المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

المسرح في اشتباكه مع السياسي وأحوال المدينة العربية

خشبة خلاص واحدة أو منصة إعدام جماعية!

بواسطة | يناير 1, 2020 | الملف

ينوء المسرح العربي اليوم بحمولات سياسية عديدة، تضع فَنَّانِيهِ أمام مسؤوليات متجددة في قراءة أحوال المدينة العربية التي تشهد اليوم موجة جديدة من الغضب، متطلعة نحو غد أكثر عدالة وكرامة. من هنا تبدو منصة المسرح وجهًا لوجه مع منصات السياسة التي تتكاثر كالفطر تحت ذريعة الحوار السياسي بين الأفرقاء، لكن ماذا بمقدور المسرح أن يفعل إزاء كل هذا الطوفان من الغاضبين والحالمين بأوطان توفر لهم العيش الكريم..

من هنا يبدو الفن المسرحي أهم مساحة لثقافة الحوار، ولتأسيس حلم المدينة لا باعتبارها أسواقًا ومجمعات تجارية، بل باعتبارها نموذجًا إنسانيًّا فريدًا للاشتباك مع الهم السياسي والاجتماعي، والتعبير بوضوح وجرأة ودونما مواربة عن هواجس وهموم عشرات الآلاف من البشر المسحوقين بسياط السياسة ومتاهاتها العجائبية.

«الفيصل» استمزجت آراء بعض المخرجين المسرحيين:

ندى حمصي: المسرح غريب عن محيطه العربي

في المجتمعات العربية؟ دعني أتحدث عن المجتمع السوري، لم يكن رواد المسرح السوري سوى تلك القلة من المثقفين والفنانين الذين حاولوا أن يقودوا المجتمع باتجاه ثقافاتهم هم؛ ولكن المجتمع السوري مجتمع تقع فيه قوى متناقضة ومرهقة؛ وفوق كل ذلك؛ فإن خيبات من تحقيق العدالة -سواء العدالة الداخلية أو العالمية- جعلت الإنسان السوري يتقهقر باتجاه التدين بأمل أن ينقذه الله وأن يكون لعذابه معنى. الإنسان العربي عمومًا لا يضع المسرح أو الفن في أجندته، والفرد في سوريا يتابع ما تمليه عليه الدولة؛ وما يتلاقى مع برنامج العائلة ككل، فتراه كان يتابع فيما مضى بنشاط معرض دمشق الدولي ومهرجان بصرى؛ فهنا يمكن له أن يذهب ويأكل ويتحدث وتتحرك مشاعره وغرائزه من دون أي جهد فكري أو تحليلي، ولكنه لا يتابع مهرجان المسرح العربي أو مهرجان السينما العالمية؛ لأن هذه المتابعات ليست بالضرورة ممتعة له؛ فهي متابعات ثقافية تتطلب الصمت والصبر والمتابعة والتحليل والشعور بالقلب والتفكير بالرأس؛ وهذه مهمات مرهقة وفوقها لا تستطيع أخذ الأطفال وأكل الساندويتش والثرثرة، وهو ما يجعل هذه الأنشطة الثقافية بحلتها الاستعلائية أثقل دمًا، أضف إلى ذلك أن هذه المتابعة ستضيع جهدًا ووقتًا ومالًا عليها!

الثقافة بقالبها الذي تقدم فيه في سوريا غير موجودة أصلًا في برنامج الإنسان العادي؛ مثلما توجد النشاطات الدينية في برنامجه؛ ومثلما يوجد المسلسل التليفزيوني مثلًا. الكثير من الناس لا يعرفون أصلًا ما هو المسرح؛ وكثيرون جدًّا ومنهم يقع على رأس سلطة آمرة يظنون أن الفنان المسرحي إنسان نطاط مخبول يستمتع بالتمثيل كالأطفال.

لطالما سمعتُ عبارة «أنا أساعدك» حين كنت أجهِّز لعمل فني، كانوا يساعدونني، وأحدًا منهم لم يخطر له أن هذا ليس بمشروع لمتعتي الشخصية؛ وإنما أنا أسخّر نفسي وخبرتي التي اكتسبتها بجهد من أجل مشروع فني. بصراحة لا.. لا أعتقد أن المسرح يمكن أن يغير ويخلخل، إلا إذا صاحبته رؤية جادة من الجهات الرسمية؛ بحيث ندرّب أطفال المدارس على احترام الفن وعلى ضرورته في الحياة البشرية والحضارية للمجتمع، لهذا يبدو لي المسرح السوري والعربي عمومًا غريبًا عن محيطه، حتى في أكثر عروضه جرأة وتناولًا للشأن السياسي، ما زلنا نحبو!

سرعان ما ربّيتُ سمعةً طيبةً كمسرحية سورية؛ وأصبحتُ جزءًا من الوسط المسرحي في «أونتاريو» حيث أقيم اليوم طورت علاقة المسرح بالسياسي، وخصوصًا بعد ثلاثة أعمال قدمتها في هذا السياق؛ الأول والثاني كانا من إنتاج «تجمع الثقافات المتعددة»، وهما «آخر خمسة عشرة ثانية»، و«الجسد رقم 13»، العمل الأول تناول موضوعة الإرهاب في حادث تفجيرات عمان ومقتل مصطفى العقاد وابنته ريما عام 2005م. أما العمل الثاني فتناول موضوع القابلية للتغير واكتساب الحياة الجديدة والحب عبر الاختلاف؛ ولا سيما ما يخص المهاجرين إلى كندا، في حين كان عرضي الثالث هو «سلطان باشا» وهو عملٌ كتبته وقدمته باللغة الإنجليزية وترك أثرًا لدى الناس حيث أعيش. أقول في نهاية هذا العرض بعد أن أترك شخصية (زوجة السلطان) ذكرتُ كل تلك التفاصيل لكي أبين ماذا أريد أن أقول للجمهور الذي هو الآن جمهوري، تلك هي مسؤوليتي في المسرح، أن أُوصِلَ رسالة حيثما حط بي المسرح. كنتُ دائما أقول: إن المسرح نبوءة صغيرة، وإن الفنان نبيٌّ صغير!

ممثلة ومخرجة مسرحية سورية

شريف خازندار: ضرورة الفن المسرحي

علاقتي مع المسرح لم تتوقف بل استخدمت هذا الفن كأداة للتجربة والبحث عن أصالة الهوية، حيث أخرجت مع الراحل «علي بن عياد» مسرحية «لعبة كراكوز» عن نص الكاتبة اللبنانية- المصرية «أندريه شديد» محاولًا نقل الكراكوز من الدمية إلى الشخصية المسرحية، وبعدها ليقدم مسرحيته «الحلاج 1984» عن نص عز الدين المدني على مسارح تونس وفرنسا، محاولًا هذه المرة أن أشتغل على المسرح الغنائي الملحمي.

ظللت منكبًا على مشروعي بالبحث في ذاتية شعوب العالم، في حين غبت تقريبًا عن المسرح لصالح عالميته التي استقيتها من محليات مختلفة من شمال العالم وغربه إلى جنوبه وشرقه، إلا أنني بقيت مسكونًا بعشقي الأول، منافحًا عن ضرورة الفن المسرحي وعن أصالة هذا الفن في تاريخ العرب في وجه كل المقولات التي تمضي إلى اعتبار العرب أمة ليس لها مسرح.. لا يمكننا أن نقول: إنه لم يكن هناك مسرح عربي، فمفهوم كلمة المسرح اليوم تعني بالضرورة -ولا سيما في الأوساط الثقافية- الخشبة المسرحية وفق النموذج الغربي، أو ما يمكننا تسميته العلبة الإيطالية أو الإطار، وأنا لا أوافق على ذلك، فكل شعب لديه نوع من المشهدية، وأفضل هنا أن أتكلم عن المشهديات لا عن المسرح.

كلامي سيصب في مشروع آخر بدأته منذ خمسة عشر عامًا في معهد ثقافات العالم بباريس الذي كنت أديره لسنوات، فبالتعاون مع جامعة باريس الثامنة أحدثتُ قسمًا خاصًّا في المعهد لدراسة ما يعرف بـ(الإثنوسينولوجيا) أو علم الدراسات المشهدية؛ إذ يجب على كل ثقافة أن تستمد مسرحها من مراجعها الخاصة، من مشهدها الفريد.. كما في مسرح النو الياباني، أو الكاثاكالي الهندي وغيرها، ونحن أيضًا يجب أن نبحث في مراجعنا التي يعتبر الشعر العربي من أهمها؛ خذ مثلًا جلسات سلاطين الطرب الحلبي، والحضرة الصوفية، والدراويش، والمولوية، وأمسية شعرية يستمع فيها الجمهور لأدونيس مثلًا.. أليس كل هذا مشهديات مسرحية يجب أن نأخذها بعين الاعتبار..؟

الحكواتي في المغرب يكون في وسط حلقة من المشاهدين، أليس هذا مسرحًا دائريًّا؟ الحكواتي الدمشقي في مقهى النوفرة أيضًا يأخذ هذا الشكل، حتى في الغرب هناك اليوم رغبة في الخروج من هذا الشكل السياسي المباشر للمسرح، فلكل ظاهرة مكانها ومرجعيتها، خذ مثلًا بقايا المسارح الحجرية في سوريا التي تدل على المسرح المستدير؛ المسرح في قلب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمدينة؛ لذلك أرفض أن تكون بدايات المسرح العربي بمارون النقاش الذي دخلت معه المشهدية الأوربية إلى المسرح العربي، فالمشهدية الأوربية شيء موجود، ويجب أن نستخدمه، لكننا يجب أن ننتبه إلى أنواع أخرى من المسرح وهي موجودة لدينا، أنواع قادرة على قراءة ما يحدث بعين مختلفة وأكثر دقة، وعدم التهور في الانزلاق إلى المفردات السياسية المباشرة، فهذا ما سيفسد المسرح والفن جميعًا.

مشروعي في الإثنوسينولوجيا لاقى قبولًا في المكسيك والبرازيل والهند، فبدأت عبر هذا النوع من الأبحاث تحقيق نتائج واكتشافات مهمة في مشهديات الشعوب، من حيث خصوصيتها وفرادتها الثقافية. في سوريا لا يوجد اهتمام بهذا النوع من البحوث، على حد علمي يوجد في الجامعة اليسوعية بلبنان اهتمام أكبر، المطلوب من المعهد المسرحي في سوريا الاهتمام بالإثنوسينولوجيا، وهذا أمر لا أستطيع القيام به بمفردي!

مخرج فرنسي من أصل سوري.

غسان مسعود: مسرح ينشأ مع الأزمة

هناك نوعان من المسرح أفكر فيهما اليوم؛ الأول هو مسرح ينشأ مع الأزمة، من الحرب، حيث أراقب بعض أقلام الشباب والشابات الصغار؛ وهم يكتبون أشياء لافتة للغاية؛  وقد تكون رؤية لأدب مسرحي عن سوريا في هذه المرحلة، هو مسرح أعتقد أنه يقترب من مسرح الحرب الأهلية بلبنان التي أنتجت تجربة مسرح زياد الرحباني كظاهرة فنية في المجتمع اللبناني- الحرب الأهلية، وكيف قرأ زياد الحرب في وطنه؛ أعتقد أن هناك خطًّا في هذا الاتجاه، وبتُّ أتلمسه اليوم وأقرأ منه ولا أريد أن أذكر اسم من يكتبه اليوم، لكنني دعني أقول: إنني متفائل به جدًّا؛ فالأزمة سيولد من رحمها نصوص وعروض مسرحية جديدة ومفارقة لكل ما قدم في الريبرتوار السوري المعاصر، وهذا أمر طبيعي في تجارب الشعوب التي تخوض حروبًا، وإن لم يكن هكذا فعلينا أن نخلقه؛ هذا تجلي طبيعي للحرب السورية التي أعتقد أنها ستفرز مسرحها وأدبها وشعرها وفنها التشكيلي. طبعًا لا أعني إطلاقًا ما يشتغل اليوم، فما يشتغل اليوم هو فن دعائي رخيص بالنسبة لي؛ سواءٌ كان مع أو ضد، هو فن لا يعنيني ولا أحترمه، فهناك قاعدة في الإبداع المسرحي تقول التالي: لا تستطيع أن تضع قانونًا للتجربة وأنت تخوضها، أو تضع منهجًا لها، فالتجربة هي التجربة؛ هي لقاء بين العقل والعاطفة، هي اختلاط وتلاقح غريب عجيب بين الجانب الوحشي الغريزي في الدماغ الإنساني، وبين جانب الوعي العقلي؛ كي تنتج ناتجًا يراه المواطن العادي والمثقف في آنٍ معًا؛ وليأتي النقاد ليقرظوه ويحكوا عنه ومن ثم لتبدأ قوننة هذه التجربة لنظرية قادمة تستفيد منها الأجيال في قادم الأيام، وهذا ما حدث في تاريخ المسرح، وبناءً على هذه القاعدة التي أفهمها في الفن قمتُ بتعليم ذلك لطلابي في معهد التمثيل، واشتغلتُ معهم على أساسها عشرات العروض المسرحية، أما أن نعمد على الفور لتقديم عروض مسرحية عن المأساة التي نحياها فهذا أظنه ما زال مبكرًا؛ أعتقد أن تجربتنا المريرة اليوم في سوريا لا يحكى عنها بهذه البساطة وبهذه الخفة؛ وبهذه اللغة الدعائية السمجة؛ علينا أن ننتظر لكي نرى ماذا ستفرز هذه الأزمة كي يكون ما نقدمه فنًّا مسؤولًا وإبداعًا راقيًا؛ لا أن يكون دعائيًّا لأجل الجيب مثلًا؛ وقليل من كلمة «برافو» من هذا الجمهور وذاك الجمهور! سواء كان جمهور الموالاة أو جمهور المعارضة؛ المسائل ليست كذلك، ولهذا السبب الذي يقدم اليوم عروضًا لا يعنيني، وغير مهتم به؛ ولا أشتغله؛ لكنه يمكن ملاحظة بعض الأصوات أو بعض الأقلام التي تنضج اليوم؛ والتي ستكون في تناولها لما حدث في سوريا أكثر وعيًا وعمقًا من كل الارتجالات التي نراها في الصحف أو المسارح أو التليفزيونات هذه الأيام؛ وهذه هي فنون المرحلة السوداء في تاريخ سوريا في السنة التاسعة من عمر هذه الحرب الملعونة.

مخرج وممثل مسرحي سوري.

موسى أسود: حصانة فكرية وجمالية تنويرية

بالتحليل التاريخي أعتقد جازمًا أن المسرح في سوريا خاصة، وفي العالم العربي عامةً؛ لم يؤسس بعد لعلاقة عضوية مع المتلقي؛ بمعنى آخر أنه كان حالة شكلانية أكثر منه حالة بنيوية، فلقد كان المسرح على مرِّ سنوات طوال تمظهرًا لحضور دون فاعلية في فلسفة المعرفة المسرحية، فالمسرح التجريبي أحبط المسرح السوري، ناهيك عن الحركة النقدية التي لم تجد لها فسحةً للتعبير عن مقولتها بما في ذلك تدمير الحياة المسرحية، فعلى سبيل المثال نحن اليوم في سوريا بحاجة إلى عشرات عروض الأطفال أكثر منها عروضًا للراشدين؛ إذ إننا أمام كارثة وطنية كبرى؛ فالحرب ستترك آثامها وآثارها التدميرية على جيل بأكمله، طبعًا ليس المسرح التفاعلي الذي نريد؛ فذاك كان من أسخف المشاريع التي طُرحت؛ لكونه تجربة استجلابية، تجربة لا تنم عن حالة عضوية بالعلاقة مع الطفل السوري؛ بل حالة شكلانية كرّست عشرات الأسماء التي تنتمي إلى المشروع التدميري؛ وهناك إشارات استفهام كثيرة على الذين كانوا قائمين عليه وقتذاك.

أجل.. سعد الله ونوس استقى مفاهيمه عن المسرح السياسي من المسرحي الفرنسي (جان فيلار)، والمسرح الفرنسي كما يعرف الجميع له تقاليد، حيث أراد ونوس أن يشاغب معرفيًّا بالعلاقة مع المتلقي، لكنني أعتقد جازمًا أن «ونوس» قد فهم عميقًا الدراما في مرحلةٍ متأخرة من حياته؛ خصوصًا علاقة هذه الدراما بالإشكاليات العضوية التي تمس المجتمع. التأسيس كان في الكم؛ فإلقاء المصطلحات على أي ظاهرة مسرحية هي جديرة بالدراسات الأكاديمية والدراسات الاجتماعية والأيديولوجية؛ بمعنى آخر لا يمكن للثقافي أن ينفصل عن حركة التاريخ في أي مجتمع؛ فإذا انفصل عنه، سيكون حالة تجميلية وليس حالة عضوية بالمعنى المعرفي؛ لذلك وقعنا في إشكالية فيما يخص تأسيس علاقة مع المتلقي بالفنون عامة وفي المسرح خاصةً.

هذه ليست إشكالية الجمهور؛ بل إشكالية المؤسسات على المستويين الأيديولوجي الخاص بالمعرفة، وعلى مستوى النسق المعرفي الخاص بالمثقف الأكاديمي، ومن ثم المثقف العضوي بالمعنى الغرامشي، أي المثقف الذي ينتمي إلى إشكاليات المجتمع، وبالتالي المثقف عندما ينفصل عن اللحظة العضوية فيما يخص المجتمع يصبح شكلانيًّا، ويذهب في اتجاه ثقافة الاستجلاب لظاهرة الفن، بدلًا أن يكون واعيًا لمضمونها وقيمها الأخلاقية والتنويرية. لقد كان هناك في سوريا طبقة وسطى، لو أنها مُنحت الفرصة لصنعت من سوريا بلدًا أقرب إلى العالم الأوربي المعاصر، لكن هذه الطبقة لم تُمنح حقها، فالطبقة الوسطى السورية هي من أهم الطبقات الوسطى في العالم العربي؛ بل تتجاوز الطبقة الوسطى في مصر، وهذه الطبقة الوسطى ستكون الخلية الكبرى لحل الأزمات التي تَحِيقُ اليوم بالوطن السوري، وهي المناطة بإعادة تكريس مفهوم الدولة؛ لكونها اليوم هي من يدفع الثمن.

عندما لا يفقه الفنان المسرحي العالم؛ لا يفقه الكون، لا يفقه الإشكاليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لن يستطيع أن يفقه الآخر بمشاريعه التدميرية، وأقصد هنا بالآخر هو هذا الوافد من هذا العالم الكوني المدجج بفلسفة الصناعة والحضارة المتسارعة، بالتأكيد المثقف المسرحي لن يستطيع أن ينتج أنساقًا فنية مقاومة؛ ولا أعني المقاومة هنا بالمعنى الأيديولوجي البحت، وإنما بالمعنى العضوي الذي يجعلنا ننتمي كمثقفين ومسرحيين إلى حصانةٍ فكرية وجمالية تنويرية.

ناقد ومخرج سوري.

سامر عمران: صياغة اليومي برؤية جديدة

الوصول إلى الحوار يأتي من ضرورة الحديث عن هموم الناس، عن آلامهم وآمالهم، وهذا ما يحققه المسرح لكونه ظاهرة اجتماعية قبل كل شيء، ظاهرة تدفع الناس نحو الاجتماع الذي يجعلك تبوح لي وأبوح لك، فالفنان على الخشبة يعيد صياغة هذا اليومي برؤية جديدة، ومشاركته مع الآخر هنا هي مشاركة كل هواجسه، فالألم المشترك يجمعنا كسوريين مثله مثل الحب؛ لذلك عندما نصنع طقسًا جماعيًّا في المسرح بحرفية وصدق ومن دون فزلكات وفبركات، سنصل إلى تطهير أرواحنا من البغضاء العمومية، فالمسرح لم يكن في يوم من الأيام أيديولوجيا ولا سياسة، الفن عمومًا عندما يكون أيديولوجيًّا سيبتعد من الحوار، المسرح هو رؤية للعالم وتكثيف للواقع، لقد مضت حقبة طويلة أغرقنا فيها المسرح بالأيديولوجيا، ولا يمكن اليوم الاستمرار في عدم إنتاج عروض تشارك فيها الناس همومهم لخلق حالة من الحوار، حيث يجب على الفنان أن يبحث دومًا عن لغة مشتركة بينه وبين الجمهور، عن طقس مشترك يستفيد فيه من كل طقوس الحب والموت التي يحفل بها مجتمعنا السوري، كل هذا يخلق حالة اجتماعية وصلة مع الآخر، فكثير من الأحيان تكتشف أن هناك هُوَّةً مختلفة بيننا وبين الآخرين، فلا أحد يعرف الآخر كما يجب، بل لديه أفكار مسبقة عنه، وعند سؤال الطرف الآخر والجلوس إليه نكتشف أننا لسنا مختلفين، لكننا لا نتكلم بعضنا مع بعض، فيظل كل واحدٍ منا يحمل وجهة نظر عن الآخر، وعمومًا تكون المشكلة في عمقها اجتماعية، وهنا تبرز أهمية الفن، وخصوصًا المسرح الذي يمتلك قدرةً على صناعة العيد، فنحن كسوريين من المعيب علينا في مجتمع قدم للبشرية أول أبجدية في التاريخ ألَّا يكون لدينا القدرة على إيجاد طقس من الحوار المشترك، وبخاصة في المسرح، شريطة أن تمتلك أدواتك الإبداعية كفنان من عمق فكري وحساسية عالية وثراء نفسي، وامتلاك لتقنيات قادرة على نقل هذه المشاعر وتساعدها على الظهور بشكلها احترافيٍّ راقٍ.

المسرح وسواه من الفنون في رأيي الشخصي أكثر قربًا من الناس في هذا الظرف الذي نعيشه اليوم، فالطقس الإنساني أكثر قدرةً على خلق حوار مع الآخر أكثر من الأيديولوجيا، ولا سيما أن حياتنا اقتربت من شكل «علك أيديولوجي» يتدفق علينا يوميًّا وعلى مدار اللحظة من عشرات الفضائيات عبر جهابذة التاريخ وجهابذة رؤيا المستقبل والتنجيم السياسي والاستجمام الأيديولوجي، فنحن بحاجة إلى صياغة طقس بعيد كل هذا الطنين، صياغة مشهد أشترك فيه مع الآخر المختلف معي في التفاصيل، ومتفق معي على سوريا الوطن والدولة والمؤسسات، وهي هنا تشبه صناعة مشهد أشترك فيه مع الآخر بصناعة رغيف خبز من طحينٍ نعجنه معًا، مثلما تحصد قمحه من الحقول السورية، وهذا في رأيي أهم من كل الدروس الأيديولوجية.

مخرج مسرحي سوري.

المنشورات ذات الصلة

صناعة النخب في الوطن العربي

صناعة النخب في الوطن العربي

صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *