المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

في وصف الصمت ومديحه

لقد اختفى طغيان الوجود البشري، والآن نفسي فقط ستجعلني أعاني

بواسطة | نوفمبر 1, 2019 | فضاءات

في بعض الأماكن يكون للصمت حضور خفي بالكامل، يُسمع بسهولة، ويمكن أن يظهر كصوت حلو، ناعم، متدفّق ومجهول؛ أماكن تنطبق عليها نصيحة الشاعر فاليري: «استمع إلى هذا الصوت الدقيق المتدفّق، الصمت. استمع إلى ما تسمعه أذناك عندما لا تسمع أي شيء آخر»؛ هذا الضجيج «يسدل رداءه على كل شيء، هذه الرمال من الصمت… لا شيء الآن. هذا اللاشيء ثقيل في الأذنين». للصمت وجود في الفضاء. إنه «غير مرئي»، كما يقول الكاتب السويسري ماكس بيكار، «ومع ذلك فإن لوجوده مكانة. يمتد إلى أبعد المسافات، ورغم ذلك نحسّه قريبًا لدرجة أنه يمكن أن نشعر بوجوده شعورًا ملموسًا كما نشعر بأجسامنا». ليست الآراء والأفكار فقط هي التي تتأثر؛ بل السلوكات والقرارات تخضع أيضًا لتأثيره القوي.

من بين الأماكن التي يشعرنا فيها الصمت بوجوده، المنزل، بغرفه، ورواقه وغرف نومه، وجميع الأشياء التي تكوّنه، وكذلك بعض المباني الخاصة، مثل: الكنائس والمكتبات والقلاع والسجون. سأبدأ بعرض أمثلة لما قيل عن هذه الأماكن في القرنين التاسع عشر والعشرين، في حقبة شهدت مناقشة صمت الأماكن الحميمة. كان الصمت مكوّنًا أساسيًّا لعمل الروائي البلجيكي جورج رودنباخ، على سبيل المثال، ذلك المتعلِّق بالمساكن الأرستقراطية في بروج. على طول القنوات، في هذه المدينة المحتضرة، يرمي صمت هذه البيوت الخامدة بثقله؛ وكان هوغو فيان، الشخصية الرئيسية في الرواية، وهو يسير في الشوارع المهجورة، «رفيقًا للصمت والحزن الذي يملأ بروجه الكئيبة». هنا، يقول رودنباخ: إن الصمت كائن حي، حقيقي، مستبدّ، مشاكس لكل شيء يزعجه. في هذه المدينة، كل الصدمات الصوتية، تكون مدنّسة، خشنة وفضيعة.

والصمت أمر أساسي لرواية الكاتب الفرنسي جوليان جراك «الشاطئ المقابل». الصمت يسود القصرَ، منزل فانيسا القديم، في جميع أنحاء مدينة ماريما وفي العاصمة أورسينا، في الواقع إنه في كل مكان حيث يمكن أن نشعر بالانحطاط. داخل المنازل، تخترق أنواعٌ مختلفةٌ من الصمت الغرفَ والقاعاتِ وغرفَ النوم والكتبَ. هذا الصمت، الموضوع الرئيسي لأفضل عمل للروائي الفرنسي فيركور بعنوان: «صمت البحر»، ينزل ثقيلًا في الغرفة بالطابق الأرضي حيث كان العم وابنة أخته ينتظران قدوم الضابط الألماني. تتكشف الأحداث والصمت لا يفارق. كان صمتًا فرنسيًّا كافح الضابط الألماني من أجل التغلب عليه في «أكثر من مئة ليلة شتاء». ومن أجل ذلك، قبِلَ بالصمت الذي لا يمكن التغاضي عنه: «فلْيَغْزُ الغرفة بأكملها، كغازٍ كثيف وخانق، يشبع كل زاوية من زواياها». بدا كأنه هو فقط من بين الشخصيات الرئيسية الثلاث، من شعر بالراحة أكثر. عند عودته، بعد سنوات، وبعد معاناته صدماتٍ مختلفةً، وبعد أن فهم المقاومة التي أبدتها فرنسا، يوافق فيرنر فون إيبرينك الآن على «التعنّت السليم» للصمت الذي «يسود مرة أخرى»، لكنه أصبح الآن أكثر ضراوةً وسمكًا». تحوّل ما كان في 1941م صمتًا للكرامة إلى صمت للمقاومة.

تشارلز بودلير

«كل غرفة نوم»، يكتب كلاوديل، عبارة عن «سرّ كبير». في الواقع، غرف النوم تشكّل مساحة خاصة من الصمت بامتياز. هو أمر ضروري. شهد القرن التاسع عشر، ملاحظة المؤرخة الفرنسية ميشيل بيروت، تنامي الرغبة في غرفة نوم خاصة، ومساحة شخصية، وقوقعة، ومكان للسرية والتكتم. هذه الرغبة هي حقيقة تاريخية. كشف بودلير عن بهجته عندما وجد نفسه أخيرًا، ذات مساء، وحيدًا في ملجأ غرفة نومه. هناك، كتب، مستشهدًا بالأديب الفرنسي جان دي لابرويير، هرب من «الويل العظيم لعدم القدرة على أن يكون وحيدًا»، على النقيض من أولئك الذين تاهوا في الحشد، «ربما هم خائفون لأنهم لا يستطيعون تحمل أنفسهم». و«أخيرًا أصبح بمفرده! الآن لا يزال من الممكن سماع أصوات بعض العربات العالقة والمنهكة. لساعات قليلة، سنمتلك الصمت، إن لم تكن الراحة. أخيرًا! لقد اختفى طغيان الوجود البشري، والآن نفسي فقط ستجعلني أعاني». منزعج من الجميع ومنزعج من نفسي، أتوقُ إلى تخليص نفسي وتعزيز فخري قليلًا في الصمت ووحدة الليل«.

يعزو الروائي الفرنسي جورج هوسمان رغبة مماثلة إلى شخصيات عدة في رواياته. تحيط شخصية  Jean Des Esseintes نفسها بخَدمٍ صامتينَ تقريبًا، كبارٍ في السنِّ، أثقلتهم سنواتٌ من الصمت. يدبّر غرفة نوم صامتة لنفسه: سجادة وسقف مبطن، وأبواب مصقولة جيدًا تضمن أنه لن يسمع أبدًا خطى الخدم. كان يحلم «بنوع من الخطابة»، «خلية رهبانية» زائفة، مكان «للانزواء والتفكير»، على الرغم من أنه في النهاية قد وجد الصمت عبئًا ثقيلًا. قام مارسيل بروست بتغليف جدران غرفة نومه بالفلين، وقدّم رشوة للعمال ليتغاضوا عن المهام التي أوكلت إليهم في الشقة فوقه. وأعرب كافكا عن رغبته في الحصول على غرفة في فندق تسمح له بعزل نفسه، وعدم التكلم في أي شيء، والتمتع بالصمت والكتابة في الليل. وحلّل كُتّاب آخرون بمزيد من التفاصيل جذورَ هذه الرغبة الواسعة في الصمت في غرفة خاصة. وغالبًا ما ترتبط أهميتها بالعواطف التي تثيرها الأصوات الباهتة والمألوفة الصادرة عن أفراد العائلة. وأشاد الشاعر الأميركي والت ويتمان «بالأم في المنزل، وهي تضع الأطباق على طاولة العشاء بهدوء». ويصف ريلكه السعادة التي شعر بها في «الغرفة الصامتة في منزل الأجداد من بين الأشياء الأخرى الهادئة في أماكنهم»، وهو يسمع «الدقات الأولى لساعة القرية بعيدًا هناك في الخارج عبر الحديقة الخضراء وأشعة الشمس». هنا، تأتي السعادة من التمازج بين فضاء خاص ومساحة خارجية غير محدّدة.

أيها الصمت على الدرج

كما وصف ريلكه مختلف أنواع الصمت التي خلقتها الأم في زيارتها لطفلها: أيها الصمت على الدرج، الصمت في الغرفة المجاورة، الصمت في الأعلى تحت السقف. يا أمي: أنتِ، وحدَك تعاملتِ مع كل هذا الصمت، في زمن طفولتي؛ أخذت ذلك على عاتقك وأنت تهمسين: لا تخف بُنيَّ، إنه أنا. من كانت له الشجاعة، في جوف الليل، ليكون ذلك الصمت لشخص خائف، مرعوب. كنت تضيئين المصباح، وهذا الصوت كان صوتك حقًّا. ويحلّل الراوي في رواية «البحث عن الزمن المفقود» بشكل متكرّر طبيعة الصمت المحيط به. وهو يتذوق «المذاق الساحر» للصمت على شرفةLegrandin  في مقطع مقتبس كثيرًا، يصف الراوي الجزء الداخلي لغرفة نوم Tante Léonie : كان الهواء في [هذه الغرفة] مشبعًا بالباقة الجميلة من الصمت المغذّي لدرجة أني لم أستطع الدخول… من دون نوع من الاستمتاع الجشع، ولا سيما في الصباح الباكر، بنسماته الباردة، من عطلة عيد الفصح، حيث أمكنني تذوقه بالكامل؛ لأنني قد وصلت الآن إلى Combray.

وللصمت تهديد خفي داخل المنزل، المملكة الحقيقية للصمت. الحبيب، في انتظار وصول ألبيرتي الصامت، يتفقد الصمت المريع لغرفة النوم. يستمع إلى سكون غرفة نوم والديه. التسلل أمر ضروري لتجنب أي مفاجآت، لمنع أي ضجيج لصرير الأبواب. كان ظهور ألبيرتي لأول مرة في غرفة نوم الراوي وهو مدثّر بصمت الغرفة. كان الشارع نفسه هادئًا مثل «قاع البئر». «كنت أسمع حتى حركة الذبابة»، ويضيف، «ولكن إذا حدث، من قبيل المصادفة، أن وجدتُ أحدًا في غرفة نومي، فإنه لا بد أن يكون نائمًا في ركن من النافذة أو في واحدة من الطيّات العميقة لهذه الستارة»… المعلّقة في واجهة النافذة، بشكل عمودي مستقيم». في هذا «الصمت العميق والكامل» -ينبغي أن نفكّر في هذا التميّز- وفجأة، يفتح الباب بلطف وتظهر ألبيرتي، مرعوبًة ربما لأنها تكون قد تسببت في ضوضاء.

غرفة نوم أخرى يُتخيّل أنها مُشربة بالصمت هي للمرأة الشابة التي تنحني على عملها الذي وصفه فيكتور هوغو بشعور شديد. عمل، ونقاء، وتقوى وهدوء في تعايش في العلّية. في هذا «الملاذ الغامض»، في الوقت الذي «تتقرب فيه إلى الله متعبدة، ببساطة ومن دون خوف، تؤدي هذه الفتاة مهمتها النبيلة والجديرة بالاحترام، كان الصمت الحالم يجلس على بابها». أصوات الرياح، التي «ارتفعت بشكل غامض من العتبات الصامتة» في الشارع، تقول لها: كوني نقية!… كوني هادئة… ابتهجي… كوني حكيمة».

Angelique، بطلة رواية «الحلم» للروائي الفرنسي إيميل زولا، وفي الرواية يتناقض صمت دائم مع صوت أجراس الكاتدرائية المجاورة، ترسم الحلم الهوجولي. الصمت أمر حاسم في واحدة من المشاهد العظيمة للرواية: في المساء، عندما يظهر الحبيب فيليسيان للمرة الأولى، كان الصمت في غرفة النوم «مطلقًا» لدرجة أنه أبرز كل صوت وكشف كل ضوضاء «المنزل المرتعش، المتنهد»، الضوضاء التي تلهم الذعر الليلي.

عبقرية العدم

وقام الروائي الفرنسي جول فيرن، في قصة قصيرة كوميدية بعنوان: «خيال الدكتور أوز» بوصف الصمت الكلي الذي ساد مدينة فلمنكية خيالية بالسخافات، وعمل على تحديد جميع الأصوات التي كانت تُسمع عادة. وهكذا كان مقر إقامة العمدة فان تريكاس عبارة عن قصر «هادئ وصامت»، لم تكن أبوابه تصر قط، ولم تهتز نوافذه قط، ولم تئن طوابقه قط، ولم تهدر مداخنه قط، ولم تصر حوله ديكة الرياح قط، ولم يطقطق أثاثه قط، ولم تقعقع أقفاله قط، ولم يصدر ساكنوه أي ضجيج أكثر من ظلالهم». ويضيف أن الإله «حربوقراط» كان سيختاره، بكل تأكيد، معبدًا للصمت. وكان الروائي الفرنسي جورج بيرنانوس الأكثر هوسًا بصمت غرفة النوم، وكان مدفوعًا لوصفها ونقل تفاصيلها. هذا واضح بشكل خاص في كتابه «السيد أوين». يعكس الصمت العميق لغرفة نوم هذا الرجل شخصيته، وشبهها «بعبقرية العدم» من الفراغ والشر، «ومدرّس العدم»، و«الشاذ الروحي»، والزواحف الوحشية. هنا، يعبّر الصمت عن اليأس. إنه يرافق الموت، يسبقه بعذاب أخير طويل.

جان برولر “فيركور”

أما الشاب ستين، بدخوله غرفة السيد أوين لأول مرة، أصابته الصدمة العجيبة من غرفة النوم الصغيرة، التي تدور برفق على محور غير مرئي. كان يعتقد أنه يشعر بها «تنزلق على جبينه، على صدره وعلى طول راحتيه، وتداعبه مثل الماء». ثم يصبح على بيّنة من همهمة، بكاء بعيد. «لا يمكن للمرء أن يقرّ بأنه خرق الصمت، لكنه ينساب من خلاله، شيئًا فشيئًا كان يسير في طريقه». من ورائه، «بالكاد يشعر بقشعريرة»، لم تتحول بعد إلى ضجيج، ولكنها تسبقه وتنذر بقربه. في وقت لاحق، يتحدث مسيو أويني عن Anthelme، زوج صاحبة الأرض، الذي كان على فراش الموت. تكلم بهدوء، عن قصد، بصوت خافت على الإطلاق، ومع ذلك، بدا [لستين]، وقد تملكه إحساس غامض بالخوف، بأنهم محاطون بالصمت نفسه، صمت يستوعب فقط التسجيلات العالية للصوت ويتخلى عن الوهم بأن يصبح في حد ذاته نوعًا من النقاوة المسموعة. في الحقيقة كان السيد أوين، الذي كان هو نفسه الصمت الذي سمّم العقول وأفسد الغرائز. كان هذا واضحًا عندما كان على وشك الموت: «لم تفسد أنفاس السيد أوين صمت الغرفة الصغيرة، ولكنها أكسبته نوعًا من الكرامة الجنائزية، والدينية تقريبًا». «على امتداد حياتي الانفرادية»، يقر الرجل المحتضر: «لم أكن قط أتحدث إلى نفسي، بالمعنى الصحيح للتعبير، لكني تحدثت بدلًا من ذلك كي لا أسمع نفسي». إن الصمت الذي عقب ذلك «لم يجلب أي استرخاء. لقد كان صمتًا مليئًا بكلمات أخرى، كلمات غير محسوبة، ظنّ ستين أنه سمع هسهسة تشقّقت في الظلال كثعابين متشابكة». وبعدها، عندما توفي، ضحك السيد أوين بهدوء، في صوت «بالكاد ارتفع فوق الصمت».

سيكون من غير المناسب تمامًا حصر نقاشي في غرفة النوم فقط كملجأ، سجن، خوف، تنافر الصمت والهسيس الغامض للأصوات الصادرة من الخارج. فالتفكير في صمت غرف النوم يجب أن يشمل أثاثها، وكل الأشياء فيها، حتى الأشخاص الذين لديهم صلة خاصة بصمت هذه المساحات.

الخطاب الصامت للأشياء التي تشكّل ديكورًا يسمّى «باللغة الصامتة للروح». «كل كائن»، يكتب ماكس بيكار، لديه صندوق مخفي للواقع مصدره أعمق من الكلمة التي تحدّد الكائن. لا يمكن للإنسان أن يستمتع بهذا الصندوق الخفي للواقع إلا بالصمت. في المرة الأولى التي يرى فيها الإنسان شيئًا ما، يلتزم الصمت من تلقاء نفسه. وبصمته، يصبح في علاقة بالكائن الموجود هناك قبل أن تعطيه أي لغة اسمًا. الصمت هو تكريم الشرف الذي يمنحه للكائن. يقول الشاعر جورج رودنباخ: «الكائن يتكلم»… «يعبر عن طبيعته في خطاب صامت، وخاص لأنه لا يشعر به إلا من يحاوره فقط». في شعره، يشيد رودنباخ بالعديد من الأشياء التي تتحدث بصمت إلى الروح. وهي تشمل «ألواح النوافذ الرقيقة التي تتواطأ دائمًا مع الخارج»، والتي تسترق منها النساء نظراتهن، في أيام الأحد، يحدقن في الفراغ والصمت. وكذلك المرآة، «التوأم الروحي لغرفة النوم»؛ الصناديق القديمة، «التمثال البرونزي المقوّس من الخلف، مفكرًا في ترنيمة صامتة». هنا، تتدلى الأحلام في الهواء مثل البالونات، و«تبقى غرفة النوم صامتة ومناورة». عندما يأتي المساء، فقط الثريا التي تهتز بلطف تصدر «ضوضاء ساخطة في الصمت المطبق». يرى رودنباخ أن غرفة النوم تتكون من «رموز الصمت بأقمشة بلا حراك». هنا، وأكثر من أي مكان آخر، تسود «عذرية الصمت المؤلم».

أشياء تتحدث بصمت للروح

هناك العديد من الأشياء الأخرى التي تتحدث بصمت للروح: مصباح السرير. الصور القديمة «التي نتحدث معها كثيرًا في صمت»، خزّان الأسماك، أو الوعاء الذي يمثل رفضًا للخارج، حيث تفرغ مياهه «عبر قاعه الزجاجي السفلي»؛ ومن بين الجواهر، اللؤلؤة «الموجودة دون وجود». يرى رودنباخ اللون الرمادي لون الصمت الحسّاس، مع اللون الأبيض لريش البجع في قنوات «بروج» وسواد الليل. ويكتب رودنباخ: «إن غرف النوم

… هي حقًّا مثل كبار السن

مخزن الأسرار والحكايات…

المخفية في النوافذ السوداء

المخفية في الجزء الخلفي من المرايا.

وفي الليالي تظهر «مجموعة من الأسرار المخفية».

وإذا كان الديكور هي اللغة الصامتة للروح، فإن الصمت ذاته يفرض على النفس حضورًا دائمًا. وهو ما يمنح كل كائن هالة، تلك «الحدود حين يصبح الكائن غيابًا»، التي تشكّل بعدها «اهتزازًا خفيًّا، خطابًا صامتًا». ولبعض الكائنات علاقة بالصمت، ولا سيما الأطفال. فهم يشعرون بوجوده الأمومي. كتب ماكس بيكار، «الطفل مثل تلّ صغير من الصمت»، حيث «تظهر عليه الكلمة فجأة… الصمت أكثر من الصوت في كلمات الأطفال». لقد جعل العديد من المخرجين السينمائييّن صمت الأطفال معبرًا. أما فيليب جاريل، فالأطفال يحتضنون الصمت ويجعلون منه وطنًا.

يسكن ماكس بيكار في «الصمت الكثيف» للحيوانات. «لقد حملوا معهم صمتًا نيابة عن الإنسان»، يكتب بيكار، «وهم يقدمون الصمت دائمًا أمام الإنسان». إنهم «صور الصمت». لكن صمت الحيوانات «ثقيل مثل كتلة من الحجارة»؛ هم يحاولون «تمزيقه ولكنه يقيدهم [دائمًا]». ومن بين الحيوانات، تحتضن القطط على وجه الخصوص الصمت الذي يشبهها، وهي الخاصية التي استخدمها المخرجون للحصول على تأثير جيد في أفلامهم.

معابد للصمت

بعض المباني، أيضًا، تشكّل معابدَ للصمت، وإن كانت بطريقة مختلفة عن المنزل وممراته وغرف نومه. وأبرزها الكنائس والأديرة. «بنيت الكاتدرائيات حول… الصمت»، يكتب ماكس بيكار. «صمت كاتدرائية الرومانيسك موجود كجوهر… يبدو كأن الكاتدرائية، بوجودها، كانت تنتج جدران الصمت، ومدن الصمت، ورجال الصمت». ويضيف «الكاتدرائيات، مثل الصمت المرصّع بالحجر… إنها تقف مثل خزّانات صمت ضخمة. إن قائمة أسماء المباني الصامتة طويلة، وسيكون من الصعب تعدادها جميعًا. وهي تشمل السجون، حيث يكون الصمت واجبًا. الكاتب الفرنسي إدموند دي غونكور، الذي تلاحقه ذكرى شقيقه جولز، الذي توفي من فقدان القدرة على الكلام، كرّس الجزء الثاني من روايته «الفتاة إيليسا» لتدمير الشخصية عبر صمت السجن. ويتناول ألبير كامو الموضوع نفسه في الصفحات الأخيرة من روايته «الغريب». يلجأ أوبرمان، بطل رواية سننكور لهذا الاسم، إلى المكتبة الوطنية من أجل التغلب على الملل الذي لا يطاق والذي أصابه في باريس. هناك، يقر البطل، «أشعر بهدوء أكبر بين الأشخاص الصامتين مثلي، أكثر من أن أكون وحدي وسط حشود صاخبة». كان للمكتبة فناء معشوشب هادئ، مع بعض التماثيل، وكان نادرًا ما يغادر، كما يذكر، «دون توقف لمدة بضع دقائق في هذا السياج الهادئ».

وبالعودة إلى رواية جوليان جراك، «الشاطئ المقابل»، وفيها يلعب كل «حد أدنى» من الصمت دوره. يلفّ قلعة الأميرالية، حيث يوجد الراوي، صمت هالك مهجور، و«كان ذلك علامة على عداء متكبر». المبنى غير مضياف من بداية الرواية إلى نهايتها. إن صمت غرفها الصغيرة الفارغة، وممراتها المدفونة كمعارض الألغام في الكثافة الرهيبة للحجر، قد أعطاها «أبعاد الحلم». كان جوهر هذا السكون غرفة الخريطة، التي يعود إليها المؤلف باستمرار. في بداية الرواية، كان صمت الغرفة «رهبانيًّا»؛ في الداخل، في الوقت نفسه، كان الأمر كما لو أن «شيئًا ما قد استيقظ في ظروف غامضة». من الخريطة الرئيسية، التي يتأملها الراوي لساعات طويلة، يتناهى إلى المسامع «حفيف باهت»، يبدو «أنها الغرفة المغلقة وصمتها الكامن». هذا المكان القاسي، الذي صُمِّم في الأساس لمجابهة العدو، الكامن لمدة طويلة، بواسطة رحلة استكشافية على متن السفينةThe Redoubtable، بدا كواحة من الصمت. عاد الراوي، بطل المشروع الطائش، من غزوته إلى هدوء مكتب قائده الغائب. الآن، في «الصمت المكتوم»، يمكن سماع صوت ارتطام البحر، ومن بعيد صوت جهاز «يوقظ ذلك الصمت المعزول مثل طنين النحل». الآن هدوء غرف إمارة البحر تعكس التحدّي الذي أثاره القرار في نفسه.

إن الأماكن والأصوات لا تبرح أذهان الناس؛ حتى سلوكياتنا وخياراتنا تتأثر بتأثيره الخفي. وقد ميّزت هذه الانطباعات الكثير من المؤلفين الذين عادوا إليها باستمرار، وأصبحت استعادات الفضاء تعبيرًا عن حالة داخلية. أما الطبيعة، بدورها، فتثير الحواس وتحفز البحث عن الصمت.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *