كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الثقافة والحوار المفتوح
يرى الشيخ «التبريزي» أن الغاية من دراسة الرياضيات والعلوم الوصول إلى المعلوم، مستندًا في ذلك إلى ما يقوله الشيخ الصوفي جلال الدين الرومي: «إن العلم إذا لم يجردك من نفسك فالجهل خير منه» وهذه العبارة بمنزلة رؤية ثقافية علمية وإنسانية رفيعة.
اليوم ونحن نروم الدخول -والعالم قاطبة- إلى رحاب «الروبوت واقتصاد المعرفة» والعلم كقوة إنتاجية جبارة ونحو مدائن القرن الحادي والعشرين، ما أحوجنا إلى تمثل الإسهامات والإضاءات الإبداعية العقلية والفكرية والثقافية لمخزوننا التراثي المعرفي –العقلي، العلمي العربي والإسلامي المشرق في صورته الإبداعية، والكفاحية ليكون عونًا لنا في المشاركة الفاعلة في صنع الخيارات المستقبلية الآتية، ولتجديد إسهاماتنا العلمية– الإنتاجية التنموية والفكرية والثقافية على مختلف الأصعدة في ضوء روح العصر وعلى درب المعرفة والعلم في ظل التحولات الإنسانية المطّردة والتدويل العاصف لاقتصاد المعرفة، وفي سياق التدويل الكوني للرأسمال، حتى يتسنى لنا في ضوء كل ذلك الشروع في تحديد انتقالاتنا الواقعية من المجهول إلى المعلوم ومن الخرافة والتقليد والإتباع إلى جنائن العقل والاستنارة والعلم.. أي العلم الذي يجردنا من ذواتنا الناقصة ولا يغيبنا عن وجهنا الخاص، العلم الذي يغتني دومًا بغنى وثراء عطاءات الحياة، وفي الوقت نفسه لا يفصلنا عن الآفاق العلمية والمعرفية والثقافية الإنسانية، كما حاول الإشارة إلى ذلك الشيخ جلال الدين الرومي، فنجد أنفسنا في دائرة الجهل وإعادة إنتاج التخلف والعزلة وضمن إيقاع حلبة رقص الأزمات الدورية المجنونة والتآكل الداخلي.
إننا بحاجة ماسّة إلى أن نتصالح مع أنفسنا ومع من حولنا، وأن نتماثل إيجابيًّا مع ما يفرزه جدل الحياة والواقع الموضوعي من تنوع وتعدد واختلاف كما قالها الشهيد/ أحمد حسن الحورش، شهيد الحركة الدستورية اليمنية المعاصرة 1948م، في وجه ظلامية وانغلاق البنية السياسية الذهنية والفكرية الإمامية الاستبدادية عندما أعلن أن «من تصارع الآراء تبزغ الحقيقة» ومن المختلف يتناسل أجمل مؤتلف. وبتعبير آخر، علينا أن نتعود أن نقبل ما تطرحه علينا الحياة موضوعيًّا من تعدد وتنوع بروح نقدية ديمقراطية؛ لأن الاختلاف والتناقض والصراع الإبداعي كحاجة جارية في جدل حركة الواقع أبدًا لن تتوقف كصيرورة إنسانية تفرض وجودًا ووعيًا لحقيقة التنوع والتعدد والاختلاف في سياق حركة الأشياء: الثقافية، الوعي والفكر، كمتغيرات اجتماعية ثقافية إنسانية دائمة لا يمكن لأية نزعة إرادوية ذاتية إلغاؤها أو تجميد حركة تحولاتها، أو إجبار عناصرها المتنوعة على الذوبان في الواحد «الكل» أو توحدها القسري في الآخر الثقافي أو السياسي بأي حال من الأحوال.
فلا حياة للفكر والثقافة والإبداع من دون الاستقرار السياسي والاجتماعي وبعيدًا من أجواء السلم الأهلي المدني والمناخ الإنساني الحر غير المقيد، على طريق التنوير العقلي وتنمية شروط الإبداع وترسيخ فلسفة الإنسان الحر في الوعي الاعتيادي والوجود العام للناس، وذلك بالحفاظ على المقومات الجوهرية للمواطن ككائن إنساني من دون ضغوطات الطقوس والشعائر الكلية الجبرية المطلقة؛ ذلك لأن التعارض أو التناقض الحقيقي إنما هو قائم في واقع حياة الناس وما تجلِّي حوارات الرؤى المختلفة والأفكار الحاصلة في أذهان الناس وتعددها وتباينها، إلّا انعكاس واقعي لمدارات الحوارات المؤصلة في جذر الواقع الموضوعي.. البرامج والسياسات والأهداف المتنوعة والمتشابكة.
علينا اليوم، وبعد كل ما مر بالوطن وما يمر به اليوم، الإقرار بتنوع مكونات المجتمع وبالتالي تنوع وتعدد مفردات وأدوات المعرفة والفكر والثقافة وأشكال الوعي المختلفة، وأن قوة حضور هذا الخطاب الفكري الثقافي، أي الآخر، إنما هو مرهون بمدى قدرته على الاستجابة الموضوعية للتحديات والتعبير عنها معرفيًّا وثقافيًّا. وهنا يأتي دور المثقف الإبداعي العقلاني النقدي، وبمدى اقترابه الواعي من أسئلة الحياة والعصر. وهو ما يحدد الفاعلية الفكرية والثقافية للاتجاهات والتيارات المختلفة التي تصطرع على الأرض بصورة إبداعية وديمقراطية من دون محاولة اغتيال ثراء أسئلة الحياة بالإجابات المطلقة الجاهزة والنصوص الميتة؛ لأن حضور مثل هذا التفكير إنما يأتي ليسحق ويدمر عناصر وملامح الرؤى العقلانية، والحركية المجتمعية المدنية التي إذا ما أتيح لها النمو والتطور الطبيعي، فإنها حتمًا ستخلق أشكالًا ووسائل تجليها الإبداعي في الواقع.. المهم السماح لبذور وشروط مؤسسات الثقافة، والمجتمع المدني بالوجود وأخذ دورها في الواقع، في مقابل الانتشار الكثيف لأدوات المجتمع السياسي –أي الدولة- في شكلها العسكري أو صيغة الحزب الواحد أو «القيادة التاريخية».
إن الميل الموضوعي المعاصر إنما يأتي مؤكدًا أهمية وجود مؤسسات الثقافة، والمجتمع المدني، ولكنه حتى الآن وفي هذه الحدود، لا يزال وجودًا محاصرًا ويتقدم ببطء شديد وعلى استحياء، وعلى الجميع (مثقفين ورموز مجتمع مدني)، الانتصار للخيار الثقافي على السياسي المهيمن؛ ليحرز الثقافي تقدمًا ملموسًا على عناصر التقليد والثبات والأيديولوجية المصمتة، التي تكبح وتعوق إمكانات تكون وحضور البنية الثقافية التعددية بمختلف مستوياتها، على طريق الحوار، وليس التجاور في المكان: حوار وصراع بين القديم والجديد على الصعد كافة، ونحو خلق مجتمع متوازن المصالح ومتبادل المنافع المجتمعية، وعلى قاعدة الأمن الأهلي والسلام الاجتماعي العام الذي يسمح ويتيح بفسحة طيبة للتجديد والحداثة والاستنارة العقلية التي ترفض الاحتماء بقلاع التفكير الجاهز والنمطية الفكرية المغلقة على ذاتها، والتي لا تقبل باحتجازها ضمن إيقاع مدارات الحوار العنيف أيًّا كان مصدره ومسبباته؛ لأن ما سبق لا يعني في الواقع سوى تكريس نموذج النرجسية الفكرية والثقافة الواحدية التي يحاول المجتمع السياسي أن يفرضه علينا بقوة الحرب، وبقوة سلطة الأمر الواقع. وإذا لم يكن للمثقف الإبداعي الديمقراطي دور حقيقي وملموس في مثل هذا الأوضاع، فلا أعتقد أنه يمكن أن يكون له دور في مستقبل أيامنا الآتية. إن على المثقف أن يشير إلى كل ذلك، رغم عوامل الانكسار والإحباط، وأن يتحرك بقوة فعل الكلمة لتحطيم وتفكيك إحباطات الواقع التشاؤمية، بتفاؤل الإرادة العظيم في داخله؛ للارتفاع بالوطن إلى مستوى العشق الوطني التام على طريق تجاوز أشكال التجلي الناقصة للحياة البائسة التي نعيشها اليوم، ويغطي وجهها طغيان صوت الحرب.
إن تفاؤل الإرادة في عقل المثقف النبيل، وجميع محبي الحياة سيجعلهم يتمكنون بوحدتهم من الانتصار لإرادة الحياة، والبدء يكون من تحرير سؤال الثقافة عبر مشروع ثقافي إبداعي ديمقراطي. إن العشق الذي نتطلع إليه وتهفو إليه الرغائب المكبوتة إنما هو «مدرسة للمساواة والتآزر والإنصات للآخر.. إنه الكشف عن الذات عبر ذات الآخر والكشف عن ذات الآخر عبر الذات الخاصة. إنه كشاف للأقنعة التي يمكن لأي إنسان أن يرتديها ولمستوى استبطانه للنزعات الاضطهادية والأنانية الاستغلالية التي هي من صلب العلاقات والهياكل السائدة. ومن هنا فإن الخطر الذي يشكله العشق على التعفن العام القائم هو احتمال تكونه كمدرسة اجتماعية» (عبداللطيف اللعبي- كتاب الرهان الثقافي الطبعة الأولى-1985م، دار التنوير للطباعة والنشر ص 84) مدرسة إضافية تسمح للفرد، وانطلاقًا من ممارسته الأكثر تفردًا، أن يبدع مجتمعًا خاليًا من النواقص القاتلة والمدمرة للآفاق السلمية الممكنة لتطور الوطن والحياة.
فالعشق والحب والسير برغبة عارمة وصادقة نحو الامتلاء الحق بكل ما هو جميل، هو الطريق كما يقولون نحو الإقبال على القارة الجديدة، والتعلم من مدرستها، إنه إعادة اكتشاف للبشرية بكامليتها وسيره نحو الحضارة الجديدة التي نأمل اليوم أن تكون رحلتنا صوبها، وأن تأتي فصول كتابنا القادم مغزولة بجهود كل اليمانين. فالمشاريع الكبيرة العظيمة السامقة التي ما برح الوطن يراوح التقدم نحوها لن تتأتى إلّا بالرؤى الحالمة الثقافية، والقامات الديمقراطية، والإنسانية النوعية.. القامات المديدة السمو والتألق التي تشرئبّ نحوها الآمال والأعناق، والتي تعمم في الواقع الحياتي الملموس معنى الوطن والدلالة الرمزية الكلية لمفهوم اليمن. وتجسد في الممارسة روح المبادرة والحوار الديمقراطي التام على انقاض الحرب الجارية، وعلى قاعدة سياسة المصالحة الوطنية الشاملة كشكل من أشكال التفكير النوعي الجديد الذي يطرح نفسه بديلًا لكل أشكال التفكير القديمة، أيًّا كانت حيثياتها، ومسبباتها ومصادرها.
فالوحدة الحقيقية على المستوى، الوطنيّ أو الإقليميّ أو القوميّ أو حتى على المستوى الفكري – الثقافي الخاص، لا تتخذ أشكالها الواقعية الإبداعية إلّا في إطار التنوع والتعدد والتباري المدني السلمي على أفضلية العناصر أو الخيارات التي تستحق البقاء والاستمرار كصيرورة معرفية ثقافية إنسانية.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق