كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
نرثي أنفسنا لغيابه.. يوسف بن يوسف رجل الضوء الذي ميز السينما العربية في عصرنا
نظم المركز الوطني للسينما والصورة، ومكتبة الأفلام التونسية (السينماتيك) في قصر الثقافة في تونس العاصمة، ما بين 17 و22 سبتمبر الماضي، تظاهرة سينمائية لتكريم ولذكرى مدير التصوير السينمائي يوسف بن يوسف الذي فقدته السينما التونسية والعربية مع نهايات العام الماضي (28 ديسمبر 2018م)، والذي يعدّ واحدًا من أبرز المصورين السينمائيين العرب. تضمن هذا التكريم أيضًا إقامة معرض للصور عنه وله؛ والكتابات التي كتبت عنه وعن الأفلام التي حققها، وعروضًا يومية للأفلام التي صورها والتي ساهم بتحقيقها في حياته السينمائية؛ وأسست وساهمت في نشوء الموجة السينمائية الجديدة في السينما التونسية والعربية. كما في فلم «رجل الرماد» لنوري بو زيد، و«صمت القصور» لمفيدة التلاتلي، و«عصفور السطح» لفريد بوغدير، و«الليل» لمحمد ملص.
هذه الأفلام التي يمكن القول: إنها تنتمي لما يمكن تسميته بـــ«العصر الذهبي» للسينما العربية، التي كان ليوسف بن يوسف دور مهم في أن تتحقق على النحو الذي تحققت به.
***
من الذي نرثي أنفسنا لغيابه؟
الكتابة عن يوسف بن يوسف كصانع للصورة السينمائية، والكشف عن التجليات الإبداعية الكامنة في وجدان رجل الضوء هذا؛ هي قضية ثقافية ومسؤولية نقـديـة مهمة، تقع على عاتق النقد والنقاد السينمائيين. أما هذا الرثاء، فهو محاولة للتعبير عن التجربة الشخصية، والمعايشة اليومية المباشرة في أثناء تحقيق اثنين من الأفلام السينمائية التي حققناها معًا، وهو ما أتاح لي الكشف عن مكنون هذه الشخصية السينمائية الخاصة؛ والتعرف إلى السمات والخصائص التي يتصف بها هذا الإنسان، واستيضاح الملامح الإبداعية التي يتميز بها التي جعلته يتألق فيما صوَّره من الأفلام التي دعي لتحقيقها. وجعلت منه علامة استثنائية، تميزت من خلالها السينما العربية في عصرنا، وكرسته صديقًا روحيًّا لكثير من السينمائيين الذين عملوا معه. لم يسبق لي فيما يخص العلاقة الشخصية أو المهنية مع مديري التصوير الذين عملت معهم –من دون الانتقاص من القيمة الفنية لأي منهم- أن ترك أحدهم في نفسي تلك الطاقةَ الوجدانية الثرة بالدلالات والأبعاد، التي كان لها مثل ذاك الأثر العميق فيَّ، كتلك التي رسختها تجربة العمل مع يوسف بن يوسف في الفِلميْنِ اللذين حقق لي الصورة التي عليها هذان الفلمان «الليل» و«حلب مقامات المسرة». فهذه الدلالات والأبعاد لا ترسم فقط البنية الشخصية لهذا «المعلم»؛ بل تكشف عن «كنه» وجوهر العلاقة العميقة بينه وبين «الصورة». وتبين في الوقت نفسه المرجعيات الوجدانية والفنية لهذه العلاقة. إن «الصورة» له ليست إلا تعبيرًا عن الشعور العميق بــ«الغربة» التي يعيشها المُبدِع في حياتنا اليومية، والدافع الذي يسعى من خلاله إلى أن يكسر هذا الشعور، وأن يجد بتحقيقها عالمه الخاص. وهو ما قاده إلى أن يخلق من «الصورة» محراب صلاة.
***
في المرحلة التي كنا نحضر فيها تحقيق فلم «الليل»؛ ومع اقتراب التاريخ المحدد للبدء في التصوير؛ لم أكن حينها قد حسمت اختياري لمدير تصوير هذا الفلم «الخاص» بالنسبة لي. وبالمصادفة المحضة؛ شاهدت حينها فلم «رجل الرماد» للتونسي نوري بو زيد؛ فامتلكني يومها إحساس غامض وغريب؛ يخص «المذاق» الخفي للصورة، الذي يطوف حول عينيك ويتسرب إلى وجدانك وعقلك، ثم يأخذك إلى السؤال حول ذاك الذي يصيغ صورة كهذه. صورة تحدث لديك في تلقيها، ذاك التماس مع النفس، وتستقر لديك بهذه الجمالية البصرية والحرفية المتقنة. يومها استقبلت هذه الأحاسيس التي امتلكتني من دون أن أفهم، أو أهتم بماهيتها، أو البحث العقلاني عن أسبابها، أمام قوة الصوت الداخلي الذي كان يردد بإصرار، ويقول لي: إنه «هو». فاستجبت لقوة الصوت الداخلي، وقررت أنه هو الذي يجب أن يُصوِّر لي الفلم. حين دعوته إلى دمشق لتصوير الفلم؛ لم أكن قد التقيتُه؛ ولم أكن قد رأيت صورة شخصية له.
فوقفت يومها وشريكي السينمائي أسامة محمد في ممر الاستقبال في مطار دمشق لنستقبله، ونحن نعبث ونتكهن؛ أيهم سيكون هذا «اليوسف» بين أفواج القادمين على الطائرة التونسية. وفي لحظة ما، برز أمامنا رأس حليق الشعر بوجه خفر، وعينين صارمتين مغمستين بصفاء رطب؛ أخذنا وشدنا إليه، فتعانقنا بلا كلام، وأخذ كل منا ينظر للآخر بتأنٍّ حذر، دون أن نولي أي معنى لما تناهى منه من أحرف مبعثرة؛ نثرها بتأتأة مبحوحة الصوت، ومعلقة بلا اكتمال، كأنها صدى لشيء أو أشياء. حين خطا يوسف أمامنا لنخرج من القاعة، بدا كأنه يقف على عربة «الشاريو» وهي التي تسير به، ويرى العالم الذي يحيط به وعيناه على «فيزور» الكاميرا. فأخذت وأسامة نتبادل النظرات المتوجسة بقلق؛ وكلانا يُسائل نفسَه؛ أي مغامرة هذه التي أقدمنا عليها؛ التي يصعب التراجع عنها في هذه الظروف؛ ونحن عشية البدء في التصوير.
ما إن خرجنا من صالة المطار؛ حتى توقف يوسف بصلابة، وأخذ يعب الهواء ويحاول أن يشتم «الرائحة» ويغمض عينيه ليدرك رائحة المدينة التي يهبط فيها للمرة الأولى. ثم أشعل سيجارة وأخذ ينظر إلى وجوهنا ويبتسم ويبعث ببحة تخفي الكثير من الأسئلة؛ وكأنه هو أيضًا يتساءل من أنتم؟ بدا يوسف كأنه لا لسان له ليحكي؛ وأنه حين يبعث بهذا الفحيح المبحوح؛ فإنه يقول نتفًا من الكلمات التونسية الدارجة، مختلطة بشظايا من الكلمات الفرنسية، وأنه حين يصغي فإنه يقرأ ما تقوله عيناك، ويترصد إيقاع رنين هذا الكلام، فيهز رأسه ويطبق جفنيه كأنه يقطرُ المحكي بمراياه المختلفة. في صباح اليوم التالي حين دخلت إليه فتح عينيه وسألني ما عنوان الفلم الذي سنصوره؟ فأجبته: «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» (وهو العنوان الذي كان قبل التصوير). ضحك وهو يردد: طويل برشة؟ ومضى إلى النافذة ليتأمل صباح المدينة، ثم التفت بصمت فبدا كأنه يريد أن يربط بين ما كان يراه نائمًا وما شاهده من النافذة المطلّة على دمشق وذاك العنوان. حين بدأت أحكي له عن الفلم الذي جاء لتصويره؛ شعرت كأنه يفتح صندوقه «الأسود» الخاص به، وينظر إلى عيني ويصغي. كنت أحكي له كل شيء، ما كتبته وما لم أكتبه، ما أفكر فيه وما أحسه، ما أراه وما أعجز عن رؤيته. أحكي له في الصباحات؛ العشيات؛ قبل التصوير؛ خلاله؛ في الجولات العديدة لأماكن التصوير المتناثرة الأرجاء؛ بل في أي لحظة كانت تتاح لنا خلال مدة التعايش التي قضيناها معًا. فصعقني بقوة خلال التصوير حين كان يعود إليّ ويذكرني بما كنت قد قلته. فهو لا ينسى أبدًا ما قلته، ولا النبرة التي حكيت بها، ولا الإيقاع الذي عبرت به، ولا ما كانت عيناي تفصح عنه من الإحساس الداخلي لهذا المحكي. مهما تباعدت الأيام. ولذلك -كما أذكر- قرر ألّا يقرأ السيناريو. في الحوارات المتبادلة بيننا، كان قد ترسخ لدي أن تلك العينين هما بؤرة الإصغاء، والجسر إلى مستودع الكلام والصور التي تبادلناها ونطمح إلى تحقيقهما. هكذا كسر يوسف الأساليب التي تعلمناها من قبل، ودفع بالحوار حول الإبداع السينمائي إلى درجة عليا، مفتوحة وبلا حدود، من التفاهم الوجداني للعلاقة بين المخرج ومدير التصوير. في التصوير كان ما أردت التعبير عنه؛ من أحداث وشخصيات وتفاصيل، وبصمت مريب كان يوسف يعيد لي صياغته بالضوء، فترتسم أمامي الأحداث والمكان والوجوه، ويدعوني بعدها لأختار ما يجب تصويره.
***
في فلم «الليل» لم تكن لدينا أماكن عابرة للتصوير، وكل الأمكنة التي اخترتها، كانت تقع في مدن سورية متباعدة، حيث يسعى الفلم من خلالها إلى بناء مدينة «القنيطرة» التي توحد الأحداث التي يرويها الفلم. أي تلك المدينة التي كان الإسرائيليون قد احتلوها لسنوات طويلة خلال هزيمة 1967م؛ ودمروها كليًّا قبل أن يخرجوا منها بعد حرب عام 1973م. كان يوسف كلما أخذته إلى أحد الأماكن التي سنصورها؛ يتأمل مطولًا هذا «اللوكيشن» بصمت، ويصغي لعالمه الداخلي ويستعيد كل ما رويته له، ثم يسألني عن ذاكرتي لهذا المكان: فأقول له هنا يا يوسف! في هذه البقايا من الدمار كانت «دكان» أبي! وهناك حيث شجرة التين الميتة قبره… فتتناهى إليَّ لحظتها بحة صوته وأحرفه المتشظية عن أبيه! وتخضل في عينيه دمعة تلتمع وتحتبس على أطرافهما الصافيتين. ففي استطلاعات أماكن التصوير غدا يوسف كـ«نورس» يحط بروحه على المكان، ثم يعلو وهو يشدو بترانيم وضوء ولون الصورة التي سيحققها لهذا المكان. وفي التصوير كنت أحس أنه مع نفسه، يتذكر؛ يستعيد، ويستعيدني معه، ثم يناديني لأضع الكاميرا أينما أردت، ولأختار الزاوية والكادر الذي أشتهيه! وبعدها يطل على الكاميرا؛ ويرى الكادر ويبتسم ابتسامة لا تنسى، ثم يمضي ويصنع الضوء. وبعد كلمة: ابدأ!
يحتضن يوسف الكاميرا، كمن يعانق آلته الموسيقية، ثم ينقر بأصابعه على أوتارها، وينصت للصوت المنبعث منها ويمنح «الصورة» التي يصورها صوتها الموسيقيّ الخفي. ومن يومها أخذت أناديه: يا معلم الضوء تعالَ واعزفْ للصورة صوتها! فكان يبتسم وهو يترنم ويتخيل النغمة التي سيغنيها؛ فيصعد إلى عربة «الشاريو» ويمضي بها إلى ذاكرة مشتهاة وإلى ذاكرة متخيلة؛ أو محكية أو معيشة.
في المشاهد الخارجية النهارية؛ كان يوسف بعد أن يفكر كثيرًا؛ يأتي إليّ ويردد أمامي الحكمة التونسية السائدة: «الله غالب!». ويعبر لي كيف أن النهار بضوئه يغلبه ويعجز أن يحقق الصورة التي يريد. لم يكن أمامي وفاء وحبًّا للصورة التي يستطيع أن يسيطر على تحقيقها كما نشتهي إلا أن أحول الكثير من مشاهد الفلم من النهار إلى الليل. وأن أغير عنوان الفلم إلى الليل أيضًا.
وكان اختيار «القنيطرة» المدمرة بذاتها للعديد من المشاهد وتصويرها في هذه المدينة، وإعادة بناء ما يلزم الفلم استعادته كما كان قبل احتلالها. وهو ما جعلنا نقضي مدة طويلة من التصوير في هذه المدينة المدمرة، وأن نعيش خلال تلك المدة فيها. فاختار أبو خليل أحدَ البيوت المدمرة وسكنه حيث يستطيع أن ينفرد بنفسه، ويؤنس وحشته «ضفدع» اتخذه مساكنًا له في عيشه خلال تلك الأيام الطويلة. على الرغم من أن العاملين معه من مجموعة الإضاءة لا يفارقونه، ويتلقفون لتقديم أي شيء يحتاجه سواء في التصوير أو غيره.
***
بعد إنجاز «الليل» دعوت يوسف لتصوير الفلم التسجيلي الذي صورته في حلب مع المؤذن والمغني الحلبي الشيخ صبري مدلل بعنوان: «حلب مقامات المسرة» حيث نعمنا معًا بالضوء الوجداني الداخلي لهذه القامة الموسيقية التي تعدّ الذاكرة الوثائقية للتراث الأندلسي للموشح والتي حافظت عليه وأسست للمدرسة الحلبية في الموسيقا والغناء. بعد تصوير هذين الفلمين غدا يوسف لي شخصية «روائية» تتصدر ما كنت قد كتبته في سيناريو «سينما الدنيا». بل ربما في رواية قد أكتبها وقد لا. فمن أحببنا لا يموت إلا حين نموت نحن.
المنشورات ذات الصلة
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
«مندوب الليل» فِلْمه الروائي الأول علي الكلثمي: نعيش عصرًا ذهبيًّا تتوافر فيه سبل الدعم
أوضح المخرج السينمائي السعودي علي الكلثمي، أن المصادفة هي التي أوحت له بشخصية «فهد القضعاني»، مشيرًا إلى التخطيط...
«احكِ منامكَ حتى أراك» لخليل صويلح محمد ملص: مخرج لديه رغبة دفينة في ترجمة عمره الشخصي إلى أفلام
يستعير خليل صويلح قول سقراط (470- 399 ق. م) «تكلم حتى أراك» عنوانًا لكتابه الجديد «سينما محمد ملص- احكِ منامكَ حتى...
0 تعليق