كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
وظفنا الدين لمصادرة العقلانية.. ومهمتي كانت ثورية
يرى المفكر السوريّ برهان غليون أن الفكر جزء من الممارسة، وأن المفكر، بالتالي، ينبغي له أن لا ينفصل عن المجتمع الذي يفكّر داخله، ولا يمكنه أن ينفصل عن سياقه الاجتماعيّ، وعن التفكير في التحديات التي يواجهها مجتمعه إذا كان شخصًا سليمًا، يتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه. قبل ثورات الربيع العربيّ، كان لصاحب «بيان من أجل الديمقراطية»، موقف من المعارك الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الدائرة فيه. وعندما اندلعت هذه الثورات قام بواجب المواطن، أي مواطن، في التعبير عن رأيه والمشاركة في رسم مصير المجتمع الذي ينتمي إليه.
برهان غليون، وفقًا لهذه الرؤية، لم يغادر موقعه بوصفه مثقفًا منخرطًا في تحويل مجتمعه وتغييره، ومقاومة نُظُم القهر من أيّ نوع كانت. وهو قذف بنفسه في الثورة السورية، كما يقول في حوار مع ـ«الفيصل»؛ مثل أي ناشط سوريّ، وقبل أن يرأس تآلف المعارضة للقيام بمهمَّة ثورية وليست سياسية، مهمَّة جوهرُها توحيد المعارضة، وحشدُ الدعم لثورة الشعب السوريّ، وتنسيق علاقاتها بالعالم. في هذا الحوار يتطرق مؤلف «اغتيال العقل»، إلى محطات من حياته وإلى أطوار من مشروعه الفكريّ.
على الرغم مما أوليته من اهتمام بمسألة الثقافة، بوصفها مجموعة القيم العامة، التي يستطيع العقل أن يطلّ من خلالها، إلّا أن هذه المسألة تبدو أبعد كثيرًا من أيّ اهتمام يمكن أن توليه الحكومات العربية، فهل يمكن أن نتوصل إلى حلول لمشكلة النهضة ومشاكل النهوض، من دون اهتمام بهذه المسألة الثقافية؟
– بالطبع لا. الثقافة والتعليم والتربية هي محور أساسيّ من محاور التحديث واللحاق بالعصر. ولا يعرف قيمة الثقافة، أي في الواقع إغناء شخصية الفرد وإثرائها من الناحية العقلية والأخلاقية والفنية، سوى المجتمعات المتقدّمة التي تراهن على الإنسان، وعلى قواه الإبداعية ومبادرته. المجتمعات التي لم تدخل المنافسة الحضارية تتمسك أكثر بالهوية الساكنة، وتتغطى بالتراث؛ لتخفي فراغها وهامشيتهاإزاء الحضارة والتاريخ؛ لذلك تميل إلى وضع التراث نقيضًا للحداثة أو الثقافة. وهي لا تكاد تفرّق بين الدِّين والثقافة؛ أي بين الهُوِيَّة والحُرية.
ضمن مشاغلك الفكرية الكثيرة، احتلَّت الحركة الإسلامية المعاصرة، وتأمُّل أسباب نشوئها وتطورها موقعًا مهمًّا، لكن هل توقَّعت أن تمضي هذه الحركة في سيرورات غير مفهومة لكثيرين حتى الآن؛ لتتكشف عما آلت إليه اليوم، أم أن ما يحدث في الراهن العربيّ ليس مفاجئًا؛ بسبب تراكمات وارتباك العلاقة بين الدِّين والدولة؟
– ما يحدث في مجتمعاتنا من عودة إلى الدِّين والتراث هو ثمرة سياساتنا الثقافية والقواعد التي تَبَنَّيناها في التعامل مع الفرد على مستوى الأسرة والعشيرة والدولة والمجتمع. وجميعها تُشكِّك في الحرية وتخافها، وللتحوط تمنع الفرد من التفكير العقلانيّ والحسّ النقديّ، وتشجّع لديه النزوع إلى الامتثال والتقليد والإمَّعِيَّة. عوضًا من أن يكون الدِّين أحد الموارد المثرية للشخصية العربية حوَّلته عقليةُ المحافظة والخوف من الحداثة والحرية إلى سياج يمنع الفرد من تمثُّل القيم الجديدة، والانفتاح على الأفكار والآفاق المبتكرة. وبدل من أن تتخذ معارضته واحتجاجه على أوضاعه المجحفة غالبا، وتعلُّم نقد السياسات الخاطئة، واقتراح بدائل سياسية، أو إصلاحات، والعمل على تطبيقها؛ فإنهم يميلون إلى قلب النظام، وتقويض أسسه المعنوية؛ أي تجريده من الشرعية، وإقامة نظام جديد مكانه. وليس لصعود المدّ الإسلاميّ منذ أربعة عقود سوى مُحرِّك واحد هو نزع الشرعية عن النُّظُم السياسية القائمة على أمل إقامة نُظُم أخرى مكانها أكثر تطابقًا مع ما يعتقدون أنه أقرب إلى العدالة مثلما تعرفها بعض الأوساط المشايخية. وهذا هو كما ترى ثمن التصحير الثقافيّ للمجتمعات وتحصينها ضدّ الحرية، واستخدام الدين بوصفه مصدرًا للشرعية، ومن ثَمَّ تسويغ الأوضاع القائمة. لا تستطيع النُّظُم التي تتلاعب بالشرعية الدينية كي تؤمِّن هيمنتها وسلامها أن تحول دون استخدام الشرعية ذاتها من خصومها؛ لتقويض سلطانها. وهذا يهدِّد الإسلام أكثر من أيّ دِين آخرَ؛ لأنه لا يوجد في الإسلام، مثلما هي الحال في المسيحية، أيُّ سلطة أو مرجعية دينية مركزية واحدة، تضمن ألَّا يتحول الدِّين إلى مصدر لشرعية مناقضة، بل لمرجعيات وشرعيات متنافسة. وهذا ما حصل عندنا، وكانت نتيجته كما هو واضح الفوضى السياسيةُ من جهة؛ أي: غياب أيّ نصاب واضح ومقبول للسياسة، وخراب السلطة الدينية نفسها، وانقسام مرجعيتها إلى تيارات ومذاهب لا يمكن لأي هيئة دينية أن تسيطر عليها من جهة ثانية. وهذا ما نسميه بعد ابن خلدون «خراب العمران».
لم أغادر موقعي
أين يمكن للمفكر أو المثقف أن يقف اليوم؟ ما الذي يستطيع أن يفعله في الواقع العربي الذي نعيشه؛ أنت -مثلًا- غادرت موقعك بوصفك مفكرًا له أدواته ومفاهيمه في تأمُّل التحولات والأشياء إلى موقع آخر فيه كثير من المواجهة والمباشرة مع الواقع، ثم بعد مدة أعلنت العودة ثانيةً إلى موقعك الأول؛ ما الذي خرجت به من هذه التجربة؟
– أنا أعتقد أن الفكر جزء من الممارسة، وأن المفكّر ينبغي له ألَّا ينفصل عن المجتمع الذي يفكِّر داخله، ولا يمكنه أن ينفصل عن سياقه الاجتماعيّ وعن التفكير في التحديات التي يواجهها مجتمعه إذا كان شخصًا سليمًا يتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه. قبل ثورات الربيع العربيّ كان لي دائمًا موقف في المعارك الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الدائرة فيه. وعندما اندلعت هذه الثورات قمت بواجب المواطن، أي مواطن، في التعبير عن رأيه، والمشاركة في رسم مصير المجتمع الذي ينتمي إليه.
أنا لم أغادر موقعي بوصفي مثقفًا منخرطًا في تحويل مجتمعه وتغييره، ومقاومة نُظم القهر من أيّ نوع كانت. لكنني رميت بنفسي في الثورة السورية مثل أيّ ناشط سوريّ، وقبلتُ أن أرأس تآلف المعارضة؛ للقيام بمهمّة ثورية وليست سياسية؛ جوهرها توحيد المعارضة، وحشد الدعم لثورة الشعب السوريّ، وتنسيق علاقاتها بالعالم. لكنني لم أكفّ عن التأكيد أنني لا أتطلع إلى احتلال أيّ منصب سياسيّ بعد انتصار الثورة. وبعد أن اضطررت إلى تقديم استقالتي بِناءً على طلب من الناشطين الثوريين، لم أرشّح نفسي إلى أي منصب جديد منذ أربع سنوات. كنت مع الثورة، وحاولت أن أضع المعارضة المنقسمة والمتنازعة في صفّها وخدمتها، لكنني أخفقت. وعدت إلى الصفوف التي أنتمي إليها، التي وضعتني بالرغم من المعارضة على رأس المجلس الوطنيّ.
الآن أنا في مكاني الأول، مثقّف في خدمة ثورة شعب فاقت تضحياتُه من أجل حريته واستقلاله كلَّ التصورات والحدود.
كتابك «بيان من أجل الديموقراطية» على الرغم من صدوره في وقت مبكر، فإن الاحتياج إلى قراءته، والتعمق في أطروحاته، يبدو اليوم أكثر إلحاحًا من أيّ وقت مضى، فمع ما أبرزته من مخاطر تتهدد العرب، فإن تلك المخاطر، لا تزال تكشف عن نفسها في أشكال وحركات ووجوه تتجدّد بتجدُّد اللحظة؛ في رأيك ما الذي يجعل مفكرًا ما أو أفكارًا ما، تحضر في كل الأزمنة ويغدو الاحتياج إليها ملحًّا باستمرار؟
– قراءة موضوعية وخالصة عن هوى الواقع والتاريخ. رؤية الواقع كما هو لكن ليس في صورته الجامدة، ليس كبنية ثابتة وجامدة، إنما كحركة وديناميكية واتجاه. وجوهرها الحس السليم أكثر من أيّ شيء آخر، مع التمكّن من بعض الأدوات المعرفية والعلمية. مشكلة القراءات الخاطئة التي يكذبها الواقع تنبع من أن الناس عامةً ينظرون إلى الواقع من خلال أهوائهم ورغباتهم وأوهامهم؛ لذلك يخطئون التحليل.
النخب أعادت الشعب إلى الحظيرة
«تحوّل الشعب المسكين إلى شعب من اللاجئين… لاجئين في أوطانهم»، تقول في كتابك «بيان من أجل الديموقراطية»: إلا أن الشعب المسكين لم يعد لاجئًا في وطنه، إنما خارجه، ماذا يَعْني لك ذلك؟
– عاشت شعوبنا قرونًا طويلة مُغيَّبة عن الفعل، وتابعة للطغاة الذين تعلّموا كيف يخضعونها على مرّ الأزمان. وعندما انهارت السلطنة العثمانية، تحرّرت الشعوب من هالة القوة والعظمة ورُهاب السلطة. وحدث في أعقاب ذلك أن النُّخَب الصاعدة من المجتمعات المحلية كانت في حاجة إلى دعم الشعب؛ لتعزّز موقفها أمام الاستعمار الغربيّ، وتحلّ محلَّ السلطة السلطانية الزائلة، فاضطرت إلى تعبئته، وإدخاله في الحياة السياسية، وأعطت له آمالًا كبيرة في المشاركة. وبفضله استطاعت بالفعل أن تربح النزاع مع الاحتلال وسلطات الوصاية الأجنبية، وتبني دولًا وطنية خاصة بها. وكانت هذه اللحظة من اللحظات التاريخية المهمة والمضيئة والحاسمة في تاريخ العرب الحديث.
لكن ما إن استتب الأمر لهذه النُّخَب حتى بدأت مسارًا معاكسًا، وهو إعادة الشعوب إلى الحظيرة، وإجبارها على التخلِّي عن مكتسباتها. منذ الاستقلال كان هَمُّ النُّظُم الحاكمة هو تجريد شعوبها من آمالها وتطلعاتها في المشاركة والتحوُّل إلى رجال أحرار قادرين على المساهمة في تقرير مصير مجتمعاتهم. باستثناء مرحلة سيطرت عليها الشعبوية؛ أي: مخاطبة الشعب المهمَّش مع الإبقاء على تهميشه، وهيما نُسمِّيه المرحلة القومية؛ إذ اصطبغ تاريخ هذه الشعوب بالديكتاتورية الدموية وحكم القهر والعنف.
بعد ثورات الربيع العربيّ التي فجَّرت العنف المختزن لدى الشعوب لم يَعُد من الممكن ضبط المجتمعات بالديكتاتورية والقمع، ولم يَعُد لدى النُّخَب الحاكمة مجال للاحتفاظ بالسيطرة إلا بتشريد هذه الشعوب وتخييرها بين الخضوع أو الموت أو الهجرة. وللعلم قبل هجرات ما بعد الربيع العربيّ كانت نسبة المهاجرين من العرب بالنسبة إلى تعداد السكان هي الأعلى بين كل شعوب العالم. الآن سيتضاعف اللجوء بوتيرة قياسية، وسيحتاج العالم إلى عقود حتى يستدرك تأخره عن العرب في هذا الميدان.
سوء الإدارة، والديكتاتورية، والعنف، والفساد، وانعدام المسؤولية، والاستهتار بمصير الشعوب ومصالحها، وانسداد الآفاق؛ حَوَّلَ مجتمعاتِنا إلى مجتمعاتٍ طاردةٍ أبناءها، وهذا هو الدليل على أننا سرنا ولا نزال نسير على الطريق الخطأ.
تعرضتَ في المدة الأخيرة إلى الانتقاد، وطالتْك الاتهاماتُ من خصومك؛ ما موقفك من هذه الاتهامات والانتقادات؟
– أسمع عن هذه الاتهامات من أصدقاء لكنّ نادرًا ما أقرؤها. هناك دائمًا ما يشغلني أكثر من ذلك. وفي الحقيقة لا أشعر أن لديَّ رغبة في الخصومة مع أحد. لديَّ شعور بالواجب، والقيام بهذا الواجب هو المهمّ، بصرف النظر عما يثيره ذلك من اعتراضات وانتقادات واتهامات لدى الآخرين. أعرف أن هناك من اتهمني بالإلحاد علنًا في القنوات التلفزيونية؛ لأنني كما يرى عِلْمانيّ، ومن يتهمني بدعم من الجهاديين والتكفيريين. لا أعتقد أن هناك أيّ الْتِباس في موقفي منذ بدأت الكتابة: أنا مع الدولة الديمقراطية واحترام الحريات والآراء الشخصية، والتعايش بين المذاهب والأديان والأعراق، وتنمية القيم والأخلاق الإنسانية التي تَعْنِي المساواة العميقة ونبذ العنصرية، والرهان على تربية وعي الفرد المدنيّ والأخلاقيّ، من أيّ قومية أو دِين.
حاولت في العقود الماضية أن أعمل كل ما بوسعي؛ لتفكيك القنبلة الموقوتة التي هي الصدع داخل مجتمعاتنا بين الإسلامية والعِلْمانية الذي عمل عليه وعمَّقه مثقفون ورجال دِين صغار وضيِّقو الأفق ومتعصبون. وسعيت للمساهمة بكل ما كتبت في ردم الهُوَّة بين شقَّي المجتمع المنقسمين؛ لاعتقادي أنه من دون ذلك لن يكون لدينا أمل؛ لا في ديمقراطية، ولا دولة، ولا أمن، ولا سلام، ولا تقدم، ولا ازدهار. لكن لا حياة لِمَن تُنادي. وها نحن نعيش انفجار هذه القنبلة التي صنعناها بأنفسنا في جسدنا، وتفجيرها ثوراتنا، وإحراقها ربيعنا المأمول.
عندما تجلس أمام مرآة نفسك، كيف ينظر برهان غليون الشيخ إلى برهان غليون الشاب، أي منعرج تراك سلكته بعد أعوام وأعوام من الاشتغال المثابر والالتزام، ما الذي تغير في رؤيتك؟ وماذا تبدل في آليات اشتغالك؟
– أشعر أنني بين بين. لم أعد كما كنت بالتأكيد لكنني لم أصبح شيخًا بالتأكيد أيضًا. ما زلت أحلم وأعتقد أن هناك قيمًا وغاياتٍ كبرى لا يمكن التوقف عن الصراع من أجل تحقيقها. وهذا هو معنى الشباب في نظري؛ استمرار الحلم والتطلع إلى الإنجاز والتعلُّق بالتحولات الكبرى والمثيرة. ما دام الإيمان بالحرية والعدالة والمساواة والأخوة هو الذي يسكننا ويحركنا ويلهمنا فنحن لم نغادر الشباب. كما ترى لا يزال الشاب يصارع الشيخ، بالرغم من فتور الهمة والعزيمة.
معولمون أم مشاركون؟
تقول: «لا يمكن درء مخاطر العولمة وهي كبيرة سوى بالاندراج فيها تمامًا كما هي الحال مع الانحناء للعاصفة»، هناك من يرى أن العرب شاؤوا أم أَبَوْا هم مندرجون في العولمة، في شكل أو آخر، لكن من دون وعي، اندراج هشّ من دون أسئلة يطرحها العرب على أنفسهم في هذا الشأن؟
– بالطبع. نحن لا نختار أن نكون في العولمة أو ضدها؛ لأننا لا نستطيع أن نخرج من العالم. لكننا نستطيع أن نختار بين أن نكون معولمين بالرغم منا أو مشاركين بشكل واعٍ، ومتفاوض عليه في العولمة التي تريد طحننا. ولأننا لم نَسْعَ للمشاركة فيها، ولم نفاوض على موقعنا ولم نَعُدّ شروط الانخراط الإيجابيّ فيها، ونطوّر سياساتنا، وهياكل مجتمعاتنا بما يجعلنا جزءًا من المجتمع الصناعيّ والتقنيّ والثقافيّ العالميّ المنتِج، أصبحنا سُوقًا استهلاكية للدُّوَل المتحكِّمة فيها، ونحن نتحول إلى قِطَع غيار لها أو موادّ خام لخدمة أغراضها من موارد وقوى بشرية. ومهاجرونا هم جزء من هذه الموادّ الخام التي نصدّرها إلى السوق المعولمة. رفضنا الحداثة المنتِجة والفاعلة، وتعلّقنا بالحداثة الرَّثَّة فلم يَبْقَ أمامنا من خيار سوى العولمة السوقية؛ أي: نفايات العولمة، وضحايا ديناميكياتها التدميرية. ولا يمكن فهم ما حصل لنا في السنوات الخمس الماضية ومصير تحوُّلاتنا السياسية إذا لم نراجع تفكيرنا، ونفهم إخفاقنا في تطوير نُظُمنا المدنية والسياسية والإنتاجية؛ لتصبح على مستوى التفاعل المنتج مع الفضاءات العالمية، وتحمينا من مفاعليها السلبية.
لكل خطاب جمهوره
في تعاطيك مفكرًا وكاتبًا مع الثورة السورية وتداعياتها الدموية، تتخفّف كثيرًا من عتادك بوصفك مفكرًا؛ تكتب بلغة مباشرة وواضحة، بعيدًا من لغة المفاهيم، والتراكيب المعقدة، هل لكل لحظة أسلوب تعبير مختلف، «منطوق» يأخذ شكله من ملامح راهنيته؟
– كل كتابة أو بالأحرى خطاب هو تواصل أو محاولة تواصل مع جمهور. في الكتابات العلمية يكون التواصل مع المختصين، ولا بد من استخدام لغة الاختصاص؛ كي يكون لخطابك معنى، ويتَّسق مع الميدان الذي يصبّ فيه. في الكتابات الموجّهة لجمهور عامّ من غير المختصين تشكِّل اللغاتُ الاختصاصية عائقًا للتواصل؛ لذلك يميل المتكلم إلى استخدام لغة مفهومة من الجميع. أعتقد أن السهولة في الانتقال من لغة مخاطبة إلى لغة أخرى ناجمة عما ذكرته من قبلُ في التمييز بين العالِم الاختصاصيّ وبين المُفكِّر. حتى الكتب العلمية أو المختصة، لم يكن هَمّ التواصل مع أوسع جمهور ممكن غائبًا عن جيل الباحثين العرب الذين اشتهروا في الحقبة الماضية. ثم إن هؤلاء كانوا على العموم ذوي هموم سياسية ومعظمهم جمعوا في حِقَب مختلفة الهَمَّ السياسيَّ والهَمَّ المعرفيَّ؛ من عبدالله العروي إلى محمد عابد الجابريإلى هشام جعيط، وهناك كثيرون غيرهم.
نكبات كثيرة حدثت في أصقاع متفرقة من العالم، وكانت تداعياتها مؤثِّرة ومثيرة لكثير من الأسئلة والتساؤلات، ومُدرّة سيلًا واسع من التعاطف، لكن نكبة اللاجئ السوريّ كانت مختلفة؛ مشاهد الفرار ليس من سوريا فحسب، إنما من العالم العربيّ كله، كانت مرعبة، لكن السؤال هنا يتعلق بالآخر الغربيّ، الذي من جهة يمثِّل سببًا رئيسًا فيما يحدث، بتشجيعه السياسات المتعجرفة من جهة، وصمته أحيانًا عن تغوّل بعض الأنظمة من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة يمارس مفهوم الدولة ودولة القانون، ويبدي تفهمًا كبيرًا لحقوق البشر أينما كانوا، ويفتح لهم حدوده؛ كيف ترى مواقف الغرب؟
– الغرب الذي كنا نعرفه ونطابق بينه والنزعة الكونية والإنسانية قد انتهى. وولد في مكانه غرب نثريّ يتحوّل بشكل متسارع إلى الركاكة والرثاثة الأخلاقية والقِيَمية. غرب لم يَعُدْ هو نفسه منتشيًا بتاريخه ومبادئه وحضارته الفكرية. كل نخبة اجتماعية تهتمّ اليوم أكثر بشؤونها الداخلية، وإرضاء ناخبيها، وتأمين عملية انتخابية مقبولة، وطمأنة الناخبين على استمرار المرافق والخِدمات العامة والتأمين الصحي ودعم النمو وإيجاد فرص عمل جديدة.
الغرب يعيش اليوم في تاريخية عادية ليس لها أيّ علاقة بتاريخية العظمة التي كان يسعى للحفاظ عليها سواء أكان بوساطة تطلُّعه إلى القيادة والسيطرة الحضارية والتماهي مع القيم الإنسانية الجامعة وحقوق الإنسان، أم بوساطة مساعدته الشعوب الأخرى؛ للحاق برَكْب حضارته التي كان يراها دائمًا كونية. أحداث ربيع الثورات العربية الكبيرة أظهرت انسحاب الغرب وتقوقعه على ذاته، ليس على مستوى نشر القوى العسكرية، إنما على مستوى المبادئ والقيم والتطلُّعات. لا يريد أن يكون محسنًا ولا كونيًّا ولا قدوة ولا حاميًا ولا وصيًّا. يريد أن ينقذ رهاناته الأساسية. وهو يراها أكثر فأكثر في الحفاظ على التناغم والانسجام داخل مجتمعاته وبيئته الداخلية. الأمن والصحة والسلام هي القيم الثلاث الرئيسة التي تحكمه وتتحكم في سلوكه. ومن الطبيعيّ أن تبدو موجات الهجرة القادمة تهديدًا كبيرًا لهذه التوازنات، ما لم ترد على حاجة اقتصادية مثلما هي الحال في ألمانيا. لم يفقد الغرب إرادة السيطرة العالمية التي كانت تحرّكه لكنه فقد -أيضًا- «كرمه» المعنويّ أي أريحيته. ما يريده اليوم هو الراحة والاستقرار والرخاء.
باختصار، الغرب يعرف اليوم أنه ليس العالَمَ، وربما لن يَبْقى طويلًا في قلب العالَم، ويريد أن يحتفظ بما يمتلكه من تراث وقِيَم لنفسه. لا يهمُّه الآخر؛ أي: لا يهمه موت الآخر -أيضًا- ولا مصيره.
اعتدنا نمطًا من المعارضة يكون وجهًا آخر للنظام؛ يتماهى معه ويسوِّغ أفعاله، ويسوِّق برامجه؛ كيف يمكن أن نصل إلى معارضة تفضح بشاعة النظام وتواجه تغطرسه، وتساعده على اكتشاف خططه الخاطئة، وتهوره في صنع القرار؟
– في غياب الحريات، كما هي الحال في جميع النُّظم غير الديمقراطية، لا توجد ولا يمكن أن توجد معارضة فعلية وفاعلة وديناميكية. المعارضة هي وظيفة سياسية في نظام يسمح بتعدُّد القوى، ويعترف بتعدُّد المصالح والرُّؤَى ووجهات النظر، وبشرعية التنافس بوصفها آلية للتصحيح والتعديل؛ لتحقيق الانسجام والتوازن فيما بينها، ومن ثَمَّ الاستقرار الطويل المدى. في غياب هذه الوظيفة وهامش المنافسة المرتبط بها؛ تنشأ معارضة شكلية هدفُها التغطية على الجمود وانعدام إمكانية التعديل والتصحيح، من جهة، وهي بالضرورة معارضة طفيلية تعيش على جسم النظام. وهذا هو وضع معظم معارضاتنا؛ إذ تغيب هوامش الحرية. أما الوظيفة الأساسية التي تسمح بتعديل الأوضاع وتسوية المصالح فيما بينها، فلا تتحقق من داخل النظام لكن من خارجه، وتتخذ شكل رفض له، وتَتمرَّد عليه. وهي بالضرورة ودائمًا ذات طابع متطرِّف، وفي مجتمعاتنا الفقيرة بالثقافة السياسية، يتخذ تمرُّدُها وتطرُّفها شكلَ انشقاق لا يجد مصدرًا للشرعية سوى الدِّين. هذا هو أصل نشوء الحركات الإسلامية السياسية. ومن الواضح أنه لا المعارضة العائشة كالطفيليات على جسم النظام القائم، ولا المعارضة التمرُّدية الناقمة على النظام والرافضة لشرعيته ووجوده؛ قادرةٌ على ملء الوظيفة الشاغرة التي تتعلق بإيجاد آلية للحراك الاجتماعيّ والسياسيّ والتعديل السلميّ والتفاوضيّ للمصالح والتوازنات؛ كي يتحقق حدٌّ من الانسجام والاستقرار. الحلُّ هو خلق شروط المعارضة السياسية الطبيعية، وهي مرتبطة بولادة أنظمة سياسية ديمقراطية تعدُّدية وتداولية.
لزمن طويل هيمنت الثنائيات على خطاب الفكر العربيّ، الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة، إضافة إلى موضوعات عامة، تكاد لا تمتّ بِصِلة إلى مجتمع معيَّن، على ما يذهب الكاتب حازم صاغية، وهو يتأمل حالتك بوصفك مفكرًا يواجه عنفًا لفظيًّا، ويعاين انتقالك من العامّ المحض إلى الوطنيّ المحدّد، إذًا هل نحن أمام لحظة ستغير كثيرًا من قناعات المفكر؛ أي مفكِّر، وستَهَبه فرصة لا تعوّض؛ لاختبار كثير من أفكاره في لحم الواقع؟
بالتأكيد. طرحتْ علَيَّ الممارسةُ أسئلةً وإشكالياتٍ وتحدياتٍ لم أكن أعرفها ولا أتوقعها. وأنا أشعر أن هناك ورشات عمل نظرية كثيرة، كنا قد تجاهلناها وهي تفرض نفسها بقوة الآن. فيما يتصل بي، بعد تركيزي في مؤلفاتي السابقة على محورَيِ الثقافة والسياسة؛ أشعر اليوم أن هناك عملًا نظريًّا كبيرًا لم نقُمْ به بعدُ على صعيد تحليل المجتمعات المدنية، أو البِنَى الاجتماعية والأنثربولوجية والنفسية والأخلاقية لهذه المجتمعات. إذا لم تغيِّرْ مثلُ هذه الأحداث العظيمة والمآسي والإخفاقات الرهيبة أفكارَنا فلن تتغير أبدًا. ولا أتحدث عن المفكرين والعلماء فحسب، إنما عن عموم العرب وإنسانهم.
العنف سببه الإخفاق في الاندماج
تعيش في باريس وتعمل في جامعتها المرموقة، لكنك بقيت منخرطًا في قضايا الواقع العربيّ؛ كيف ترى اليوم ما يحدث في الغرب، وبخاصة باريس، من اعتداءات وإرهاب، يقوم بها أناس يحملون جنسيات أوربية، وفي الوقت نفسه ينتمون إلى الإسلام والعرب؛ لماذا على الإسلام و«العربي» الذي يعيش أوضاعًا مأساوية في أطوار كثيرة من تاريخه، أن يدفع ثمن كل ذلك؟
ما يحدث من عمليات عنف يقوم بها فرنسيون أو أوربيون من أصل عربيّ مسلم هي نتيجة الْتقاء عاملين؛ الأول إخفاق بعض المهاجرين في الاندماج في مجتمعاتهم؛ لأسباب شخصية أو جماعية، والأزمة الكبرى التي تعيشها المجتمعات العربية وانعكاساتها على هؤلاء المهاجرين في العمق هي تعبيرٌ عن اليأس الذي يلعب في إنتاجه إخفاق سياسات الإدماج في كثير من الدول الأوربية، وإخفاق إقلاع المجتمعات العربية وتقدُّمها، والسبب الثاني هو وجود البيئة المتفجّرة الداعمة نفسيًّا وماديًّا فوضى الصراع الدامي الذي تعرفه المجتمعات العربية الراهنة. وكلاهما أزمة اندماج المهاجرين أو الأوربيين من أصول مسلمة عربية، وأزمة اندماج المجتمعات العربية في الحضارة وتحقيقها تطلعات شعوبها يوجِّهان إصبع الاتهام إلى الغرب.
عمليات الاعتداء التي تتكرّر تعكس رُوح الانتقام التي تعبِّر عن التخبُّط واليأس أكثر مما تعكس رؤية لأيّ مشروع طويل المدى. هي ردود أفعال مخفقة لأُناس مخفقين يغطّون على إخفاقهم باستعراض أقصى ما يمكن من العنف والقوة والعدوان على الأبرياء.
العرب وإيران
قلتَ ذات مرة: إن غياب أجندة قومية أو إقليمية لدى العرب، غذى شراهة التوسع والاستحواذ لدى إيران، وعوضًا من أن تكون ظَهِيرًا للعرب، تحوَّلت إلى عامل يُقسِّم الدولَ العربية ويشتّتها، لكن كيف ترى الدعوات التي تطلقها بعض الأنظمة العربية إلى إيران؛ لتحقيق علاقة يطبعها حسن الجوار، وتوحيد المواقف تجاه مكامن الخطر على إيران والعرب، بحكم الدِّين الذي يجمعهم؟
لم يَعُدِ الدِّين يجمع أحدًا، حتى داخِل المذهب الواحد. وأنت ترى الصراعات داخل صفوف الحركات الإسلامية السياسية ذاتها. منطق العلاقات الدولية شبيه بالأواني المستطرقة، حيثما يظهر فراغ تتحرك القوة الأقرب لِمَلْئِه. ما تبقَّى هو خطاب لإضفاء الشرعية على الفعل. لكن الفعل لا علاقة له بالخطاب، لكن باختلال التوازنات في القوى. ما حصل في منطقتنا هو أن إيران تَحوَّلت إلى قوة نشيطة بعد الثورة الإسلامية التي عرفتها في الثمانينيات، مزوّدة بإرادة تأكيد للذات، وبعقيدة دينية قومية جامعة، وبسلطة فردية استثنائية فيما تملكه من الشرعية؛ إذ لا تشبه سُلطةُ الوَلِيّ الفَقِيه سلطةَ أحد سوى بابا الكنيسة الكاثوليكية. وقد عمَّق العداء الغربيّ لها من لُحمتها الداخلية، وبعث فيها رُوح التحدِّي والتطلُّع إلى الهيمنة الإقليمية. وجاءت الحرب الدولية لإسقاط النظام العراقيّ؛ لتفتح أمام طهران الخُمينيةآفاقًا واسعة لممارسة سياسة التوسُّع باسم نشر الثورة ومبادئها. وفي سياق هذه السياسة التوسعية وركابها انتعشت رُوح المذهبية الدِّينية، وصارت سلاحًا إضافيًّا لزعزعة استقرار البُلدان العربية التي تعيش في فراغ إستراتيجيّ كبير بعد سقوط الحاجز العراقيّ وتسهيل اختراقها.
وقد نجحت طهران في إيقاع أكثر من نظام عربيّ في أحابيلها، وراهنت على تعبئة القوى المحلية المذهبية، وبقينا خاملين، نراهن على قوة الدعم الأجنبية اعتقادًا أن الولايات المتحدة الأميركية قادرة عند الحاجة على الدفاع عن حلفائها. بينما كانت طهران تنمِّي قواها، كنا نبني الفنادق والمركبات السكنية الفاخرة.
ليس من الممكن عودة الاستقرار والأمن والسلام إلى المنطقة من دون استعادة التوازن الإستراتيجيّ بين العرب وإيران. وهذا يستدعي إعادة هيكلة النظام العربيّ الوطنيّ والإقليميّ؛ ليصبح متماسكًا وقادرًا على المقاومة العسكرية والمعنوية.
مقبلون على حقبة طويلة من الحروب
كيف تَصِفُ هذه اللحظة التي يعيشها العرب، لا يكاد بلد عربيّ يخلو من مأساة؛ هل يُعقَل أن يكون كل ذلك بسبب «الربيع العربيّ»، وهل فعلًا نحتاج إلى عشرات الأعوام –وفق رؤية بعض المتخصصين- لتحقيق الاستقرار وأهداف ثورات الربيع العربيّ؟
هذه ثورات لم تعرفها المجتمعات العربية من قبلُ؛ لأنها تعكس قِيَمًا وتطلعاتٍ جديدة. بعد قرون من التبعية والإمَّعِيَّة وامِّحاء الشخصية؛ أدرك العرب، أو جزءٌ من نُخَبهم الثقافية والاجتماعية، أنهم بشر، وأن الهُوِيَّة البشرية تَعْني التمتُّع بالحرية والسيادة على النفس والكرامة، والمشاركة في تقرير المصاير العمومية. وفي الثورة أرادوا أن يعلنوا تحوّلهم من أفراد موالين لهذا وذاك إلى شعب مستقلّ عن السلطة الفردية، له إرادة، ولديه وعي بحقوقه ودَوْره، وقادر على تحمل المسؤولية عن نفسه وكل فرد فيه. نزل إلى الشوارع بالآلاف؛ ليقول للطغاة الذين قَضَوْا عقودًا في إقصائه، واستخدموا لتحقيق ذلك كلّ الوسائل الناعمة والخشنة والعنيفة والإرهابية، لقد تحرَّرت منكم وأصبحت أنا السيد والكلمة لي منذ الآن، وأنا أقرّر مَن يمثّلني، ومَن أُقلِّده المسؤوليةَ بمقدار ما يبعث فيَّ الثقةَ والقدرة على القيام بالواجب. تصرَّف الطغاة والملتفون حولهم والمستفيدون من حكمهم من النُّخَب المنفصلة عن شعوبها والمنفصمة في شخصيتها مثلما يتصرَّفُ مُلَّاك العبيد الذين كان لهم كامل الحقوق على العبد؛ حتى قتله وانتزاع رُوحِه. ووجد هؤلاء من بين القوى الأجنبية مَن يخشى ولادةَ شعوب حُرَّة ليس من السهل السيطرة عليها والتحكم في قرارها وشراء سكوتها. ودخل إلى جانب هؤلاء من القوى مَن اعتقد أن الفرصة أصبحت سانحة للسطو على مقدَّرات الشعوب وتهجيرها؛ لانتزاع مواردها وأرضها. وهكذا انتقلنا من معركة تحرُّر سلمية إلى مَحْرَقة تاريخية للشعوب العربية، زجّت فيها الجيوش والميليشيات المحلية والإقليمية وبعض الدولية. وشيئًا فشيئًا تحوَّلت إلى حرب دولية على الهيمنة الإقليمية جرَّت وراءها جميع شعوب المنطقة.
من الآن فصاعدًا، لن تخمد نار الحرب، ولن يهدأ القتال قبل أن يصبح احترامُ حقوق الإنسان؛ أي: كرامته، القيمةَ المشتركة بين جميع نُظُم المنطقة، وتستعيد الشعوب في بلدان المشرق كافة سيادتها واستقلالها وتفاهمها؛ لذلك نحن سائرون إلى حِقْبة طويلة من الحروب المتعددة الأشكال والأهداف والمفاجآت، قبل أن تستقرّ المنطقة كلها وليس هذا البلد أو ذاك، على قاعدة مشتركة ومقبولة من الاحترام المتبادل، داخل الدول وفيما بينها، تحلّ محلّ قاعدة الغزو المنفلت التي بدأتها النُّخَب المحلّية على شعوبها، واستكملتها إيران الخُمينية باسم نشر الثورة وتسعيرها.
تتفشى في العالم العربيّ النزاعات الطائفية، ولا يزال هناك من يردُّها إلى المسألة الدينية، كأنما هم يدافعون في شكل أو آخر عن غياب الدولة؛ إلى أيِّ حدّ يمثّل مفهوم الدولة الغائب سببًا جوهريًّا ليس في تفشي الطوائف فحسب، إنما في كل ما يحدث من نزاعات؟
ليس هناك مجتمعات صافية المذهب والدِّين، لا اليوم ولا في الماضي. التعدُّدية الدِّينية والمذهبية هي القاعدة في كل المجتمعات، حتى تلك التابعة لِدِيانة واحدة. والطائفية هي توظيف هذا التنوُّع في مشاريع سلطة أو سيطرة أو هيمنة أو غزو. الطائفية كما نشهدها اليوم هي إستراتيجية واعية وهادفة، تطبِّقها نخبة سياسية، وفي معظم الأحيان نُظُم سياسية ليست بالضرورة دِينية، وربما تكون علمانية؛ لِتحقيق أهداف سياسية؛ لذلك قلت أكثر من مرة: إن الطائفية مسألة سياسية، وليست مسألة دينية. الدِّين يستغلّ فيها لصالح السياسة والسلطة وليس العكس. فمهما حاولنا إقناع الناس بعدم التعصب فلن نصل إلى نتيجة؛ لأن ما يقودهم إلى خوض الحروب ليس تعصبهم إلى الدِّين، إنما تطلعهم إلى المكاسب السياسية والدُّنيوية التي يجنونها من استخدامها.
وهناك اليوم صيغتان للإستراتيجية الطائفية في منطقتنا:
الأُولى: هي الإستراتيجية السياسية؛ للحفاظ على السلطة أو تعزيزها من نظم أقلية بكل المعاني؛ السياسية والاجتماعية وأحيانًا العشائرية، تستخدم تأجيج التوترات الطائفية؛ لتحمي نفسها من احتمالات قيام تفاهم شعبيّ واسع ضدَّها؛ أي لإجهاض تطوُّر معارضة لها ذات قاعدة شعبية عريضة، وكثير منها يستخدم تفجير الكنائس والمساجد من وقت لآخر؛ لِيُبقي نفس الطائفية مستعرًا في مجتمعه، ويعطي نفسَه موقعَ الحكم والضامن للأمن والاستقرار. وهذا حصل قبل الثورات العربية في أكثر من بلد عربيّ.
الثانية: هي إستراتيجية توسُّعية تستخدم فيها النُّظم السياسية والدول التعبئة المذهبية؛ لتعزيز خُطَطها التوسعية، أو لتقوية نفوذها داخل البلدان الأخرى، سواء أكان ذلك بوساطة تفجير هذه البلدان من الداخل، أم حشد القوى والميليشيات الطائفية للضغط عليها، وهذه هي اليوم إستراتيجية التوسع الإيرانيّ في المشرق، القائمة على شحن النزاعات الطائفية وتحويلها إلى قوة ضغط خارجية؛ لإضعاف مناعة هذه المجتمعات أو حتى تفجيرها من الداخل؛ للسيطرة عليها أو اختطاف حكوماتها ودُولها.
لن نستطيع بعد اليوم إعادة مارِد الطائفية، والشحن المذهبيّ إلى القُمْقُم ما لم نُقِرّ مبادئ أساسية مقبولة ومعترف بها من الجميع؛ لتنظيم العلاقات داخل البلدان بين أبنائها ومواطنيها؛ أي: ما لم نتمثل رُوح المواطنة وأولويتها بوصفها قاعدة لضبط العلاقات بين الأفراد أولًا، ولتنظيم العلاقات بين الدول على أساس الاحترام المتبادل لسيادة الشعوب، من جهة ثانية. ولا نزال بعيدين جدًّا في منطقتنا من ذلك.
تعميق الشرخ بين الأقليات والأكثرية
يشيع الآن أن أميركا وأوربا تغذي الأقليات تحت زعم الوقوف إلى جانبها، والضغط على الحكومات العربية أو سواها؛ لتطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية؛ إلى أيِّ حدٍّ يمكن أن نصدِّق ذلك؟
هناك بالتأكيد اليوم قلق كبير في الغرب من مصير الأقليات؛ بسبب تصاعد موجة الإسلام السياسيّ، وبخاصة دَوْر التنظيمات الإسلامية الجهادية، واحتمال سيطرتها على السلطة. لكن قَصْر القلق على مصير الأقليات فيه إجحاف بالأغلبية، وسوء تدبير وتفسير -أيضًا- للأزمة السياسية المتفجّرة التي تواجهها اليوم معظم المجتمعات العربية والإسلامية. فالخطر يَمَسّ الجميع، وشاهدنا في السنوات القليلة الماضية تعرّض المسلمون أنفسهم لاضطهاد التنظيمات المتطرفة التي تَدّعي الإسلام تمامًا مثلما تعرض له المسيحيون وغيرهم من الأقليات وأحيانًا أكثر.
أما سوء التدبير فهو ناجم عن الأثر السيِّئ لمثل هذا التركيز في مصير الأقليات وتجاهل الأكثرية. فهو يعزِّز الشكوك فيها بين شركائها في الوطن، ويعمِّق الشعور بين أبنائها -أيضًا- بأنهم يتمتّعون بحماية أجنبية، ويدفعهم إلى رفع سقف تطلُّعاتهم. والنتيجة تعميق الشرخ بين الأقليات والأكثرية، وإضعاف قدرة المجتمعات وميلها إلى المفاوضات الداخلية؛ لحلّ مشاكلها، وزيادة الرهان على الحمايات الخارجية.
الواقع لم يخدم تركيز الغرب في مصير الأقليات منذ القرن الثامن عشر؛ لا الأقليات ولا الأكثرية، لكنه حرم المجتمعاتِ تكوينَ أُمَّة موحّدة ومتفاهمة وقادرة على تطوير أساليب التفاهم ومنطقه، وحوّل الأقليات إلى كبش فداء في الصراع المحتدم والمستمر بينه وبين الشعوب النازعة إلى التحرّر والاستقلال والسيادة.
مسألة الأقليات الدينية والعرقية موجودة في كل المجتمعات الحديثة؛ بسبب نزوع الدولة الوطنية إلى مطابقة الهُوِيَّة الثقافية والهُوِيَّة السياسية، وليس لها حلّ إلا في توسيع دائرة الحُرِّيات الجماعية في هذه الدولة. وهذا ما وصلت إليه المجتمعات الأوربية في نهاية القرن العشرين حين أصدرت أوربا وثيقةً بذلك، لكنها لا تتحول إلى مشكلة إلا عندما تستخدم من الخارج أو الداخل لأغراض سياسية؛ أي: لهدف تمكين السيطرة الخارجية مثلما حصل في القرن الثامن عشر والتاسع عشر في المشرق، ومثلما يحصل اليوم عندما تسعى طهران لجرِّ بعض الطوائف إلى العمل وَفْق أجندتها التوسُّعية، أو تمكين السيطرة الداخلية مثلما فعل نظام الأسد الأب بوساطة العمل على بناء حلف أقليات؛ لتهميش الأكثرية، ومثلما يفعل ابنه اليوم عندما يشنّ حرب إبادة على الشعب لإضعافها. والنتيجة هي الانتحار الجماعيّوتدمير مصير الأكثرية والأقليات، وفيما وراء ذلك تحطيم الدولة والجماعة الوطنية معًا.
نحن في حقبة المراجعة
تطرقتَ في كتابك «اغتيال العقل» إلى حركة التحلُّل والتفكيك التي أثارها صعود الهيمنة الغربية في قلب المدينة العربية، ودعوتَ إلى القيام بفحص المفاهيم العربية العقلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإعادة دراستها في ضوء الأوضاع الجديدة (في ذلك الزمن)؛ اليوم في زمننا هذا؛ أعني اللحظة العنيفة والدموية؛ أيّ مفاهيم يمكن فحصها لتجاوز مأزقنا؟
– في الحقبة الماضية كنا بصدد صراع بين تراثنا وتقاليدنا الموروثة عن عالَم مختلفٍ تمامًا، وحاجتنا إلى تمثّل مفاهيم وقِيَم العصر والحداثة التي ليس لنا خيار في الاندماج فيها، وتعلُّم قوانين السباحة في محيطها. وفي إثر المراجعة الكبيرة التي قام بها رجال أفذاذ، ومنهم رجال دِين؛ نجحنا في ردم الهُوَّة والانتقال من مجتمعات تقليدية، تجارية، زراعية ميركانتيلية، إلى مجتمعات شبه صناعية، وأقمنا دُولًا وطنية تقوم على مؤسسات، ولديها برلمان ودستور وقانون موحّد، وتستلهم القِيَم ذاتها التي تحرِّك الدول الحديثة فيما يتصل بتحسين شروط معيشة شعوبها المادية، وغير المادية من عِلْمية وفكرية وأدبية. وولدت عندنا إثر ذلك طبقة وُسْطى ونخبة من المثقفين والصناعيين ورجال الأعمال والإداريين. كِدْنا نتحول إلى دُوَل حديثة، أو على الأقلّ تكوَّنت لدينا مادة هذا التحول قبل أن تغتاله اليدُ الآثمةُ لِنُخبة عسكرية أمنية مخابراتية؛ اختطفت الدولة، وأرادت أن تجعل موارد البلاد بأكملها تحت سيطرتها المستديمة، وخدمة مصالحها ومصالح زبائنها ومحاسيبها. اليوم، نحن في حاجة إلى سبر غور الإنسان، إنساننا، والبحث بعمق في نقائص مجتمعاتنا وبنيتها وهشاشة تكوينها الراهن، وفي بنية الذات الفردية من حيث هي ذات واعية وفاعلة ومسؤولة، ونوعية أو ماهية (الأنسنة) التي أنتجتْها مجتمعاتنا في الحقبة الماضية، وتماسكها واتساقها وغاياتها، والتأمل في تناقضاتها وتوتراتها الداخلية وانسداداتها. وهذا يَعْني الاضطرار إلى التفكير فيما لم نفكِّر فيه، أو ما لم تتَحْ لنا الفرصة للتفكير فيه بعمق في الحِقبة الماضية، وهو صناعة الإنسان، الذات، الذاتية العميقة المشتركة الخاصة بكل فرد عندنا التي تقوم عليها شخصيته؛ أي: سلوكه تجاه نفسه والآخرين. بعد أن أخفقنا في بناء الدولة – الأمة الحديثة، نحن مضطرون الآن للحفاظ على البقاء والوصول إلى الأمن والسلام الداخليين، إلى أن ننجح في إعادة بناء الإنسان؛ الفرد والمجتمع على حد سواء. وهذا يستدعي الانخراط في التفكير الأعمق والأعقد للثقافة والفلسفة والتربية والأخلاق والتديُّن؛ للكشف عن جذور المحنة التي نعيشها.
نحن على أبواب حقبة جديدة من المراجعة التي بدأتها أنا شخصيًّا منذ كتاب «بيان من أجل الديمقراطية»، و«اغتيال العقل»، و«مجتمع النخبة»، و«نقد السياسة، والنخبة والشعب». وهي مراجعة تستدعي كثيرًا من الشجاعة والبصيرة والشفافية والبحث.
أدونيس يخشى الجمهور
من خلال ما أتيح لك من اطلاع على ما كتب من أدب عن الثورة السورية؛ هل ترى أن هناك أعمالًا مهمة صدرت في هذا الخصوص، أم أن القضية تظلّ أكبر من أن يستوعبها الأدب؟
– ثمار أدب الثورات العربية بالكاد بدأت تظهر، فهي تحتاج إلى مسافة عن الحدث وإلى اختمار كي تنضج. لكنني لا أشك أن هذه الثورات التي حوّلت إلى نكسات ونكبات ومآسٍ سوف تُلهِم أجيالًا كثيرة قادمة من المبدعين العرب والسوريين. الآداب العظيمة هي ثمرة الآلام العظيمة التي هي بدورها ثمرة الكفاح العظيم للمجتمعات؛ لتحقيق الحرية والانعتاق والخروج من القوالب الجاهزة والقماقم البائدة.
بالمناسبة ما رأيك فيما أُثير ويُثار حول أدونيس ومواقفه مما يحدث؛ هل تشعر، مثلًا، بخيبة أمل؟
– أبدًا. لم يكن لديَّ أي وهم حول موقف أدونيس الذي أعرفه عن قرب. لم يكن أدونيس يهتمّ في أي وقت بمسألة الحريات العامة والسياسية خاصة. همّه مركّز في كل ما هو فرديّ وامتيازيّ واستفزازيّ وتفرديّ؛ مثل كثيرين غيره من المثقفين «المتنورين» أعتقد أنه يخشى الجمهور ما لم يكن من معجبيه، ويخاف ويقلق من الجماهير والشعوب والجماعات، وبالأحرى من ثوراتها، ربما لأنه لا يرى فيها سوى الفوضى والسديم واللاتميز والانغلاق.
تنتمي إلى جيل من المفكرين العرب، ربما يصعب تعويضهم، أو على الأقل، لم يأتِ جيل بعدكم يتمتع بملامح معينة، ويشتغل بمشاريع كبرى، وتُقلقه أسئلةُ النهضة والتقدم والتخلف والعقل والتراث، ربما وجد مفكرون ينتمون إلى لحظة مختلفة جاءت بعدكم، لكن هؤلاء المفكرين لم يلفتوا الانتباه ويحظوا بانتشار وقراءة مثلكم، حتى في أوساط الدوائر المتخصصة؛ من المسؤول هنا؟ المفكر نفسه أم الواقع التاريخيّ والاجتماعيّ والسياسي الذي وجد فيه، أم أمور أخرى؟
– لا أعتقد أن هناك مسؤولًا. أعتقد أن السياقات التاريخية والظروف هي التي تخلق مثقّفيها ومفكّريها. المكانة والدَّوْر الذي أدَّاه جيل المفكرين الذين تتحدث عنهم ارتبط بسياق الخروج من الحقبة الاستعمارية والتطلُّع إلى بناء عالم عربيّ جديد، دولةً ومجتمعًا، يُجارِي في تقدُّمه وأُطُر تنظيمه وتطلُّعاته المجتمعاتِ الحديثةَ. وولد في هذا الظرف طلب من نوع خاصّ على مثقف لا يقتصر دَوْره على تقديم معرفة عِلمية وَصْفية اختصاصية، إنما يربط هذه المعرفة -أيضًا- برؤية تاريخية وشاملة تجيب عن سؤال النهضة والتقدم والتحديث. وهكذا نشأ المثقف الأيديولوجيّ، وإلى حدٍّ كبير العضويُّ أو المتفاعل مع المجتمع والتاريخ، الذي وَرِث المثقفَ الوطنيَّ الذي سبقه وقبله المثقف الإصلاحيّ، وقبلهما مثقف النهضة التجديديّ. الآن تكاد مشاريع النهضة التي تكسّرت تغيب عن الذهن والنقاش؛ لتفتح الباب أمام حِقْبة جديدة يسودها المختصون من علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ؛ لذلك يتراجع -أيضًا- استخدام لفظ المفكّر ليحلَّ محلّه مصطلح الباحث أو الأكاديميّ أو العالِم. وفي اعتقادي سوف يَزيد الطلب على المعرفة الاختصاصية في المستقبل بشكل أكبر مع الانكفاء على إعادة بناء المجتمعات نفسَها، وانحسار الحديث في المشاريع التاريخية الكبرى التي كانت تختفي وراء أفكار النهضة والوَحْدَة القَوْمية والحَدَاثة، التي ربما تعود فيما بعد في حُلَّة مختلفة من المناهج والصِّيَغ والمفاهيم.
المنشورات ذات الصلة
جون ميشيل مولبوا: أكتب كثيرًا بالأذن بإنصاتي في الوقت نفسه لما تفكر فيه وتغنيه الكلمات
وُلد جان ميشيل مولبوا في مونبليار سنة 1952م، وبدأ النشر منذ سبعينيات القرن الماضي. وهو ناقد أدبي في مجلة la Quinzaine...
إيمري كيرتيس: بدأتُ العيش حقًّا منذ اليوم الذي عرفتُ فيه ما الذي أريدُ كتابَته
إيمري كيرتيس هو أول كاتب مجري يفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 2002م، «لكتاباته التي تمجد تجربة الفرد الهشة إزاء الحكم...
جوليا كريستيفا: تودروف حذرني من رولان بارت لأنه لم يكن ماركسيًّا بما يكفي
أبصرت جوليا كريستيفا النور ببلغاريا في عام 1941م، وهاجرت في ريعان شبابها إلى باريس، وانفتحت على التيارات الفلسفية...
أدام الله عطاءك و أطال في عمرك بصحة وعافية.
الوحده بين سوريا وجمهورية مصر لم تكن وحده بين شعبي البلدين بل كانت انقلاب عسكري لقد سافر مجموعه من الضباط السورين من مطار المزه العسكري علي متن طائره اليوشن -14 الي القاهره وتفاوضو مع جمال عبد الناصر وعادو الي سوريا دون علم رئيس الجمهوريه شكري القوتلي رحمة الله عليه وتم ترتيب الوحده علي عجل دون اي دراسه وتفاديا لظهور الامر كانقلاب عسكري وافق السيد شكري القوتلي علي الوحد ومنحهو الرئيس عبد الناصر لقب المواطن العربي الاول وكانت هذه الوحده بداية المأسي في الوطن العربي وبداية الدكدتوريه العسكريه في الجمهوريات العربيه