كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عناق الأفكار الهندسية في قصور الطين
تتداعى أصوات وصور ثلاثية الأبعاد من وراء التاريخ للبنَّائِين، وهم منهمكون في رصِّ لَبِنات الطين، وتشييد صروح الذكريات الجميلة على مساحات المخيلة، وتتسلَّل إلى أنفك رائحة الطين الممزوج بالتِّبْن حتى لَتَكاد تشعر ببرودتها ورطوبتها على وجنتيك كلما ولجتَ قصرًا أو بيتًا من بيوت الطين القديمة، وينتابك في أعماق النفس ذلك الحنين والشوق الجياش إلى الالتصاق بها بحميمية، وتقبيل ذا الجدار وذا الجدار بشغف العاشق، فكل جدار من جدرانها المتهالكة وكل زاوية فيها حتى عود التِّبْن الذي يحاول جاهدًا لعقود التحرُّر من الطين الذي جفَّ حول خاصرته؛ كلُّها تصرخ بلسان الصمت، تريد أن تروي لك قصتها، وتبوح بمكنون أسرارها التي كادت تتلاشى في غيابة جُبِّ الماضي، وتلحّ عليك تلك الأحاسيس عندما يرتبط المبنى بحادثة تاريخية، أو بشخوص مُهمة من العالم القديم؛ مثل: قصر المصمك في مدينة الرياض الذي تتجلى فيه قصة فتح الرياض على يد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بكل أبعادها، حتى لتكاد تسمع صدى سنابك الخيل، وأصوات الفرسان في خيالك.
القصور والبيوت الطينية ليست مثل المنشآت الأخرى التي تعتمد على الدقة الهندسية والقولبة والآلات والمواد الكيميائية، بل إنها نمط معماريٌّ مكتنز بالجمال، أقرب إلى الأعمال الفنية اليدوية، ولا يَعْني ذلك أن هناك انفصامًا بين الهندسة المعمارية التقليدية وطريقة بناء بيوت الطين، بل المقصود هنا أنها لا تلتزم صرامة المنشآت المسلَّحة الحديثة.
كيف تبنى قصور المدن الصحراوية؟
تُشيَّد بيوت الطين وفق أنماط وأشكال كثيرة، أفضلها في جزيرة العرب ما جرى بناؤه بطريقة العروق، كما كان متبعًا في قصور المدن الصحراوية القديمة؛ مثل: حائل، ونجران، وبعض القرى النجدية، فتلك الطريقة تضفي على القصر جمالًا معماريًّا مميزًا، إضافة إلى المتانة التي تزيد من عمره الافتراضي. تتم تلك الطريقة حسب ما ذكر لنا أحد كبار السن، ممن شاركوا في بناء كثير من القصور الطينية، بإعداد مخطط للبيت أو القصر أولًا، ثم حفر أساسات الجدران على شكل خندق، مع مراعاة ترك فراغات معينة للأبواب والفتحات، ويُملَأ الخندق بالحجارة، ثم يُجلَب كثير من التراب الطينيّ على ظهور الجمال من أماكن شتى، تكون بعيدة في بعض الأحيان، ويُخلَط بالماء، وتدوسه الجمال حتى يتحول إلى ما يشبه الصلصال اللازب، ويُترَك عدة أيام مع ترطيبه بالماء من حين لآخر. بعد ذلك يخلط بأعواد التِّبْن والقليل من (البحص) وهو حصى صغير؛ لزيادة تماسك البناء عند هطول الأمطار، وأخيرًا يقوم البناؤون بنقل الطين بالمحافر، والبدء في عمل العرق الأول فوق حفرة الأساس المملوءة بالحجارة وبسمك نصف متر تقريبًا، يزيد وينقص حسب ما يراه صاحب البيت، وبارتفاع مماثل، ويُترَك إلى اليوم التالي، أو حتى يصل إلى درجة من الجفاف تمكنه من احتمال عرق آخر فوقه. وهكذا يجري وضع العروق واحدًا تلو الآخر مع مراعاة الأبعاد حتى الوصول إلى الارتفاع الكافي لوضع السقف الذي عادة ما يكون من جذوع أشجار الأثل المتساوية السمك تقريبًا، وخوص النخل الذي يصفُّ فوقها بترتيب، ويوضع العازل الذي ربما كان من قماش الخيش المغموس في القار أو ما أشبه، ثم يُغطَّى بالطين تمامًا، وهكذا حتى الانتهاء من بناء الدور الثاني، وعمل القباب المرتكزة على أميال أسطوانية من الصخور والطين، والتفنُّن في عمل الشرف التي تعدّ من سمات البيت الطينيّ، وأخيرًا وضع الجبس على أجزاء معينة من البيت؛ للحماية والتجميل، والعناية الفائقة بتجصيص المجالس وتزيينها بزخارف مميزة خصوصًا ما يطلق عليه الوجار أو الكمار؛ حيث موقد النار أو الكانون، والرفوف التي تصفّ فوقها الأباريق والدلال وغيرها، وتسوية الأرضية وتركيب الأبواب الخشبية المميزة والنوافذ.
قصور الطين النجرانية
يزداد جَيَشان المشاعر عندما تقع عيناك على أحد القصور الطينية العظيمة في أيّ من المدن السعودية التي تشتهر بذلك، وكأن من قام بهندستها يمتح من نبع كنوز فنية لا تنضب، ولنبدأ بمدينة نجران مثلًا لكونها تضمُّ مجموعة كبيرة من القصور الطينية التي تشدّ الأنفاس حتى إن اسم نجران له دلالة بنائية، ويعني فيما يعنيه الخشبة التي يدور عليها رِتَاج الباب، ويسمى بيت الطين في نجران (درب)، وهو الاسم الشائع هناك، ويُعَدّ قصر الإمارة التاريخيّ أنموذجًا فريدًا للعمارة الطينية التقليدية في المنطقة، إضافة إلى كونه يُمثِّل حِقبة مُهمة من تاريخ الدولة السعودية في عهدها الثالث، وأنشئ القصر عام 1943م مقرًّا للإمارة والشرطة والمحكمة والبرقية. والمبنى شُيِّد ليكون قلعة عظيمة ذات أسوار عالية، وفي كل ركن من أركانه أُقيم برج عالٍ دائريّ الشكل للمراقبة، وزُيِّن أعلاه بالشُّرف والجبس والمقرنصات النجرانية الجميلة. ويضم القصر نحو 60 غرفةً كبيرةً، وبئرًا مطوية بالحجارة، ومسجدًا، والقصر بأكمله بُني بطريقة عروق الطين (المدماك)، وهي طريقة مشتركة بين مدن أخرى في المملكة؛ مثل: مدينة حائل في الشمال، وهي أفضل بكثير من طريقة البناء بلَبِنات الطين الهَشَّة، وتصمد قرونًا طويلة، وهناك قصر آخر في نجران لا يقلّ أهمية عن مقرّ الإمارة خصوصًا من ناحية فنّ المعمار، أَلَا وهو قصر ألعان، ويعرف قديمًا بقصر سعدان. والقصر بأكمله شُيِّد على قمة جبل عام 1689م، ويعدُّ من أروع نماذج العمارة الطينية التقليدية، وهناك قصور أخرى عديدة في قرى نجران تعدُّ في مجملها آيةً من آيات الإبداع المعماريّ التقليديّ؛ مثل: الحامية، والحضن، ودحضة، والشبهان، وصاغر، والقابل، والمشكاة، والمخلاف، والموفجة، وقد رممت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطنيّ أغلبية تلك القصور واعتنت بصيانتها؛ لتكون مواقع أثرية يرتادها السياح.
حائل وإبداع البناء الطيني
مدينة أخرى من مدن المملكة تزخر بالمباني الطينية ذات العراقة، ألا وهي مدينة حائل ذات الشهرة الواسعة في تشييد القصور الطينية داخل منطقة حائل وخارجها، فعلى سبيل التمثيل: قلعة أعيرف فوق جبل أعيرف التي تشرف على المدينة العتيقة من الجهات جميعها؛ حيث تتعانق الأفكار الهندسية مع الذائقة الفنية، والقلعة هي مبنى مستطيل متدرّج لينسجم مع ارتفاعات وانخفاضات الجبل، وتتكون من طابقين بطول 40 مترًا، وعرض 11 مترًا، والمبنى مسقوف بأخشاب الأثل وخوص النخل، مع أسطح مسوَّرة وبرج دائريّ يزيد ارتفاعه على خمس أمتار كلُّها زُيِّنتْ بالشُّرف المغطاة بطبقة من الجبس وبكوّات وفتحات مراقبة، إضافة إلى الأبواب الخشبية المزخرفة داخل المبنى، ويتوسط القلعة مسجد ذو رواق واحد، وله خمسة أعمدة، وفناء صغير تستهويك تكويناتُه على الرغم من بساطتها، وتشيع في رُوحك ذلك الحنين الغامض إلى ماضٍ تجهل تفاصيله، ويقال: إنها بُنيت أولًا بالحجر قبيل عصر الإسلام، وأتت عليها صروف الزمن؛ لتحيلها إلى أطلال لم يبقَ منها إلا الأساسات، ثم أُعيد بناؤها في عهد آل علي الذين حكموا (حائل) من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر الهجريّ، وفي العهد السعوديّ أُجرِيَ لها صيانة وترميم كبيران عام 1404هـ، أما الترميم الأخير الذي أُجرِيَ عام 1422هـ فقد تكفَّلت به حينها وكالة وزارة التعليم السعودية للآثار والمتاحف، والقلعة لا تختلف في أسلوب عمارتها وطرازها عن مثيلاتها من المباني التي بُنيت لأغراض دفاعية في منطقة نجد خاصة، والمنطقة الوسطى عامة. وهناك مجموعة أخرى غير قليلة من القصور والقلاع الطينية في حائل لا تختلف عن أعيرف في شموخها وبُعدها التاريخيّ؛ مثل: قصر القشلة، وهو قصر تاريخيٌّ بُني في عهد الملك عبدالعزيز–رحمه الله- سنة (1360هـ/ 1940م) مقرًّا للحامية العسكرية في المنطقة، بمساحة كبيرة تبلغ 20 ألف متر مربع، وقصر برزان الذي يعود إلى عهد أسرة آل رشيد، وقصر الدولة في قفار، وقصر النايف في جبة، وغيرها.
متاحف طينية وجذب سياحي
تعدَّدت القصور الطينية التراثية في القصيم، ففي مدينة بريدة نجد قصر الدبيخي التراثيّ الذي صار متحفًا، وهو قصر تراثيّ من الطين، ويضم 12 غرفةً مختلفة المساحة، وقصر السويد الواقع في قرية الحمر، وهو قصر تراثيّ يتكون من عريشين، وثماني غُرف، وباحة في الوسط، المعروفة بالحوش الداخليّ، وسطح مُطلّ على المزارع المحيطة، ويعدّ بحق من أجمل القصور الطينية، وفي محافظة عنيزة يقع بيت البسام، وهو قصر طينيّ تزيد مساحته على 3500 متر مربع، مبنيّ على الطراز النجديّ المشهور، ويمثل في شموخه نمط العمارة في محافظة عنيزة، ومتحف الحمدان في عنيزة -أيضًا- وهو مزرعة كبيرة، ويتضمن مجموعة من القصور والمباني التراثية، المبنية من الطين واللَّبِن، والمسقوفة بخشب الأثل، وفي البكيرية هناك مقصورة الراجحي؛ حيث عَمَدتْ أُسَر كثيرة في المملكة عامة، وفي نجد خاصة في الآونة الأخيرة إلى إعادة بناء مقارّها واستثمار موروثها الثقافيّ. ومقصورة الراجحي في مدينة البكيرية شاهد على ذلك، وهي قصر كبير من الطين، يحوي غرفًا ومجالسَ وأحواشًا ذات طابع معماريّ فريد، ومسجدًا واسعًا وجميلًا ذا أعمدة مجصَّصة، إضافة إلى وجود سوانٍ لرفع الماء للسُّقيا.
ومقصورة السويلم بالبكيرية هي قصر أثريّ كبير، يتضمن ملاحق بُنيت مطلع القرن الثالث عشر الهجريّ، في عهد أمير البكيرية عبدالله بن سويلم عقب إنشاء محافظة البكيرية، وكانت مقصورة السويلم مقرًّا للإمارة مدة من الزمن. وفي هذا السياق يقول الدبيخي صاحب قصر الدبيخي التراثيّ في بريدة: «إن بيوت الطين القديمة تعدّ تراثًا وتجارة»، مضيفًا أن هذه البيوت شهدت تحولًا في الاستخدام الاجتماعيّ مصحوبًا بنشاط تجاريّ وسياحيّ، أعاد إلى الأذهان الرغبة في التوجه الاجتماعيّ والاستثماريّ بمنطقة القصيم؛ للعناية بها، ووضعها في الواجهة من جديد بعد إحيائها وتحويلها إلى متاحف ومواقع استثمارية، مبيِّنًا أن هذه القصور التراثية أصبحت نشطةً تجاريًّا، ومن عوامل الجذب السياحيّ.
طريقة البناء باللَّبِن: هي الطريقة الأقل جودة في تشييد المباني الطينية بيد أنها الأكثر انتشارًا؛ لسهولتها وتكاليفها غير الباهظة، إضافة إلى سرعة إنجازها، وتعتمد على استخدام اللَّبِن الطينيّ الجافّ المجهز من قبل بوساطة تشكيله في قوالب خشبية، ثم تجفيفه تحت أشعة الشمس، وتجري طريقة البناء برصّ اللَّبِن وتثبيته بالطين، وبعد أن تكتمل الجدران تُغطَّى بطبقة من الطين بطريقة (اللياسة)، وتُسوَّى، ثم يكمل البناء بالطريقة السابقة نفسها التي تعتمد على العروق.
القصور والبيوت الطينية ليست مثل المنشآت الأخرى التي تعتمد على الدقة الهندسية والقولبة والآلات والمواد الكيميائية، إنها نمط معماريٌّ مكتنز بالجمال، أقرب إلى الأعمال الفنية اليدوية
بُناة من علية القوم
من المفارقات الطريفة أن من يقوم عادة بالبناء هو من أهل البلد أصلًا، وقد يكون من الوجهاء ومن علية القوم، وتتجلى صفة الكرم والأريحية في أبهى صورها لترافق البِناء منذ البدء في إنشائه حتى الانتهاء منه، ففي حائل عندما يهمّ أحدهم ببناء بيت، فإن ذلك يعني حتمية المبادرة وحالة استنفار تعاونية للقاطنين حوله؛ إذ عليهم التناوب على دعوة البنائين إلى الإفطار والغداء والعشاء طوال مدة البناء، والمبالغة في إكرامهم، وتعكس هذه الحالة مدى التلاحم والتكاتف الاجتماعيّ، وثقافة النخوة في تلك البيئات، وفي ظل الانفجار الحضاريّ الذي اهتزَّت له أرض بلادنا، وربت وأنبتت من كل زوج بهيج صار ما بقي فيه من بيوتات طينية، أو بالأحرى ما بقي من أطلالها أشبه ببقايا أسنان في لثة مريضة تستوجب العلاج والترميم من أصحابها؛ لِتبقى شاهدًا على تراث عمرانيّ، يستحق الحفاظ عليه، والتفاخر به بوصفه منتجًا إبداعيًّا ربما لن يتكرر.
وفي هذا السياق قام كثير من سكان المدن النجدية ممن أنعم الله عليهم ببناء استراحات خارج مدنهم، وتحرَّوا في بنائها الأسلوب النجديّ القديم في البناء، فبدت كأنها قصور طينية قديمة تعود إلى الأثرياء في حقبة ماضية على الرغم من أنها قد بُنيت بالخرسانة وفق أحدث الطرائق في البناء، وعولجت بالطين والموادّ والأخشاب لتبدو كأنها قديمة؛ لرغبة أصحابها في الحفاظ على تراث الأجداد، وتقريب صورة الماضي للنشء، متجاوزين بذلك جملة من الصعوبات التي يواجهها عادة كلّ مَن أراد بناء بيت أو قصر طينيّ؛ مثل عدم توافر العمالة المناسبة، والمقاول المناسب، والمخططات الهندسية، فيبقى المبنى لوحة فنية حُرَّة لا يمكن أن تتنبأ بنتيجتها إلا في نهاية المطاف.
المنشورات ذات الصلة
كتاب الموسيقا للفارابي من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد
يعرّف الفارابي الموسيقا في قوله: «فلفظ الموسيقا معناه الألحان، وصناعة الموسيقا بالجملة هي الصناعة التي تشتمل على...
«رهمانج» و «لا نا ما»: حامل المعرفة البحرية وتبادل الثقافات على طريق الحرير البحري
مصطلح «لا نا ما» ظهر لأول مرة في الكتاب السياسي الصيني ميشو جانتشي. إن «لا نا ما» هو نقل للكلمة الفارسية «راهنامه»،...
البحث عن إرث أنثوي… المرأة وتحقيق التراث العربي
يمكن إعادة أول مخطوط مطبوع حققته وضبطت نصه امرأة إلى عشرينيات القرن المنصرم، ومع مرور قرن من الزمن على ظهور اسم مؤنث...
مقال في منتهى الإبداع وليس بغريب على مجلة الفيصل نشر مثل هذه الدرر
مقال في منتهى الروعة وليس بمستغرب على مجلة الفيصل أن تخرج مثل تلك الدرر
سلمت يداك مقالة رائعة وتصوير بديع
سلمت يداك عمل رائع اخي عبد العزيز
أنت الرائع وأشكرك على مرورك الطيب