كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
لقاء في باريس: بيكاسو وشاغال وموديلياني وفنانو عصرهم
العاصمة الفرنسية تتحول إلى مختبر كوني
يخال المرء نفسه في أثناء التجول في معرض «لقاء في باريس» أن العاصمة الفرنسية تحولت في مطلع القرن العشرين إلى ورشة عمل هائلة، مختبر كوني لتجارب وتقليعات وتيارات وحركات، منها ما هو فني، وما هو أدبي وما هو فكري وفلسفي، ومنها ما يخص السلوك ونمط العيش. وفي الواقع، باريس كانت، ولا تزال ربما، هذا المختبر الكوني، فهي مدينة لا تشبه بقية المدن في العالم؛ إذ مثلت في العقود الأولى من القرن العشرين ملاذًا لكل الفنانين والكتاب والمثقفين من أنحاء متفرقة من المعمورة، الهاربين من قمع السلطة في بلدانهم، أو الباحثين عن مناخ مثالي لتحقيق أحلامهم. وحسنًا فعل معرض اللوفر أبو ظبي، حين أتاح مثل هذه المناسبة للتعرف إلى باريس من خلال واحدة من حقبها الأساسية والجوهرية، حقبة طبعت تاريخ الفن كله بطابعها وأثرت على نحو حاسم في تحديد ملامح الفنون الحديثة.
«لقاء في باريس: بيكاسو وشاغال وموديلياني وفنانو عصرهم (1900- 1939م)»، معرض ينظمه متحف اللوفر أبو ظبي بالتعاون مع مركز بومبيدو ووكالة متاحف فرنسا، وافتتحته وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة نورة الكعبي وعدد كبير من المسؤولين الإماراتيين والفرنسيين، في سبتمبر الماضي، يزج بالزائر في حقبة فنية لا تزال حاضرة بقوة في عالم الفنون، يتيح المعرض الفرصة تلو الأخرى ليتعرف الزائر إلى فنانين ورسامين ونحاتين وملونين كبار وفوتوغرافيين، لهم طرائقهم ورؤاهم وتصوراتهم وفلسفاتهم التي دفعتهم باريس لبلورتها وتعميقها وإطلاقها بما يلزم من حماس وعنفوان وبصيرة ومثابرة لم تكل، حتى أصبح جل فناني تلك الحقبة علامات في تاريخ الفن العالمي، ويكتشف تيارات وأساليب ومدارس فنية طليعية تقدم العالم من زوايا فلسفية ورؤيوية جديدة، لم يعهدها العالم من قبل.
يقدّم المعرض، الذي يجمع 85 عملًا فنيًّا لأبرز الفنانين الطليعيين الذين برزوا في القرن العشرين، مثل: بابلو بيكاسو، ومارك شاغال، وأميديو موديلياني، وخوان غريس، وشايم سوتين، وقسطنطين برانكوزي، وتمارا دوليمبيكا وآخرين. ويبيّن مدى إسهام الفنانين الذين هاجروا إلى فرنسا في مطلع القرن العشرين في رسم المشهد الثقافي في العاصمة الفرنسية في ذلك الوقت. وهو يضم مجموعة من اللوحات والمنحوتات، بما فيها لوحة «غوستاف كوكيو» لبيكاسو (1901م)، و«صورة شخصية لديدي» لأماديو موديلياني (1918م)، و«الأب» لمارك شاغال (1911م)، و«فتاة بثوب أخضر» لتمارا دوليمبيكا (1927-30). وستتيح هذه الأعمال للزوار الاطلاع على حياة هؤلاء الفنانين ومسيرتهم الفنية في باريس من خلال إعادة تصوير المشهد الاجتماعي والثقافي الذي كان سائدًا آنذاك.
يسلّط المعرض الضوء على الأجواء الباريسية التي كانت سائدة في القرن العشرين، حين شهدت العاصمة الفرنسية نهضة فنيّة استثنائية نظرًا إلى تدفق الفنانين من رسامين ونحاتين ومصورين إليها من مختلف أنحاء أوربا وآسيا وأميركا، مع الإشارة إلى أن هذه المجموعة من الفنانين شملت نساء عدة. فبعد أن أُجبروا على مغادرة بلادهم بسبب الملاحقات السياسية والدينية، أو نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بحثوا عن حرية التعبير عن فنهم وعن بيئة تتيح لهم تبادل الأفكار المبتكرة. ومن ثم، فإن النظام الليبرالي الفرنسي في ظل الجمهورية الثالثة، الذي شجع على الانفتاح والتسامح الفكري، قد مهد الطريق للعديد من هؤلاء الفنانين الأجانب.
نشأة الحركات الفنية
ويتتبّع «لقاء في باريس» نشأة العديد من الحركات الفنيّة التي باتت اليوم تُعرف بأبرز الحركات التي حددت معالم الفن الحديث؛ إذ كانت الوحشية من أول الحركات التي ظهرت في هذا السياق، والتي يكتشفها الزائر من خلال أعمال عدّة منها «درجات الأصفر» لفرانتيشيك كوبكا (1907م)، و«نيني، الراقصة في ملهى فولي بيرجير» لكيس فان دونغن (1909م)، و«فيلومينا» لسونيا ديلوناي (1907م). ولا بد من الإشارة إلى أن فناني هذه الحركة كانوا منفتحين على المخاطرة الفنية ويستمدّون إلهامهم من فان غوخ وغوغان، وقد ابتكروا لوحات استخدموا فيها ألوانًا مشرقة وحادة. وتشكل لوحة «فتاة نائمة» لسونيا ديلوناي (1907م) خير مثال على أن استخدام الضوء والألوان في اللوحة يتعدى نقل المساحة والبعد فيها إلى نقل المشاعر والأحاسيس.
ويستمر زائر المعرض في تتبّع هذه الحركات الفنيّة فيكتشف التكعيبية من خلال أعمال بارزة مثل: «الفتاة والطّارة»، لبابلو بيكاسو (1919م)، و«طبيعة صامتة على كرسي» لخوان غريس (1917م). يُذكر أن بابلو بيكاسو ابتكر، بالتعاون مع الفنان الفرنسي جورج براك، مبدأ التكعيبية، مستمدًّا الإلهام من أعمال بول سيزان ومن المنحوتات الإفريقية. وتوضح أعمال بيكاسو الفنيّة المعروضة، مثل: «امرأة جالسة على كرسي» (1910م)، سعيه إلى عدم إيضاح الخطوط التي ترسم معالم الشخص في إطار تجريدي.
وفي تجوله في المعرض يطّلع الزائر على مختلف المناطق الفرنسية التي شكّلت مركزًا للفنانين، ومنها حي مونمارتر، وحي مونبارناس الذي شكّل مركزًا بوهيميًّا ونقطة التقاء للفنانين والكتّاب والشعراء. ويبيّن المعرض هذا التبادل الثقافي من خلال أعمال مثل: «ألفريد فليشتايم بزي مصارع الثيران» لجول باسكين (1925م)، و«من أجل روسيا والحمير والآخرين»، لمارك شاغال (1911م).
ولا يغيب فن التصوير الفوتوغرافي عن معرض «لقاء في باريس: بيكاسو وشاغال وموديلياني وفنانو عصرهم (1900- 1939م)»؛ إذ يشمل أعمالًا بارزة مثل «واجهات المحلات» لفلورانس هنري (1930م)، و«جسر نوف في الليل» لبراسّاي (1932م). فيما لجأ العديد من المصوّرين الأوربيين والأميركيين إلى فرنسا لأسباب سياسية أو بحثًا عن ظروف اقتصادية أفضل من تلك التي عانتها بلادُهم، طوّر مصوّرون مثل أندريه كيرتيس وإيلسِه بينغ نوعًا جديدًا من الحداثة في التصوير، وهو يبرز في المعرض عبر أعمال مثل «ظل برج إيفل»، لأندريه كيرتيس (1929م).
وسيتمكن زوار المعرض من الاطلاع على تطوّر المشهد الفني في باريس في تلك الحقبة من خلال مجموعة من الأدوات التفاعلية تبيّن إحداها رحلة الفنانين من مواطنهم إلى باريس، فيما تتيح أخرى للزائر الاطلاع على كيفية استخدام الفنانين للألوان، ليستكمل تجربته داخل مساحة تُعيد تشكيل أستديو الفنان قسطنطين برانكوزي لتسلط الضوء على البيئة التي عمل في إطارها وعلى علاقته بالأشخاص الذين رسمهم وبتلاميذه.
مجتمعات متغيرة
في حفلة افتتاح المعرض، تحدث مانويل راباتيه، مدير متحف اللوفر أبو ظبي، قائلًا: «يُسعدنا افتتاح موسم 2019/ 2020م بعنوان «مجتمعات متغيّرة» بإطلاق معرض لقاء في باريس: بيكاسو وشاغال وموديلياني وفنانو عصرهم (1900- 1939م). فهذا المعرض يُشكّل محطة هامة في المنطقة؛ إذ يسلط الضوء على حقبة بارزة في تاريخ الفن. في سياق موسمنا الثقافي الجديد، يبرز المعرض النتاج الإبداعي الذي رأى النور في فترة شهدت العديد من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، ويبيّن كيفية تأثير التبادل الفكري على نتاج جيل كامل من الفنانين. ولا بد لنا من أن نعرب عن امتناننا لشركائنا لإتاحة الفرصة لنا لإطلاع زوارنا على مثل هذه الأعمال الفنيّة الاستثنائية، ومن أن نشكر بشكل خاص مركز بومبيدو على تعاونه معنا في تنظيم هذا المعرض».
من جهتها، قالت الدكتورة ثريا نجيم، مديرة إدارة المقتنيات الفنية وأمناء المتحف والبحث العلمي في متحف اللوفر أبو ظبي: «يمكن القول: إن هذا المعرض لا يقدّم للزوار أعمالًا فنيّة فقط، بل يأخذهم في رحلة عبر الزمن ليعيشوا لحظات تاريخية هي الأبرز في تاريخ الفن الحديث، حين اجتمع الفنانون والنحّاتون والمصوّرون مع الكتّاب والموسيقيين والشعراء في مشهد ثقافي استثنائي. فإلى جانب أعمال كبار الفنانين، يتمحور هذا المعرض حول مدينة باريس مسلطًا الضوء على الدور الذي لعبته كمركز للابتكار والتبادل الثقافي، وعلى الفنانين الذين هاجروا إليها من جميع أنحاء أوربا وآسيا وأميركا، والذين باتوا يُعرفون اليوم باسم الفنانين الطليعيين».
يُذكر أن المعرض من تنسيق كريستيان بريان، رئيس أمناء المتحف ورئيس قسم الفن الحديث في المتحف الوطني للفن الحديث في مركز جورج بومبيدو، ومساعدة آنا هيدلستون، مساعدة أمين متحف في قسم الفن الحديث في المتحف الوطني للفن الحديث في مركز بومبيدو. أما سيرج لافين، مدير مركز بومبيدو، فرأى أن «مركز بومبيدو ساهم في مسيرة اللوفر أبو ظبي الفنيّة والفكرية. فقد أعار المتحف العديد من القطع الفنيّة البارزة من مجموعة المتحف الوطني للفن الحديث التي تلاقت مع مجموعة اللوفر أبو ظبي الفنيّة التي تضم العديد من الأعمال المهمة لكبار فناني القرن العشرين. وحين حان الوقت لنقرر موضوع أول معرض يقوم على التعاون ما بين المتحفين، اقترح فريق عمل اللوفر أبو ظبي فكرة هذا المعرض. والجدير بالذكر أن موضوع المعرض يأتي في إطار التبادل الثقافي الذي يسلّط الضوء عليه هذا المتحف العالمي الذي صممه جان نوفيل».
إلى جانب ذلك، قال كريستيان بريان، منسّق المعرض: «ظهرت تسمية «مدرسة باريس» للمرة الأولى في عام 1925م، ومنذ ذلك الحين استُخدمتْ للإشارة إلى الازدهار الفني الاستثنائي الذي نتج عن لقاء الفنانين والنحّاتين الذين اتّجهوا إلى العاصمة الفرنسية من أوربا وآسيا وأميركا منذ مطلع القرن العشرين إلى الحرب العالمية الثانية. فقد رغب الفنانون بالسفر إلى فرنسا نظرًا إلى المكانة العالمية للمدينة والمشهد الفني الذي كان سائدًا فيها آنذاك، والذي تبلور مع نجاح المعرض العالمي فيها في عام 1900م. ولكن الأهم من ذلك، كانت باريس للرسامين والنحاتين الأجانب مركزًا لمختلف أنواع الفنون».
لا بد من الإشارة إلى أن المعرض سيترافق مع برنامج ثقافي يشمل مجموعة من الفعاليات التي عملت على تنسيقها روث ماكنزي، الحائزة رتبة الإمبراطورية البريطانية، والمديرة الفنية لمسرح شاتليه في باريس والمديرة الفنية السابقة لمهرجان هولندا ومهرجان لندن لعام 2012م (البرنامج الثقافي الرسمي لألعاب لندن الأولمبية لعام 2012م).
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
سعد يكن.. وراء الفراشة، بألوانها الضاجة بالحياة، تختبئ الفاجعة السورية
ولد الفنان التشكيلي سعد يكن في مدينة حلب 1950م في حي الفرافرة، من أسرة تركية الأصل. شارك في أكثر من مئة معرض جماعي في...
0 تعليق