كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مثقفون يتأملون أحواله وتأثير السياسة في دوره هل غيَّرت ثورات الربيع العربيّ المثقف وزادته ارتباكًا؟
لسنوات عِدَّة درجت السينما على تقديم صورة نمطية للمثقف في الوطن العربيّ، وحصره في كونه الشاعر أو الكاتب، ومع اندلاع ثورات الربيع العربيّ، وظهور وسائط تواصل وأدوات اتصال جديدة لا يتقنها إلا جيل جديد ومغاير، تأكَّد للجميع أن مفهوم المثقف صار أوسع وأكبر مما اعتادوه، ومن ثَمَّ أخذت هذه الصورة في التغيُّر والتعدُّد والتبايُن، إلى أن صارت مهتزّة ومرتبكة وغير مفهومة في أعين الجميع. في هذا التحقيق تحاول «الفيصل» إعادة صياغة مفهوم المثقف ودوره وصوره التي يجيئنا من خلالها.
في البدء عرَّف وزيرُ الثقافة المصريّ الأسبق الدكتور جابر عصفور المثقفَ بكونه الشخص الذي يتّخذ موقفًا نقديًّا مما يدور في واقعه، بحيث لا يكون سلبيًّا تجاه قضايا هذا الواقع، وفي حال اتخاذه موقعًا وظيفيًّا كأن يكون وزيرًا أو غير ذلك فلابد أن يظل محافِظًا على موقفه النقديّ من قضايا الواقع. وذهب عصفور إلى أن صورة المثقف هي صورة مهمة وكبيرة؛ لأن الربيع العربيّ كان ثورة مثقفين بأدوات اتّصال حديثة، فالذين قاموا بالثورة هم الشباب أبناء أدوات الاتصال الحديثة؛ لذلك كانت حركتهم أسرع من حركة الدولة وأدواتها الروتينية القديمة المتهالكة.
وقال: «إن المثقف سيظل مؤثِّرًا ومهمًّا حتى لو تطاول بعض الناس على صورته»، وإن صورة المثقف أصبحت متعددة ومتباينة، ولم تعد وقفًا على الكاتب أو الأديب، «فالإعلامي مثقف، والصحافي مثقف، وكل من يُعمِل عقلَه ويتّخذ موقفًا نقديًّا مما يدور حوله فهو مثقف، أما من يُردِّد ما يسمع من دون عرضه على قياس الوعي والمنطق فهو خارج الفِعل الثقافيّ». وتطرّق عصفور إلى أن الإعلاميّ أحمد موسى لا يمكن أن نَعُدَّه نموذجًا للمثقف؛ «لكنَّ رجلًا مثل إبراهيم عيسى هو نموذج واضح لهذا المثقف؛ لأنه صاحب موقف نقديّ، وإسلام بحيري هو نموذج لهذا المثقف؛ لأنه اتَّخذ موقفًا نقديًّا من الخطاب السائد، وباسم يوسف مثقف نقديّ له برنامج مميّز وإن اتخذ طابعًا ساخرًا، ومن ثَمَّ فنماذج المثقف النقديّ كثيرة وفاعلة ومتعددة في أماكنها المتباينة، وإن لم يرصدها الإعلام كما ينبغي لها، أو يغير الناس فكرتهم القديمة عن المثقف؛ كي يرونه في تبايناته الجديدة».
المثقف والأبواق الإعلامية
يرى أستاذ الأدب العربيّ بجامعة عين شمس الدكتور: محمد عبدالمطلب، الذي نال جائزة الملك فيصل العالمية، أن ثمة مستويين للمثقف، يصف المستوى الأول بكونه المحترم، ويعرّفه بأنه الذي يلتزم الصدق والأمانة، ويحافظ على الأصول الثقافية للأمة، ويتحرّك حركة محسوبة تؤدّي إلى نتائج تخدم الوطن، مؤكِّدًا أن أصحاب هذا الاتجاه هم الأقلية، أما المستوى الثاني فأصحابه هم الأغلبية؛ «تحوَّلت إلى أبواق إعلامية أكثرها هزليّ وفضائحيّ، ومن المؤسف أن هذه الكثرة تتصدَّر الموائد والمؤتمرات، ويحصدون الجوائز وهالات التقدير».
لكن عبدالملطب يعود ليؤكِّد من جديد أن أخطر ظاهرة في مصر الآن هي ضياع مقولة: «أهل الاختصاص»؛ «فالثقافة العربية تعرف مقولة: «كل ميسَّر لما خُلق له»، والمَثَل الشعبيّ يقول: «أَعْطِ العيش لخبازه»، بينما المثقفون الآن يَعرِفون كلَّ شيء، ويفتون في كل شيء، على الرغم من أن القاعدة تقول: إن مَن يعرف كل شيء فهو لا يعرف أي شيء، ومن ثَمَّ فإننا نجد الآن ظواهر غريبة ومدهشة؛ مثل الخبير الاقتصاديّ الذي يفتي بعلم أو بغير علم في كل شيء، والخبير العسكريّ الذي يتحدث عن كل شيء، والجميع صاروا خبراء على الرغم من أنهم لا علاقة لهم بأيّ شيء؛ نحن أمام فوضى وليس حرية رأي، أمام أبواق يستخدمها الإعلام لملء مساحات فراغ، ولسنا أمام مثقفين حقيقيين».
وصبَّ عبدالمطلب، صاحب كتاب «النص المشكل»، غضبه على الباحث إسلام بحيري الذي يمضي الآن عقوبة السجن مدة عام بعد اتهامه بازدراء الدين الإسلاميّ، في برنامج كان يقوم بتقديمه على إحدى القنوات الفضائية. قال عبدالمطلب: «من المؤسف أن هذه الأبواق هي التي تتصدَّى للدفاع عن انحراف وفساد ومساوئ الظواهر الثقافية، في أبرز تجلياتها الآن إسلام بحيري الذي أهان البخاريَّ واتَّهمه بأنه كان يجمع القمامة ويضعها في كتابه، من دون أن يعرف الدور الذي قام به البخاريّ، ولا الجهد الذي بذله؛ كي يتحرَّى الدقة في جمع أحاديثه».
صور متناقضة
من جانبه أكَّد رئيس اتحاد الكتاب المصريين السابق، الكاتب محمد سلماوي، أن صورة المثقف بعد الربيع العربيّ صارت مهزوزة، موضِّحًا أن هناك عدة صور متناقضة يجري تداولها عن المثقف، «وهي صور مخالفة للحقيقة التي تقول: إن المثقف كان في قلب الحركة الجماهيرية في مختلف البلدان العربية؛ ففي مصر على سبيل المثال، كانت أول نقابة تعلن تأييدها ثورة 25 يناير هي اتحاد كتاب مصر، وذلك يوم 26 يناير؛ أي بعد 24 ساعة من اندلاع الثورة في الشوارع المصرية، وقد أصدر الاتحاد بيانًا تبنَّى فيه مطالب الثورة، وقام المثقفون بمسيرة من مقرّ الاتحاد إلى ميدان التحرير، وطوال أسابيع متوالية حضر المثقفون في مختلف الميادين حيث فئات الشعب الأخرى، وكان كثير من الكتاب العرب يتصلون بي من مختلف الأقطار العربية الشقيقة؛ ليعلنوا تأييدهم الثورة، ومن كان يحضر منهم إلى مصر كنت أصطحبه إلى ميدان التحرير تلبيةً لطلبه».
وأضاف سلماوي «أن اتحاد الكتاب هو الجهة الوحيدة في مصر التي سحبت الثقة من رئيس الجمهورية محمد مرسي قبل أن تندلع ثورة 30 يونيو ضدّه، وتخرج الجماهير إلى الشوارع والميادين مطالبة بعزله، وهو أمر يعدّ الأول من نوعه في التاريخ الحديث؛ أن يسحب اتحادُ الكتاب الثقةَ من رئيس وهو في السلطة، وتأتي الثورة لتعضد ما ذهب إليه الاتحاد والمثقفون، هؤلاء الذين ذهبوا بمختلف أطيافهم من كتاب وفنانين وتشكيليين وغيرهم إلى مقرّ وزارة الثقافة حائلين دون سقوطها في براثن فكر الإخوان وأشياعهم».
ويستدرك سلماوي قائلًا: «لكن للأسف! الإعلام العربيّ لا يتحدث إلا عن السلبيات، متصورًا أن ذلك هو الطريقة الصحيحة التي تحقِّق له الرواج، ومن ثَمَّ فإنه إذا لم يجد هذه السلبيات فسوف يختلقها بحثًاعن الرواج، وقد صوَّر الإعلام للمواطن المصريِّ والعربيّ أن المثقفين انعزلوا عن الحياة، ولم يعودوا قادرين على أداء دور مهمّ في المجتمع، ولو كلف أي من هؤلاء الإعلاميين نفسه بأقل درجة من درجات البحث والتقصّي لَوَجَد أن الواقع على نقيض ما ذهب إليه».
خطأ منهجي
أما رئيس التحرير الأسبق لجريدة «الأهالي» ومجلة «أدب ونقد» اللتين يصدرهما حزب التجمع المصريّ؛ الناقدة والناشطة السياسية فريدة النقاش، فقد ذهبتْ إلى أن المثقف العربيّ تعرّض لحالة شديدة من الارتباك بعد أن تحمَّس بصورة هائلة للإنجازات التي حقّقها شباب ثورات الربيع العربيّ، «مع الوضع في الاعتبار أن إطلاق مصطلح (مثقف) على جميع المثقفين في وقت واحد هو خطأ منهجيّ؛ فهناك المثقف المنتمي إلى الجماعات الدينية، والمثقف المنتمي إلى اليسار، وآخر منخرط في تشويه ما أنجزته ثورة 25 يناير و30 يونيو، ومن ثَمّ فالمثقفون ليسوا كُتلةً واحدة، ومع ذلك فقد تعرَّضوا جميعًا لارتباك شديد من جراء ما حدث خلال الموجات المتعاقبة للثورة المصرية، التي أبدعها المثقفون من الشباب، فالشباب الذين انخرطوا في العمل مع أدوات التواصل الاجتماعيّ، وأدوات الاتصال الحديثة هم مثقفون».
وذهبت النقاش إلى أنه بعد أن سُرقت نتائج الثورات العربية؛ انقسم الجميع على نفسه وأصيب بالارتباك، «ومن ثَمَّ فالأمر الوحيد الذي بات متفقًا عليه لدى الجميع أن الأهداف التي اندلعت من أجلها الموجات المتعاقبة للثورة لم تتحقق بعد، وأن الأهداف الأساسية للربيع العربيّ: «عيش، وحرية، وعدالة اجتماعية» لا تزال غائبة»، وأكَّدت النقاش «أن المثقفين في مصر يتفقون مع النظام حول الدولة الوطنية، وضرورة الحفاظ عليها، لكنهم يختلفون مع النظام حول أهداف الثورة وآليات تحقيقها»، مؤكدة أن الطريق طويل أمام المثقفين في صراعهم مع السلطة؛ لتحقيق هذه الأهداف، مشيرة إلى أن صورة المثقف العربيّ بعد المشاركة الهائلة في إنجاز ثورات الربيع العربيّ «تحسَّنت بشكل كبير».
كتاب وكتبة
بينما يذهب الكاتب المصريّ رؤوف مسعد، المقيم في هولندا، إلى «أن لدينا نوعين من المثقفين: الأول كتبة لم ينذروا أنفسهم للفعل الثقافيّ في الأساس، لكنهم وجدوا فرصة طيبة لدخولهم هذا العالم، ورفع راية أصحابه كغطاء لعملهم الحقيقيّ؛ كأن نجد ناشرًا يصبح كاتبًا من خلال عمله، أو موظفًا يصبح مثقفًا كبيرًا من خلال موقعه، وهناك كتاب حقيقيون نذروا أنفسهم لفعل الكتابة والثقافة، ومن ثَمَّ فهم ضمير الوعي لدى جماعتهم ووطنهم في اللحظات الحرجة»، وأضاف صاحب رواية «بيضة النعامة»، أن دور المثقف العربيّ بعد الربيع العربيّ «أصبح أكثر أهمية وقوة، فللمثقف حيثية وحضور، وهو–أيضًا- مرجعية قوية، بدليل توقُّف المحكمة عن الحكم في قضية الكاتب أحمد ناجي لحين الرجوع إلى أهل الاختصاص؛ كان في مقدمتهم الكاتب محمد سلماوي والناقد الدكتور جابر عصفور، ومن ثَمَّ فعلى المثقف أن يكون واعيًا دوره في هذه المرحلة، ليس فقط مطالبًا بالحرية، لكن –أيضًا- مطالبًا بكيفية استخدامها، فالحرية سلاح ذو حدَّيْنِ، ورسالة المثقف أن يرصد ما يحدث من دون تحيّز، وأن تكون كلمته بمنزلة المظلَّة العامة التي تظلّ كلّ الناس».
ويوضّح مسعد قائلًا: «أنا مع النظام، لكن لست مع النظام الغبي، ودوري بوصفي مثقفًا أن أكشف العيوب في مقالاتي، وأن أرصد ما يجري في أعمالي الروائية، وبوصفي مثقفًا ينتمي إلى الأقلية فدوري يتمثّل في إخراجها إلى النور، وأن أدافع عن حقِّها في عدم التهميش، وأن يكون ذلك من دون تعصّب أو مغالاة، فالأقلية دائمًا بحاجة إلى فهم الآخر».
من جانبه، أوضح الناقد الدكتور سيد ضيف الله، أن مفهوم المثقف قد تغيَّر، «فمع ظهور الربيع العربي برز على السطح مسمّى الناشط السياسيّ، كما توسَّع دور مُقدِّمي البرامج الفضائية السياسية والاجتماعية؛ إذ أصبح كلّ من الناشط والمذيع أكثر قدرة على تحريك الشارع السياسيّ، والتأثير في الأحداث أكثر من المثقف التقليديّ المرتبط بسَعَة المعرفة، الذي يمتلك رؤية شاملة وتاريخًا من النضال السياسيّ من أجل مجتمع أفضل!»، ويوضح أن مفهوم المثقف «توزّع على أدوار ظهرت حديثًا؛ مثل: الناشط، والنجم الإعلاميّ، والمواطن الإعلاميّ، وساهمت التطوُّرات الكبيرة التي شهدتها وسائل الإعلام عامّة، ووسائل التواصل الاجتماعيّ خاصّة في تغيير مفهوم المثقف، لكنها لم تغيِّر الدور الذي يجب أن يقوم به المثقف، سواء أكان إعلاميًّا، أم نشاطًا سياسيًّا، أم مواطنًا فحسب؛ لأن تحصيل المعرفة إذا أصبح أكثر يسرًا بفضل الإنترنت، فإن اتساع قاعدة المعرفة جعلت الثقافة متاحة بشكل أكبر لقطاعات أوسع؛ مما كسر الحاجز بين النخبة التقليدية؛ المعروفة بالمثقفين، والمواطنين الفاعلين! فلم يَعُدِ الحاكم هو وَحْدَه مَن يُدير المجتمعَ ويقوده كما كان في الماضي! وهذا في حد ذاته بداية ربيع حقيقيّ للحرية».
الكفر بـ«المثقف» والإيمان بـ«المخلِّص الدينيّ»
عبدالله البريدي – أكاديمي وكاتب سعودي
الربيع العربيّ أحدث ارتباكًا بنيويًّا شديدًا في المجتمع العربيّ، فقد هزّ الأفكار والأنساق والرموز والمؤسّسات والخرائط، جالبًا معه منظومة مشوّشة من الرؤى الإستراتيجية والآنية، والاتجاهات المعتدلة والمتشدّدة، والآمال والخيبات. ومن الطبيعيّ أن تهتزّ صورة المثقف العربيّ في هذه السياقات؛ إذ لا يمكن أن يمثّل استثناء، أو أن يحصّن نفسه من تلك الاهتزازات والارتباكات، التي لم توفر أحدًا. إذن الاهتزاز في الصورة أمر متوقّع، بيد أن اللافت هو حجم الاهتزاز، فهو ضخم جدًّا، وبخاصة لدى بعض الشرائح، فقد كفر بعض المتلقِّين بالمثقف العربيّ، وأعلنوا إفلاسه؛ لمحدودية أدواره في الربيع العربيّ، وثمة شريحة كافرة به مِن حيث الأصل؛ لأنها آمنت بـ«المخلّص الديني»، وطفقت تجمع الأدلّة المؤكدة على تضعضع المثقف فكريًّا وأخلاقيًّا؛ مع قائمة اتهامات تزيد ولا تنقص. وهناك شريحة أخرى رأت في الربيع العربيّ فرصةً مواتية للفرز وإعادة التقويم، فهي تميِّز «المثقف العميق»، و«المثقف السطحيّ» مِن حيثُ الفِكرُ والمنهجيةُ؛ مِن «المثقف الإصلاحيّ» و«المثقف الانتهازي» مِن حيثُ القِيَمُ والدافعيةُ.
ليس لدينا استطلاعات رأي عام دقيقة؛ كي نحدِّد من الناحية العِلميّة وزنَ كلّ شريحة من تلك الشرائح، وانعكاسات ذلك على صورة المثقف، وما عسانا نستنتج من ذلك بخصوص فاعليته المحتملة في المستقبل؛ لذلك فإن كل ما يقال هو محض آراء انطباعية ذات بُعد تخميني. في رأيي أن فاعلية المثقفين العرب باتت ضعيفة من حيث الأثرُ والتراكميةُ في السياقات المختلفة لعدة أسباب؛ من أهمها:
أولًا- بروز المثقف الانتهازيّ في السياق المجتمعيّ العام، وتمكّنه (وربما تمكينه) من خلط الأوراق، والعبث بالقضايا الكبيرة؛ لأهداف ومصالح فئوية، وقد يمتلك بعضهم قدرًا جيدًا من «الذخيرة المنهجية»، لكنهم لا يستخدمونها إلا بما يخدم أهدافهم وتطلُّعاتهم النفعية، مع تقلُّبهم وميلهم إلى مَنْ يدفع أكثر.
ثانيًا- هيمنة الأنساق الدينية المعلية لنموذج «المثقف الدينيّ»؛ في صور: الشيخ، والمُربِّي، والمُصلِح، فقد صارت المجتمعات العربية تنقاد إلى هذا النموذج بطريقة فادحة، فهي تلفّ حبلًا على رقبتها، وتمكّن هذا المثقف من جرّها إلى حيث يشاء، مع تلبُّسه بقدر عالٍ من التزكوية الذاتية والتقديسية للرموز الدينية التي ينتمي إليها. وهنا نلتقط سرًّا من أسرار انجِرار كم متزايد من الشباب إلى الجماعات المتطرفة؛ مثل: داعش وغيرها، فثمة منظِّرون بارعون ومسوِّقون سحرة!
ثالثًا- تشكّل أنساق جديدة لصور المثقف في سياق الثورة الشبكية المعلوماتية، وما أفرزته من مناهج التفكير والترميز، وقد ترتب على ذلك شيوع أنماط «المثقف السطحيّ»، وغلبة تحليلاته وتشخيصاته للمشكل السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والاقتصاديّ والعلميّ، والمشهد الشبكيّ يضجّ بأطروحاتهم البائسة.
رابعًا- انزواء المثقف العميق والإصلاحيّ، وانكماشه في دوائر ضيقة من التأثير العلميّ والفكريّ؛ نظرًا إلى التهميش الذي يعانيه من مؤسسات المجتمع، وارتفاع مستويات الإحباط لدى نسبة ليست قليلة من جرَّاء تراكم الخيبات، وانطفاء شعلة الأمل في الإصلاح. ومع ذلك كله سيبقى المثقف العربيّ في المشهد ولن يموت، وسيتعزّز تأثيره في المجتمعات التي تنجح في الاستفادة من المنهجية والأفكار الأخلاقية والرؤى النهضوية، والنضال من أجل تقرير الحريات العامة، وتوالد أنساق الاعتدال والوسطية، وستضمحلُّ فاعليته في المجتمعات التي تجدِّد عقدها مع أرباب العلم الزائف، ومبدعي الخرافات والأساطير، ومتوجي النفعيين والتافهين.
المثقف يفقد دوره الطليعي الديني
سعود البلوي – كاتب سعودي
سعود البلويفقد المثقف الفرد في العالم دوره الطليعيّ والمؤثر لصالح المؤسسات الثقافية التي اضطلعت بها مؤسسات المجتمع المدنيّ، والمثقف العربيّ ليس استثناء من هذه الظاهرة؛ إذ أصبحت المؤسسات ومراكز البحوث هي البيئة الخصبة لانطلاق الأفكار والنظريات والمبادرات، ومهما يكن الأمر فإن التاريخ يحفظ للمثقف دوره الثقافيّ على مدى العصور، وإن انحسر هذا الدور أو قلّت مساحته. ويبقى دور المثقف العربيّ ملحوظًا في شريحة المجتمع التي تتماسّ مع أفكاره وأطروحاته، ولو لم يَجْرِ تقبُّل هذه الأفكار والأطروحات بداية؛ إذ وجد كثير من المثقفين أن المجتمعات العربية تحاربهم في أفكارهم، لكنها سرعان ما تتبناها بحذافيرها في مرحلة ما؛ لأن المجتمع يتطوّر فكريًّا -ولو ببطء- في عالم متسارع. إن صورة المثقف العربيّ قد ازدادت ارتباكًا وتشويشًا في أثناء «الربيع العربي»؛ لسببين:
الأول- نخبوية المثقف ومحدودية حضوره المجتمعيّ المباشر في ظل وجود قيادات سياسية ودينية قادت الثورات إلى مرادها.
الثاني- موقف المثقف العربيّ نفسه، وأعني ريبة بعض المثقفين من ثورات «الربيع العربي»، واختيار بعضهم الوضع القائم على التغيير غير المحسوب، بالوقوف مع الأنظمة السياسية القائمة، وكان مسوّغهم أن القادم أسوأ، فصار المثقف في هذا الإطار بين مطرقة الثورة وسندان السلطة، وأصبح هناك فرز خطير يتبناه الجانبان على أساس أن مَن لم يكن معنا فهو ضدّنا. من أكثر الأسماء التي أحدثت جدلًا على المستوى العربيّ؛ الشاعر والكاتب العربيّ السوريّ (أدونيس)، الذي وجد نفسه –أيضًا- أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الوقوف مع الثورة السورية التي لم يعرف بالضبط من قام بها وما ستؤول إليه، أو توظيف الواقع المعيش وهو النظام السياسيّ الموجود الذي يمثّل واقع الحال.
نجد كثيرًا من المثقفين وجدوا أنفسهم في منطقة لا لونَ رماديًّا فيها، ومن ثَمَّ فالحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن صورة المثقف العربيّ قد تغيَّرت أمام الرأي العام، فأصبحت مرتبطة بموقفه السياسيّ، فالمجتمعات العربية لم تتقبّل من المثقف العربيّ أن ينبذ الاستبداد، وينظّر له، وينتقد السياسات القائمة، ثم تجد منه موقفًا مغايرًا، وهذا أمر مسوَّغ في ظاهره، غير أن السنوات الخمس التي أعقبت الربيع العربيّ قد كشفت مآلات هذا الربيع «الصيفية» الملتهبة، سواء أكان على المستوى السياسيّ، أم الاجتماعيّ، أم الاقتصاديّ في الدول التي مرّت بتجربة الثورة، فقد وجد المثقف -بعد التجربة الثورية- أن بديل الأنظمة القائمة ليس سوى «الإسلام السياسيّ»، أو الفوضى، وبمعنى آخر: إن الخيار كان زوال السلطة العسكرية وحضور السلطة الدينية المباشرة بوصفها بديلًا؛ مما جعل المنطقة تغرق في الظلام والمصير المجهول أكثر من ذي قبل. وعلى ضوء ذلك فإن ما تبقّى للمثقف من دور هو تجارته القديمة التي طالما اشتغل بها، وهي إثارة الوعي العامّ بقضايا الإنسان الأزلية، بغض النظر عن موقفه السياسيّ الذي هو في نهاية المطاف خاضع لمدى تقديره الواقع، ومدى ربح المكتسب الحضاريّ أو خسارته، فالواقع السياسيّ العربيّ-الذي نراه اليوم بأُم أعيننا- هو أن البديل أسوأ، وأن القادم ليس حُلمًا ورديًّا كما كان معتقَدًا إنما هو تَحَدٍّ وجوديٌّ صعبٌ، والشريحة التي قامت بالثورات فِعليًّا اختفت، فورث السياسيُّ الدينيُّ ثوراتِها، وبقي المثقف موجودًا من خلال ما يتركه لمجتمعه من إرث فكريّ وإبداعيّ، ولنا في قراءة المواقف السياسية للمثقف الأوربيّ مثال جيد، فاختلافات المواقف السياسية بين جان بول سارتر وألبير كامو قد ذهبت، وبقي منهما أهمّ ما كانا يفكران فيه وهو الإنسان!
صورة ملطخة بالخيبة
طالب الرفاعي – روائي كويتي
بالنظر إلى واقع الحال في البلدان العربية التي اندلعت فيها انتفاضات ما باتت تُعرف بالربيع العربي، فمؤكد أن الثقافة بجميع تجلياتها كانت من أكثر الحيوات التي أصابها الخلل والوجع والتهميش، وكذا هي صورة المثقف العربي. من يعرف ساحات الثقافة العربية، يدرك تمامًا أن الأنظمة القمعية العربية ظلت لعقود تطمس كل ما يخص الثقافة الجماهيرية الحقة، ومعها تطمس صورة المثقف، بل وتطمسه وتغيّبه بالسجون والموت إن لزم الأمر.
صورة المثقف العربي ظلت لعقود قبل الانتفاضات مرهونة بسجالات الساحة العربية الثقافية، وكان فيها من التجاذب السياسي أكثر مما فيها من الإبداع والأدب والثقافة؛ لذا عاش المثقف في ساحة ثقافية مسورة بأسوار عالية، وبعيدة من واقع حال الناس البسطاء، حتى لو كتب بعض الأدباء والفنانين عن معاناة الفقر وسطوة الحكم الدكتاتوري.
قليلة هي اللحظات التي كانت لصورة المثقف العربي فيها لمعة خاطفة لأبصار الجماهير، باستثناء أولئك الذين لمّعت بعض المنصات حضورهم، وكان الزمن كفيلًا بامتحان بقاء إبداعهم، أو طيهم تحت تراب دورانه الدائم. فوسط بيئة قمعية دكتاتورية تكون مساحة حركة المبدع ضيقة، ويكون هامش الكتابة والتأثير والتواصل مع المتلقي محدودًا. لكن بالرغم من ذلك كانت هناك كتابات توفرت على عناصرها الفنية الضرورية، ولاقت قبولًا وصدى طيبًا لدى الجماهير؛ مما خلق وصلًا واتصالًا بين بعض المبدعين وجمهور التلقي.
صورة المثقف، في أي أمة من الأمم، كانت على الدوام حاضرة في ذهن الشعوب، متى ما كان هذا المثقف يعيش قضاياهم وهمومهم ويكون صوتهم الأعلى، متحملًا ما يترتب على موقفه الشجاع والجريء. وعادة ما كان المثقفون يتحركون كمجاميع، ولذا يحمل تحركهم التأثير. وفي الحالة العربية، ظل المثقف يعمل منفردًا، ولذا جاء تأثيره أقل، وظلت صورته مشوّشة.
بعد الانتفاضات العربية ازداد وضع المثقف سوءًا، وبخاصة بارتفاع موجة نجوم شبكات التواصل الاجتماعي؛ إذ صار المواطن العربي يستمتع بجملة عابرة على تويتر أو فيسبوك، دون النظر إلى صدق قائلها والقيمة الفكرية المختفية وراءها.
الانتفاضات العربية جارت على الكثيرين، وفي مقدمة أولئك يأتي المبدع والمثقف العربي، وتأتي صورة المثقف التي تلطخت بألوان الضياع والخيبة.
مثقف الجماهير أصبح بلا جماهير
– كاتب أردني
المثقف العربي أيًّا كان نهجه يقيم اليوم في الصدع القائم بين جسم الدولة المرتعش والرأس المتسلط.. بين مجتمع شبه أمي، ضعيف البنية، في عالم يزداد تعقيدًا ومعرفة.. بين بنية قبلية محافظة، والطموح لمدنية معاصرة.. بين جمر السلفية المخبأ في مواقدنا الروحية ولا ندري متى تشب ناره، والثورة العلمية التكنولوجية.. قبل الربيع العربي كان المثقف العربي منتشيًا بإنجازه بين أقرانه، متباهيًا بمعارفه على تلاميذه إن كان أكاديميًّا، وعلى متابعيه القليلين إن كان مفكرًا أو مبدعًا. كان وما زال السلطان مطمئنًا للمثقف سواء كان ممن ينظرون لقدرة الدكتاتور على قيادة قطار الحداثة، أو كان من المعارضين المشاغبين يمينًا أو يسارًا حتى لو جار في النقد، فكلاهما المثقف والسلطان متواطئ على الرضا، مطمئن لثبات الحال.
جاء الربيع العربي ليسحب «مخدات» الحرير من تحت رأس السلطان، وليسحب فضلة البساط التي يتربع عليها المثقف؛ لنكتشف أن المثقف الذي كان يدافع عن الجماهير لا جماهير له، والذي كان يتحدث عن الأمة لم تسمع الأمة به، والذي كان يتحدث باللاهوت وجد المتدينين يسخرون منه! المثقف العربي يقف اليوم حائرًا بين الدكتاتور والتكفيري.. الدولة تستبدُّ؛ لأنها رأته متنحيًا، ورجال الدين يلعبون به، لأنه لعبةٌ طيّعةٌ وسهلة المنال، والمثقف يحملُ كتابه القديمَ دليلًا لطريقٍ طويلة ومعتمة، يتكاثرُ فيها اللصوصُ، وتتناسلُ السجونُ، ويؤمُّ الجوعُ الصلاةَ، ويقرأُ في سيرةِ الدم.
لما سلّم الربيع العربي قياده للإسلام السياسي أصيب المثقفون العرب بالرخاوة.. حتى القوميون والفوضويون والديمقراطيون والإسلاميون المعتدلون تراخت مفاصلهم، وراحوا يهربون إلى مناطق رمادية تظلهم وتضلّ (من الضلال) مسالكهم. وفي بعض الحالات ارتدوا إلى ذواتهم معلين من شأن «أنا» الفردانية على حساب «أنا» المجتمعية والإنسانية، وبعيدًا من تشوقات الناس العميقة للحرية والحق والجمال. الفئات التي تقع مسؤولية يقظتها على المثقف العربي نراهم مستسلمين لواقع مائع، مستسلمين لثقافة المياومة. وجلس المثقفون «يتفرجون» على فتنة اجتماعية هنا، وتفتت عرقي أو طائفي هناك، ونسينا كلنا الصهاينة وشرورهم الواقعة على الفلسطينيين بشكل مباشر، وعلى الأمة بشكل غير مباشر. والحال أن الحاجة إلى المثقف ما زالت حاجة قائمة وراهنة، بل هي حاجة اشتدت وتعاظمت بتعاظم النكسات والهزائم التي شلت الكيان العربي قيادة وشعبًا.
المنشورات ذات الصلة
تلوين الترجمة… الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية
في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو...
النسوية والترجمة.. أبعد من مجرد لغة شاملة
في 30 سبتمبر 2019م، شاركت في مؤتمر (Voiced: الترجمة من أجل المساواة) الذي ناقش نقص منظور النوع في دراسات الترجمة...
ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟
تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ...
مقال غاية في الأهمية.. الوضع العربي الحالي الموار بالتغيرات والأحداث يستفز المثقف الحقيقي ويضعه في مواجهة مسؤولياته والجهر برأيه وصوته في القضايا والأسئلة الحارقة، لكن هل للمثقف العربي صوت حقيقي؟ هل ثمة من يستمع إليه؟ من يطلب رأيه ويستأنس به على الأقل؟
أعتقد أن المثقف العربي الحقيقي القابض على جمر الأسئلة الحارقة والقضايا الكبرى يجد نفسه أمام شعوب لا تعرفه كما ينبغي ولا تعي دوره وأهمية هذا الدور وبين سلطة تهابه وتنظر إليه بريبة وما تفتأ تضيق عليه وتقلص هامش تأثيره وحريته.. لكنه وسط كل هذا هو مطالب بالقيام بدوره: أن يكون مزعجا غير مهادن لأن عينه على المستقبل، وعليه أن يضع يده على الجرح ويرشه بالملح حت يعالج بدلا من تركه يتعفن