كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
رحيل أولاد أحمد نهاية «حالة» استثنائية في المشهد الأدبي التونسي
ترك رحيل الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد الذي وافته المنية يوم الثلاثاء 5 إبريل الماضي، في المستشفى العسكري بالعاصمة تونس بعد صراع مع مرض عضال- أثرًا كبيرًا في نفوس محبيه. فقد كان أولاد أحمد -هكذا يناديه التونسيون- شاعرًا متميزًا بشهادة النقاد، وشخصية معروفة ولها شعبية كبيرة. وأولاد أحمد من الأسماء القليلة في تونس التي أشعّت في عالم الأدب، وتمكنت من تحقيق نوع من الإجماع حولها؛ إذ يقر خصومه قبل أصدقائه بأنه «حالة» استثنائية في المشهد الأدبي وفي الساحة الثقافية عمومًا في تونس. كلماته تنفذ إلى أعماق التونسيين، وروحه خفيفة عليهم حتى ولو كان نقده لاذعًا، وسخريته قاسية أحيانًا. فهو يبقى العاشق لتونس والمسكون بحبها حتى إنه قبل سويعات من رحيله كتب وهو على فراش المرض:
وقلت أكونها وقلتُ
شعرًا
ونثرًا ناقدًا
ومبشرًا
طول الفصول الأربعة
أنثى
وأمي
ليس لي… قبر
في الما -بعد- (في الأخرى)
سوى هذي الحروف الأربعة.
لعلنا نشير إلى أنه نادرًا ما فاز شاعر في تونس، إذا ما استثنينا الشاعر المنصف المزغني في فترة ما في مسيرته بقدر واسع من الشهرة، واستطاع أن ينافس نجوم الفن والرياضة في شهرتهم وشعبيتهم مثلما فعل أولاد أحمد. وقد كان موكب تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير في مقبرة الزلاج بالعاصمة دليلًا على ما يتمتع به الراحل من شعبية وعلى مكانته الاعتبارية؛ إذ شيّعته جموع غفيرة كما حضرت الموكب شخصيات سياسية عديدة مثلت جميع الأطياف تقريبًا، وحضر رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي موكب الجنازة، وانتقل إلى بيته لتقديم التعازي لأسرته، وواكبت مختلف وسائل الإعلام الوطنية حدث رحيل شاعر تونس –هكذا يلقب- باهتمام واسع.
شاعر تتكسر على بابه الحواجز
ولئن كان أولاد أحمد ينسب إلى اليسار التونسي، فإنه تحول رويدًا رويدًا على امتداد تجربة برزت منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى شخصية تتكسر على بابها الحواجز والتصنيفات والانتماءات. كثيرون في تونس يلتقون عند ذلك الشاعر المتمرد الذي عثر على الوصفة السحرية للوصول إلى قلوب الآلاف من القراء، وكثيرون يجدون فيه المعبّر عن شيء من ذاتهم. وقد ضرب العديد من الوجوه السياسية والثقافية والإعلامية على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها، والقيادات النقابية والحزبية في الفترة الأخيرة موعدًا عند أولاد أحمد، الذي كان قد أعلن بنفسه عن إصابته بمرض السرطان، عبر صفحته الخاصة على موقع الفيسبوك منذ نحو سنة. كان الملتقى إما في بيته أو في المستشفى العسكري حيث كان يتلقى العلاج. وأغلبهم كانوا يتباهون بلقائه، ويحرصون على نشر صورهم بصحبة الشاعر في مواقع التواصل الاجتماعي.
وإذا ما أردنا تقديم فكرة واضحة عن خصوصية التجربة الإبداعية للصغير أولاد أحمد، فإننا نقول: إنه وإن لم يتخل عن شعر التفعيلة فإنه اختار أن يكون ذلك الشاعر الغاضب والمتمرد والثائر. كلماته عبارة عن حمم من نار وسخريته سلاح فتاك… كان لصيقًا جدًّا بقضايا التونسيين يعبر عن همومهم وعن أحلامهم وآمالهم، وقد تحدث الأكاديمي والشاعر المعروف المنصف الوهايبي عن أولاد أحمد، قائلًا: «الآن أقول هو شاعر شجن معقود على نفسه حتى الضنى، ولغة لا تتحالف إلا مع نفسها، ولكنّها تأخذ من الأشياء وتتورّط فيها، ولا تميّز بين «الأنا» و«الهو» في تراسل أو تجاوب بين العالم والذات، بين الداخل والخارج؛ كما لو أنّ كلّ الأشياء تتلاقى فيه. ربّما هي طريقة في أن نَرى في ذات الآن الذي نُرى فيه. شاعر يلحِم بالكلمات جرحًا لا يندمل، واعيًا أن الشعر تعويض عمّا لا يمكن تعويضه».
قائد الثورة الشعرية
صدرت للشاعر مجموعات شعرية وكتب نثرية، منها ما نشر قبل الثورة، ومنها ما نشر بعد الثورة التي منحته نفسًا جديدة، ودفعت به مجددًا نحو الصدارة حتى إنه ألف كتابًا نثريًّا بعنوان: «القيادة الشعرية للثورة» عام 2013م، جمع فيه نصوصه التي كتبها منذ أواخر سنة 2010م تاريخ اندلاع الشرارة الأولى للثورة بمحافظة سيدي بوزيد بالوسط التونسي. وقد أثار الكتاب الجدل في تونس، فالبعض لم يقبل فكرة أن ينصّب أولاد أحمد نفسه «قائدًا للثورة الشعرية»؛ لأن هناك شبه إجماع في تونس على أن الثورة لم يهيأ لها ثقافيًّا أو فكريًّا، وإنما هي فعل تلقائي شبابي بالأساس. لكن هذا لا ينفي عن الشاعر دوره الطلائعي في التعبير عن هموم التونسيين، وفي شحذ العزائم من أجل الوطن كلما مرّ البلد بمحنة أو خاض معارك مصيرية، فهو صاحب القصيدة الشهيرة «نحب البلاد» التي تحولت إلى ما يشبه النشيد الوطني، والتي قال فيها:
«نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد
صباحًا مساء
وقبل الصباح وبعد المساء
ويوم الأحد».
ينحدر الراحل أولاد أحمد من سيدي بوزيد (ولد سنة 1955م) وقد نشأ في بيئة فقيرة، وظهرت عليه النزعة الثائرة منذ بداية تجربته التي انطلقت في منتصف العشرينيات من عمره، واختار أن يكون شعره ونثره لسان حال الفئات الفقيرة والمهمشة التي تتوق إلى الحرية. عانى أولاد أحمد الفقر، باستثناء سنوات قليلة كان فيها موظفًا بوزارة الثقافة، وكذلك الفترة التي ترأس فيها بيت الشعر (من 1993 إلى 1997م) الذي ناضل من أجل بعثه, فإنه قضى فترة طويلة من حياته عاطلًا عن العمل. مقابل ذلك كان مطلوبًا في الأمسيات الشعرية وفي الملتقيات الثقافية داخل تونس وخارجها، وساهم بكتاباته في الصحافة التونسية.
صدرت أول مجموعة لأولاد أحمد سنة 1984م بعنوان: «نشيد الأيام الستة» وتواصلت المجموعات، من بينها: «ولكنني أحمد» (1989م)، و«ليس لي مشكلة» (1998م)، و«حالات الطريق» (2013م). وكان الشاعر الراحل ينوي نشر مجموعة جديدة من الكتب كان يشتغل عليها بكثافة مدة مرضه، لكن الموت وضع حدًّا لهذه التجربة الإبداعية، كما أن القدر لم يمهله إلى أن يبعث جمعيته «تونس الشاعرة»، وترك المشروع بين يدي مجموعة من صحبه.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق