كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الصحافة الورقية وموت السياسة
يمكن القول: إن عهد الصحافة الورقية موشك عندنا، كما في بقية العالم، على الغياب. وفيما يخصنا فإن الصحافة الإلكترونية غير مجهزة لتحلّ محلّها. إذا كانت المسألة بالدرجة الأولى مسألة تمويل. والحال أن الصحافة الإلكترونية غير قادرة على أن تفعل شيئًا في هذا السبيل. إنها تقلل الخسارة لكنها لا تحول دونها. إذا كانت الصحافة الورقية خاسرة بمعنى أن عائدها لا يساوي كلفتها ونفقاتها، فإن الصحافة الإلكترونية خاسرة من حيث المبدأ على الإطلاق؛ ذلك لأنها مجانية ولا تباع في بلادنا ولا تتلقى نسبة كافية من الإعلانات لأسباب تحتاج إلى تمحيص.
الحال ليست كذلك في الغرب. صحيفة اللوموند، مثلًا، لا تنشر في طبعتها الإلكترونية كل محتوياتها بل تجتزئ من المقال جانبًا، وتوصي من يريد إكماله بشراء العدد كله.
ما يمكن قوله: إن الصحافة الورقية في الغرب أكملت طورها الورقي، وتستعد للانتقال إلى الطور الإلكتروني، والشروط لذلك موفورة، والسبل مفتوحة.
ليست الحال هكذا عندنا. الصحافة الورقية لم تكمل طورها، وشروط الانتقال إلى الطور الإلكتروني ليست تامة، والأرجح أننا بين عهد لم يكتمل، وعهد لم تتوافر أسبابه. لم ندخل بعد العصر الإلكتروني، أو أننا لا نزال على أطرافه وضواحيه، ولو توافر الحاسوب في أسواقنا، وانتشرت تقنيات الميديا الاجتماعية.
العصر الإلكتروني ليس لأمم لا تزال تعيش في العصر الورقي كما هي حال أممنا وشعوبنا. في مجتمعات لا تزال الأمية سارية فيها، ولا تزيد فيها نسبة القراءة عن بضعة أفراد في الألف، لا يمكن أن ننتقل بسهولة إلى عصر يستوجب القراءة المكثفة، كما يفترض فرديّة لا تتوافر في مجتمعات لا تزال تعيش علاقات قبلية ومذهبية ومناطقية وجهوية. الصحافة عندنا تعاني ذلك، فهي بين عهدين لا تستطيع أن تكون في أي منهما.
ذلك يعني موت الصحافة أو احتضارها الطويل الذي يعني في جملة ما، انتكاس عصر كانت الصحافة من مقوماته، كما يعني في جانب منه انتكاس السياسة التي كانت الصحافة عصبها ومسارها، كما يعني انصراف الدول والممولين كافة عن دعم الصحافة، الأمر الذي يؤدي إلى موتها، وموت السياسة معها. السياسة التي لم تبلغ بعد أشدّها، ولا تزال العلاقات الجهوية والعشائريّة تشدد عليها الخناق.
إنّ الكلام عن موت السياسة عندنا ليس كلامًا مجانيًّا. السياسة بوصفها اتفاقًا على مواقف ووجهات تتطلب مجتمعات للمصلحة وللاستقلال الفردي، وللتربية الديمقراطية أثر عميق في تكوينها.
هذا يتطلب تاريخًا ومسارات لم نعرفها. موت الصحافة قد يكون المقدمة الأولى، أو من المقدمات الأولى لموت هذه السياسة الجنينية التي تكافح لتقوم وتتصوّر خلقًا سويًّا.
أما في لبنان الذي كان في يوم من عواصم الصحافة العربية، فهنا فوق ذلك تفتت مجتمع هو مع ذلك مسيّس إلى أبعد درجة. الصحافة لا تعني كثيرًا لطوائف وجماعات منخرطة بجميع أفرادها فيما يسبق السياسة، وفيما يجعلها مسبوقة باستمرار. هكذا تصنع الجماعات بكل أفرادها الأحداث وتفسرها قبل أن تصل إلى الصحف. هكذا تتضاءل الحاجة للصحافة يومًا بعد يوم، فرؤساء الجماعات والجماعات نفسها في معركة دائمة، ولا حاجة للاستفسار عنها وقراءتها في صحيفة.
المنشورات ذات الصلة
أنا مكان.. إنها تمطر فوق سانتياغو
«لاغونا ميسكانتي» هي أهمُّ البحيرات في أعالي جبال الأنديز، وأكثرها بَداعة. وهي تقع على ارتفاع ٤٣٠٠ متر فوق سطح البحر....
نكتب شعرًا كي لا نفنى
نتحدث في حياتنا اليومية كي نقضي حاجاتنا فتنقضي تلك الحاجات غير أن كلامنا تذهب به الريح، يتطاير كما يتطاير الرماد، يفنى...
الفلسفة والترجمة: البقايا المنفلتة من كل رقابة شعورية
لنبدأ بهذا السؤال: هل يمكن تصور كتاب في الفلسفة، مهما كانت لغته، لا يتضمن كلمات أجنبية؟ لا أعتقد أن الجواب عسير؛ إذ...
لكل زمان مضى اية واية هذا الزمان الصحف
غازي خيران الملحم
“بين عهد لم يكتمل وعهد لم تتوافر أسبابه”
أنها الفوضى الخلاّقة ..