظل موزعة بين المختلف والمؤتلف، بين الواضح والملتبس الموجود -أحيانًا- في لحظات توقف، أو تعثر، أو مراجعة، وأحيانًا أخرى يوجد في حيوية إبداعية تتدفق إبداعات بها يمكن أن نقرأ كل التجارب.
من هنا تكون إشكالية تحديد الاتجاهات والتوجهات التي تكتب عُمْر المسرح العربي موصوفة بالمشترك بين تجاربه المختلفة، كما أنها موصوفة بما يعطي كل تجربة نعتها الخاص، وصفاتها الخاصة، وفي هذا التعدد، والاختلاف يمكن استنباط هذا المشترك بين التجارب، ومن هذا المشترك ستكون صورة المختلف في هذه التوجهات بادية لكل من أراد أن يستزيد معرفة بهذه التوجهات المسرحية التي ستبقى تمنح خاصياتها كلَّ من أراد أن يفكِّك منهجيًّا بنية هذه الاتجاهات والتوجهات حتى يبني موضوع القراءة بخطاب النقد.
هنا يمكن استحضار بعض هذه الاتجاهات التي أخذت موقعًا مهمًّا في تجربة المسرح العربي لنتبين الفروقات الموجودة بين التجارب، ونعرف بعض التفاصيل المضمرة في خطاباتها، وتجريبها المسرحي، وهذا لا يلغي حقيقة ثابتة في الممارسة المسرحية العربية والقائمة على الأسس الآتية:
– أن الممارسات المسرحية في الوطن العربي تبقى بلغتها، ومواضيعها منتمية إلى الخارطة المسرحية العربية بكل فسيفسائها الرمزية والدلالية.
– أن صفة التميز في كل تجربة من التجارب التي تتحقق في سياقاتها الخاصة هو ما يضفي على الاختلاف بين التجارب المسرحية العربية بنية، وموضوعًا، ودلالة، وانتماء إلى العصر ما به تسمى عربية.
– في هذه الممارسات يختلف شكل التعامل مع المصادر والمرجعيات العربية أثناء التفاعل مع مكوناتها ليبقى المهم في كل عملية إبداعية هو إبقاء الانفتاح على الآخر قائمًا على مبدأ التواصل وحوار الثقافات.
– أن السياق السياسي والمرجع الثقافي هما اللذان يقوم عليهما هذا التفاعل وهو ما يضفي على كل تجربة خاصية التميز والبقاء.
من عمق هذه الممارسة المسرحية سارت هذه التوجهات بتجاربها نحو مخاضات عسيرة أحيانًا، وسهلة أحيانًا أخرى كانت تفضي -في كل نهاية تتحول إلى بدايات جديدة- إلى صوغ رؤى تراجيدية تكتب عن مرارة الهزائم، وتحكي عن صدمة انكسار المشروع التحديثي للمجتمع، وتبني خطابات رمزية مكتوبة بواقعية الأحداث، أو مكتوبة بقناع التاريخ، أو مكتوبة بمعاناة الألم المشترك بين الشعوب من دون التخلي عن رموز الحاضر وتواشجه مع الغايات التي تريد أن تكون رسالة فنية معارضة لكل خلل يحكم المجتمع والفرد ليجعل المسرح مرتبطًا بواقعه الثقافي.
المسرح وعلاقته بالواقع الثقافي العربي
من تمظهرات المسرح وتجلياته في هذا الواقع الثقافي العربي يكون رصد غاياته وأهدافه كتابًا مفتوحًا يقدم ما يتضمنه من رؤى للعالم تثبت نوع الجدل القائم بين الذات الكاتبة وموضوعها الموجود في سؤال المعرفة حول مدى تمكن هذا المسرح من الاستزادة من كل جواب يتعلق بكتابة النص الدرامي، أو يتعلق بمدارات الإخراج وما يتملكه من أدوات بها تُوَسَّع دلالات نص المؤلف بالرموز التي تضفي على جمالية التلقي دهشة ممتعة بما تحمله من غرابة، وما تقدمه من جرأة، وما توظفه من وسائط تعطي العرضَ المسرحي شرعيةَ الانتماء إلى السياق الثقافي العربي.
لا يعني وجود هذه التمظهرات المسرحية في السياق الثقافي العربي سوى التزام المسرحيين العرب -كُتَّابًا، ونُقادًا، ومُنظِّرين- بثوابت الذات العربية المفكرة، المتسائلة، المهتمة بتراثيها الثقافي المادي وغير المادي، ولا يعني سوى السير بكل سؤال نقدي يتعلق بالفعل المسرحي نحو الاستجابة لنداء تطوير لغة الكتابة المسرحية لتصير طليعية تفهم اشتغال آليات الإخراج المسرحي ليكون منتجًا للتجديد، ومنتجًا لوعيه بجدوى صياغة شعرية حقيقية لخطابات هذا المسرح أثناء تلقيه، لتكون استجابته الإيجابية الفاهمة لكل تحول في الممارسة دعمًا لوجود ثقافي حقيقي لهذا المسرح الطليعي وهو يسعى لفهم الواقع الثقافي العربي.
كانت التمظهرات المسرحية في الوطن العربي تخفي العديد من التوجهات الفنية والجمالية وتحجب تأثيرات المدارس المسرحية الغربية فيها، وكانت -ولا تزال- كل تجاربها الطليعية تقف موقف التوجس الرافض لكل دخيل يمكنه أن يشوش على تجريب التجارب المسرحية، لكن هذه التمظهرات لم تكن تخفي في نتاجاتها المسرحية كيفية التعامل مع الواقع في كل أبعاده الواقعية والمُتخيلة رصدًا لنزوعاته، وتغيراته، وهذا يعني أن تجليات هذه التجارب تبقى موصولة إلى ما تضمره في ثنايا تجاربها من مواقف رافضة للمعيش، وهنا تكمن إضافاتها النوعية التي ظلت تعلن دومًا أنها بطليعيتها المسرحية تعيش في سيرورة تاريخية منتجة لمسرح يتفرد بعطاءاته العربية. ويمكن تمثيل ذلك بأهم ما قدمته هذه التمظهرات على الأصعدة الإبداعية، والتكوينية، والمؤسساتية، والمهرجاناتية ودورها كلها في العمل على خلق فرص ثقافية حقيقية تقدم الرأي والرأى الآخر للفاعلين الحقيقيين العاملين بثقافتهم العربية والغربية على إنجاز مسرح عربي يفهم الواقع العربي.
هذه الأصعدة في تداخلها، وفي تكامل أهدافها، تشكل -بكل تأكيد- إستراتيجية واضحة تضبط العمل المسرحي في كل قطر من الأقطار العربية، وتقربنا من شكل وجود هذا المسرح؛ إما بصيغة التقليد والتكرار، أو بصيغة التجديد المتنامي بقوة التطلع إلى تجاوز المعطى بحثًا عن البديل، وتقربنا أيضًا من كل مسرح يتملك صيغته الشعبية التراثية الراقية التي يعرف بها كيف يكون مظاهر الفرجة الشعبية بعيدًا من كل صيغة شعبوية ضحلة، وهذا ما يضع موضوع الكتابة النصية للمسرح على بساط البحث لمعرفة نوعية العلاقة بينها وبين صناعة العرض.
النص المسرحي وصناعة العرض المسرحي
حقيقة وجود النص المسرحي العربي كمنطلق لصناعة العرض المسرحي لا يعني وجودًا مطلقًا تتوافر فيه النصوص التي يمكنها أن تغطي كل حاجيات التجربة المسرحية العربية، وتمدها بما يساعدها على ضمان السير الطبيعي لكل إنتاجية ممكنة للعرض؛ ذلك أن في غياب هذا النص تكمن إحدى العوامل العائقة لكل سير سليم لكل منظومة مسرحية تحمل معرفتها بالذات وبالموضوع.
يبقى وجود هذا النص يمثل المنقذ من وطأة هذا الغياب، وذلك باللجوء إلى تعريب النصوص العالمية لوضعها في سياق التلقي المسرحي، أو استنبات النص المُراد تقديمه من النصوص العالمية لتقديمه باللغة والرؤية العربية التي تجد تجاوبًا حقيقيًّا بينها وبين المتلقي العربي، وهناك من التجارب التي لجأت إلى مسرحة التاريخ، أو مسرحة بعض النصوص الروائية وعملت على إخراجها من سردها النثري ووضعها في سردها الدرامي حيث تفاوتت مستويات وجود هذه العمليات من قطر إلى قطر، ومن تجربة إلى تجربة.
هذه الحقيقة المتعلقة بإنتاج النص المسرحي تجعل كل توجهات المسرح العربي تجارب في توجهات، وتجعل هذه التوجهات تمظهرات في تجارب، وهو ما يعني أن المسرح العربي مسارح، وأن ما يعنيه هذا الإنتاج هو توكيد وجوده بمعرفة ما هو موجود من نصوص مسرحية عالمية وعربية، والتعامل معها لتصير مقياسًا تُعْرَف به هذه الحقيقة.
لا تخلو هذه الحقيقة أحيانًا من لَبْس يتعلق بمستوى فهم خلفيات هذه النصوص الغربية، وكيفية نقلها بلَبْسِها لتكون قاعدة يبنى عليها العرض المسرحي العربي؛ لأن المبهم في رؤيتها يبقى لغزًا لأنه مبهم لا يرقى إلى مستوى الوضوح الممكن بعد نقله إلى السياق العربي ليبقى هذا المبهم والغامض مفهومين في سياقة الثقافي الذي أنتج رؤيته في الغرب على الرغم من نزوعه المقصود -أو غير المقصود- نحو تجريد معناه ليعلن أن ألغازه وغموضه ليسا إغرابًا بل إيضاح وإبانة يضيئان لَبْس واقع لا يرتفع يمكن أن يصير برموزه تجربة إنسانية.
من هنا تبقى كل النصوص المسرحية التي تدخل مخاض التجريب حتى تنتمي إلى تجربة المسرح العربي موسومة بهذه السمة أحيانًا أو أنها تكتب زمانها بزمن الوعي بالتاريخ العربي، وهو ما أعطى نصوصًا ينهض وجودها على:
– تحصين هوية النص المسرحي العربي بهوية الانتماء إلى الذاكرة الثقافية العربية بكل ما تزخر به من غنى التراث الفرجوي، وثراء السرود العربية بالحكايات والمقامات والظواهر الفرجوية الشعبية.
– العودة إلى هذه الظواهر المسرحية والعمل على استثمار جمالياتها في صناعة الفرجة البليغة كما يمثل ذلك الحكواتي وذلك من أجل إنجاز جمالية الفرجة الشعبية الأصيلة.
– تمكين بلاغة الحوارات من صوغ علامات وأيقونة الشخوص والأحداث بدلالات ما تحمله الذات من هواجس، ومواقف، وأسئلة وجودية، وموقف من المعيش.
– امتلاك الوعي بكيفية التعامل مع ثقافات أخرى لها نظرياتها في الإخراج، وصناعة الفرجة.
هذا النوع من الوجود هو الذي وضع بشكل مباشر وغير مباشر خرائط محددة لشكل وجود المسرح العربي كما يتمظهر ذلك في كتابة النصوص التي هي في دلالاتها العميقة كتابة لتاريخ حياة، وواقع مجتمع، وتجربة إنسان، وتفاعل بين صور الحياة في أبهى صورها الملتبسة، وبين أوجاع عالم كل ما فيه صار يخيف، ويفزع، ويسلب الإنسان حريته وإنسانيته.
هذا الإبهام والوضوح اللذان يغمران وجود هذا النص المسرحي لا يحجبان حقيقة رؤية النص حين ينتقل إلى زمن العرض، ولا يخفيان مضمره الذي ينبلج في علامات الصور المرسومة داخل ما تتكلم به هذه الصور وخارجه، ولا يبطن إلا ما يسعى إلى استبانته، ويمكن وضع مراحل إنتاج النص المسرحي وتحقيق وجوده فوق الركح كالآتي:
– بعد أن كانت لغة المؤلف قابضة على الإنتاجية المسرحية العربية صارت هناك توجهات أخرى جديدة تحفل بجمالية الترئية أساسها البناء المشهدي ببلاغة الصورة التي تشارك في إنتاجها الرؤية الجماعية التي يحركها تعدد الاختصاصات التقنية والفنية.
– صار للمخرج المسرحي العربي سلطة أخرى يمارسها على نص المؤلف يكون أساسها قائمًا على توظيف التقانة الحديثة، والوسائط الفنية التي أدخلت المسرح العربي زمن الصورة كوسيلة من وسائل الترئية.
– لم يعد هناك نص مسرحي ثابت في التجربة المسرحية العربية، بل هناك اختيارات أخرى جعلت المخرجين المسرحيين يلجؤون إلى كل نص سردي يحولونه إلى نص قابل للتمسرح.
هذا التغير الذي طال مفاهيم كتابة النص المسرحي وامتدّ إلى ممارسة المسرح والإخراج لم يكن وليد مصادفة، ولم يكن من دون مقدمات، بل هو نتيجة حتمية ولدتها طبيعة الانفتاح على نظريات الإخراج المسرحي في الغرب، والاستفادة منها، وهو ما جعل المنظومات الإخراجية في تجربة المسرح العربي تتحول بالمعرفة الجديدة إلى ممارسة جديدة، جعلت نص المؤلف يخضع لتوجهات بديلة عما كان سائدًا من قبل، مكّنت الإخراج المسرحي من تملك المعرفة بنظريات الإخراج الجديد الذي عرفه الغرب، فظهرت آثار مفاهيم وتصورات هذه النظريات بادية في العديد من العروض المسرحية العربية، التي لم تعد تحتفي بنص المؤلف فقط، بل صار الاهتمام واضحًا في التعامل مع الفضاء الفارغ لتأثيثه بجمالية صور فنية تأخذ بالألباب؛ ليصير العرض متعة بصرية لافتة تدهش المتلقي بالصور، والرموز، وبلاغة الجسد، والغناء وكأن العرض المسرحي العربي صار يراهن على المسرح الشامل بعد أن تغير مفهوم هذا المسرح نتيجة تعدد مستويات التجريب المسرحي.
تغير المسرح واتجاهات التجريب المسرحي
بهذا التغيير صار هذا المسرح يتصف بتعدد اتجاهاته في التجريب المسرحي، وصار كل اتجاه يكتب تاريخه الخاص برؤية تراجيدية لعالم عنيف، ظلت حقيقته حاضرة في صورة هذا المسرح المثقف الذي يراهن على تحقيق تواصل مع المتلقي ليؤثر فيه آخذًا في الحسبان المعطيات الواقعية للقضايا العربية التي يقوم ببلورتها في مضمون الكتابة المسرحية؛ لهذا فالوقوف على هذه القيم يعني أن هذا المسرح كان سياسيًّا له جدله الخاص مع العديد من القضايا الساخنة من بينها:
– التزام عدد من كتاب المسرح باختيار تجليات التوتر المتحكم في الزمن العربي، فعملوا على تسييس الخطاب المسرحي اعتمادًا على كل المفارقات والنزاعات التي تحول دون تقدم المجتمع وتطوره، فظلت كتاباتهم محددة بغايات نقدية تُبرز خلل الواقع؛ أحيانًا تكون الكتابة كوميديا سوداء ساخرة تصل إلى مستوى الغروتيسك المُحَمَّل بكل معاني السخرية، وأحيانًا أخرى تكون الكتابة تراجيدية، ملحمية، عبثية، كلها تستمد أبعادها المتخيَّلة من قسوة الواقع المعطى الذي تَحَوَّلَ إلى كتابة درامية حافلة بقسوة الواقع.
– أهم الخطابات السياسية المضمرة في رحم هذه الرؤية التراجيدية التي تقدمها العديد من الكتابات المسرحية تبوح بأمل إرساء قواعد مجتمع مديني ديمقراطي يشعر فيه المواطن بأنه يعيش منسجمًا مع القيم والمبادئ التي تصون كرامته وأنفة حياته بعيدًا من كل مهانة وحقارة تصنعها الدكتاتوريات في العديد من المجتمعات.
قضايا الكتابة المسرحية العربية جزء لا يتجزأ من توجُّه ثقافي وفني، وفكري، واجتماعي عربي يكمل مشروع المسرح العربي بوجود تقاطعات بين الكتابة المسرحية والتنظير المسرحي، وتلقي ما تجود به الإبداعات المسرحية العربية من جديد في البنية، والدلالات، والرؤى، والاختلاف، والجرأة، والخوف من الجرأة بسبب الرقابة، وهذا ما يجعل العديد من المفاهيم تتحكم في الإنتاجية المسرحية وفق السياق، ووفق قبول بعضها، أو رفضها، أو تعديلها بما يناسب السياق الثقافي المسرحي العربي، وهذا يدل على أن أزمنة المسرح العربي كانت تنتج معرفتها بهوية ما تنتجه في النص المسرحي، أو الإخراج أو النقد، أو تلقي المسرح.
إن مفاهيم مثل الأصالة والتأصيل، وطروحات المعاصرة، والدعوة إلى تبني الحداثة، والتحريض على قبول الجدل حول هذه الحداثة وما بعد الحداثة، وتوجيه النقاش نحو الدراما وما بعد الدراما كلها مفاهيم صارت تقبض على فعل الكتابة بما يلائم الإكراهات الجديدة التي تعيشها المجتمعات العربية، وهي تبحث عن مواقع تصون سيادتها، وجاهها، ورفعتها، وهذا ما يشارك في دعمه الفكر الحداثي، والسؤال الفلسفي، وكل الأنواع الأدبية والفنية التي تروم برؤيتها لعالمها الوقوفَ أمام كل استكانة، وانحطاط، وخضوع لكل تبعية تُقزم العالم العربي وتلحقه بعولمة احتكارية تسعى إلى محو كل مظاهر اليقظة في الوطن العربي. في هذا المساق ينطرح السؤال الآتي: بهذه المفاهيم، هل يمكن الكلام عن وجود مسرح عربي؟
بكل تأكيد، إن المسرح العربي الموجودَ بكل أشكال وجوده المتباينة بنيةً ودلالةً، وممارسةً موجودٌ بتعدد مستويات حضوره المختلف، فهو الكائن بصفاته، وهو الرائج بخطاباته المتطلعة إلى وجود حقيقي يبقى فيه كائنًا بأصالة تتكلم بهوية متطورة في الزمان والمكان ليبقى ظاهرة ثقافية لها موقعها في دائرة الصراع الثقافي.
في هذا التعدد هناك مسرح يجد الظرفية السياسية مرنة تساعده على التحرك بعد ضمان حرية التعبير، وهناك مسرح يتحرك في الهوامش المسموح بها للتحرك، لكن هذا المسرح سيظل ظاهرة ثقافية بامتياز لأنه ذاكرة الشعوب، وذاكرة الحياة، وذاكرة الثقافة المحلية، والعالمية، إنه مسرح مشارك في بناء الوعي الممكن، والجمال الممكن، والحوار الحضاري الممكن، وهذا ما يسعى إلى توكيده اعتمادًا على تبني اختيارات يريد بها أن يكون صوت من لا صوت له، ويكون صوتًا معارضًا لكل من يتحايل بالمسرح على تكريس الخلل في التفكير والوعي، وهذا هو دور المسرح العربي المفكر الذي يسعى إلى فهم كل المفارقات التي يعيشها المجتمع العربي أمام تحديات العصر.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق