كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
جورج طرابيشي.. أخرج «العربي» إلى رحاب الحداثة
لم يمت جورج طرابيشي في 16 آذار (مارس) الماضي، إنما قبل ذلك بأعوام حينما وجد نفسه لا يقوى على الكتابة، غير قادر على الإمساك بالقلم ليخط الفكرة تلو الأخرى. عدم القدرة على الكتابة، كأنما بدا له سقوطًا في سحيق معتم لا هوية له. في غياب إلحاح الكتابة، أضحى صاحب «شرق وغرب.. أنوثة ورجولة»، يعيش ما يشبه العدم، أصبح أقرب ما يكون إلى العجز، إلى الجسد الذي ينتظر خلاصه في أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهكذا كان في 16 من الشهر الماضي.
الكتابة نقدًا وتفكيرًا وتفلسفًا وترجمة وتدبيجًا لمقالة، هي كل حياة الراحل، حتى ألف ما يربو على المئة كتاب. تحولت حياته طوال العقود الماضية، إلى صحبة مع الكتابة، لا أحد يستطيع أن يفك اشتباكهما، ولا هناك من يقدر على التفريق بين أحدهما والآخر، كأننا أمام الصوت والصدى، الشيء وظله. من دون الكتابة لا يعثر صاحب «من النهضة إلى الردة» على نفسه قادرًا على التحديق في ملامحه قدام المرآة، كما لا يستطيع تأمل الواقع العربي وتحولاته التي حملت له في تباشيرها الأولى وعدًا بالتغيير، ببارقة أمل، إلا أنها سرعان ما ارتدت إليه لاحقًا أشبه بحراب مسمومة تطعن فيه حتى أنهكته جسديًّا ومعنويًّا.
أدرك صاحب «هرطقات» أن نأي الكتابة عنه هو الموت بعينه، «لكنه يبقى على كل حال موتًا صغيرًا على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن»، كما يقول. شلّت قواه خيبات الواقع العربي، وأنهكته مآلاته التراجيدية، هو الذي بقي يقارع الفكرة بالفكرة والنقد بالنقد، تارة يغوص في طبقات التراث العربي تأملًا وتأويلًا ونقدًا، وأخرى يهرع إلى التحليل النفسي، ترجمة واستئناسًا، مقدمًا كشوفًا سيكولوجية واجتماعية وتاريخية للعقد الكثيرة التي تكتنف «العربي» وواقعه المريض.
بكتبه وأبحاثه وترجماته، رغم الطعون التي وجهت إليها، بدا جورج طرابيشي مفكرًا متفردًا، مثقفًا من طراز فريد، لديه مفاهيمه ومعارفه ومصطلحاته ورؤاه التي تمكنه من إنجاز مهمة المفكر على أكمل وجه، ولا يعني ذلك بالطبع أن صنيعه الفكري في منأى عن الشك والخطأ، وبالتالي ليس عرضة للنقد، إنما على العكس كان يستدرج الاختلاف حول منجزه، يدفع في هذا الشكل أو ذاك، إلى أن يكون نتاجه الفكري والترجمي موضوعًا للنقد وإعادة النظر، ذلك أنه كرس هذا المنحى النقدي الجذري في المشروع الذي أنجزه، حتى تحول إلى إحدى السمات الأساسية فيه.
لم يؤشر متحوله الفكري وتنقله من محطة إلى أخرى، على غياب اليقين، أو تشوش في الرؤية، أو تخبط فكري، مقدار ما كان يعيش كنه المفكر، متماهيًا مع متطلباته، ومنها عدم الركون إلى فكرة أو مدرسة أو تيار، هو العابر للأفكار والمذاهب والأحزاب والأديان، إنما كان متعاليًا فوق كل ذلك، في تمثل خالص لأخلاق المفكر ودينامية الفكر وتحولاته.
يقول عنه صديقه وأحد مؤسسي رابطة العقلانيين العرب الكاتب عبد المطلب الهوني :« جورج طرابيشي مفكر مختلف عن الآخرين، بمعنى أنه خاض في مجالات كثيرة وكبيرة في مجال المعرفة. ترجم لفرويد، أي خاض في مجال التحليل النفسي، وهو ما عرفه به القارئ العربي، والتحليل النفسي مجال في غاية الأهمية، ثم إن الراحل ترجم تاريخ الفلسفة لإيميل برهييه، في أجزاء عدة».
ويضيف الهوني أن هذه المجالات المعرفية المختلفة التي خاض غمارها طرابيشي تأليفًا وترجمة، « تدل على موسوعية الرجل، وأنه أفنى عمره في محاولة إثراء المكتبة العربية وتعريف القارئ العربي بعيون الفكر العالمي. وهذا مبثوث في كل مؤلفاته، والراحل كان إلى جانب هذا كله، كوّن مع مجموعة من المهتمين: نصيف نصار، ومحمد أركون، ونصر أبو زيد، والعفيف الأخضر، وعبدالمجيد الشرفي، وصادق جلال العظم، وعزيز العظمة وأنا؛ المؤسسة العربية للتحديث الفكري، التي قامت بنشر وترجمة أعمال لا تستطيع الوزارات الثقافية أن تنشرها لجرأتها، ثم بعد ذلك قمت معه، وكان معنا أيضًا الدكتورة رجاء بن سلامة، وكوكبة أخرى، بإنشاء رابطة العقلانيين العرب، وبلغ عدد المؤلفات والمترجم فيها أكثر من مئة عنوان. وحدث أن جل هذا العمل فيما يتعلق بالترجمة ومراجعة الكتب ومتابعة النشر، ألقي على عاتق الراحل. فهذا ما يتعلق بالمجالات التي قام بها في حياته».
ويذكر الهوني أن الراحل حمل رسالة واضحة إلى القارئ العربي «في محاولة منه لإخراجه من قدامة المجتمعات والأستار المغلقة إلى رحاب الحداثة. كان لجورج طرابيشي مشروعه الخاص، الذي قام بالترجمة والتأليف فيه، واطلع على عيون المعرفة. كان همّ الراحل الأكبر، تبسيط المعرفة، فكان لنا برامج كبرى في هذا الإطار، وكنا نريد أن نبسط الفلسفة للأطفال، ولكن لم تكن لنا الإمكانات المادية، وهذا من الأشياء التي بقيت غصة في حلق الراحل».
ويسرد تفاصيل ما قبل الوفاة فيقول: «عندما رأى الراحل أن كل هذا السعي والنضال والكفاح من أجل أمته، يسقط أمام التعصب، أخذ يعاني آلامًا نفسية كبيرة. وأتذكر أن آخر مكالمة بينه وبين الإعلامي الفاضل تركي الدخيل، شجعه الأخير على الكتابة وعلى الخروج من الإحباط. الإشكالية التي كنا نعانيها، هي أننا رأينا ما بات يطلق عليه الربيع العربي أو الكارثة العربية، فالنخب المثقفة كانت تتوهم مجتمعات ليست هي المجتمعات التي كانت في الواقع. ونحن الذين حاربنا الأيديولوجيات وأنكرناها، رأينا أننا كنا نصنع لأعيننا نظارة نرى بها الواقع والتاريخ، وكنا نرى الواقع كما كنا نتمناه، وليس كما هو في الواقع. وعندما تهتك حجاب الحداثة الهشة رأينا مجتمعاتنا، فوجدناها مجتمعات قدامة بامتياز، لا تزال والغة في همجيتها، حتى إن المفاهيم التي كنا نعتقد أنها راسخة مثل التعايش، أصبحت لا أساس لها في الواقع.
سيتبقى الكثير من جورج طرابيشي بعد مماته، خصوصًا محاولته تحديث الدرس الإسلامي، بمعنى أن النسخة الرائجة من الإسلام هي نسخة القرن الثاني عشر الميلادي، وهذه النسخة فيها من التشدد الشيء الكثير، وإن إسلام الإمبراطورية لا يمكن أن يكون إسلام الدولة الحديثة، فقهاء الإسلام كانوا عظماء؛ لأن هؤلاء لا يفعلون شيئًا إلا محاولة تفسير الإسلام لخدمة المسلمين.
لم تكن توجد دول وطنية، إنما إمبراطوريات، وحتى تستطيع أن تحصن الإمبراطوريات لا بد من تحصينها من الداخل، بمقولات تخدم البشر الذين يعيشون في الإمبراطورية. وفي وجود الدولة الوطنية، لا يمكن للفقه الإمبراطوري أن يوفي باحتياجات الإنسان المسلم. لذلك ما يبقى من جورج طرابيشي هو هذا السبيل الذي بدأه ويريد له الاكتمال، هذا الطريق الذي ولجه ولا يزال طويلًا، ويريد أجيالًا من الفقهاء الجدد، ومن المفكرين من المسلمين العرب».
ويلفت الهوني إلى أنه حتى نبقي على طرابيشي متوهجًا في ذاكرتنا « يجب قراءة موسوعة التحليل النفسي لفرويد التي ترجمها، فكثير من أمراضنا لا بد أن يلقى عليها الضوء من التحليل النفسي. كما أن كتبًا، مثل: «هرطقات»، أو «المرض بالغرب»، أو «نقد نقد العقل العربي»، كلها تحتاج إلى قراءة وإعادة قراءة، حتى نستطيع تبين أنفسنا وتموضعنا في التاريخ. كتبه الأخرى، يجب أن تناقش وأن تنتقد في المجال العام. لماذا أدعو إلى ذلك؛ لأن مشكلتنا الكبرى أن في الوطن العربي خصوصًا في مجال الثقافة، يوجد جنرالات ولا يوجد ضباط أو ضابط صف، بمعنى هناك مهمة المفكر، ومهمة المثقف، ومهمة الصحافي، فعندما يكتب المفكر لا بد من وجود آخر يوصل أفكاره للناس».
لنتذكر ما حدث في عصر الأنوار، فكتاب لفولتير، لم يكن وزع خمس مئة نسخة، لكن الصحافيين كانوا يقرؤون كتبه، ويبسطونها للناس، فدخلت في البنية الفكرية للشعب الفرنسي. هذه المهمة إلى اليوم لا تجد من يقوم بها في عالمنا العربي، وللأسف أنه اليوم شحّت القراءة؛ إذ يبدو لي أن الناس لا تقرأ، وكثيرًا ممن يقرأ لا يفهم، وهذه كارثة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق
Trackbacks/Pingbacks