كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حداثة أم تحديث؟
الصراع الأزلي، والتوتر الدائم في العلاقة بين المطلق والنسبي، وبين الكينونة والوجود، وبين العقل والنقل، هو ما يميز الإنسان المعنِيّ بعمارة الأرض والمجتمع والفكر، وبما أن المعرفية والممارسة الإنسانية، هي على الدوام ناقصة ونسبية في مطلقها، تبقى الأسئلة الوجودية المقلقة قائمة ومشرعة، تستبطن الاحتمالات، وتعاني وعورة الطريق، وغياب العلامات الدالة، والذي يأتي أو لا يأتي. ليس هناك أخطر على الحياة، والمجتمع، والوجود، والفكر، والعلم، والعقل الذي وصفه الأستاذ الإمام محمد عبده «العقل إمام» من الجمود والتكلس، والتصلب الأيديولوجي والعقائدي والمذهبي.
إننا لا ننزل إلى ماء النهر مرتين، إنه يتدفق ويجري ويتجدد باستمرار، ومع ذلك هناك من يصرّ على البقاء والعيش في المياه الراكدة. مفاهيمنا عن الحياة، والوجود، والمعرفة، معقدة ومتداخلة، بل متناقضة ومتضاربة، وتستمد حيويتها وبقاءها في غالب الأحيان، بفعل المصالح، والأهواء، والتعصب، والجمود الاجتماعي، والتكلس والخمول العقلي، الذي يتناسل باستمرار، بصور وأشكال مختلفة قديمة ومحدثة، وهذه الحقيقة لا يمكن القفز عليها وتجاهلها.
غير أنه في موازاة ذلك تكمن الحاجة المُلحّة والأزلية، في التمرد والكفاح من أجل الخلاص والتحرر، بما في ذلك تجاوز المفاهيم والتصورات والممارسات البالية، وتصويب وتجاوز المقولات المزيفة للوعي والواقع، في سيرورة دائمة نحو فهم واستيعاب شروط وقوانين الحياة والوجود (وما يعتريهما من تشوهات) والواقع وآليات تغييره، للانتقال من الضرورة، إلى الحرية.
الوجود والواقع المتجدد دومًا، بأسئلته، وعلامات استفهامه، وإبهامه، وغموضه، لا يمكن أن نختزله ونقولبه، وفق تصورات تجريدية وتنظيرية، أو رؤية عقائدية إرادوية مسبقة جامدة ونهائية. الجمود (الدوغما) بهذا المعنى، يخترق المنظومات كافة، والمناهج الفكرية، التي تتحول إلى أيقونات أو أبقار مقدسة نجد تعبيراتها في مقولات الحتمية التاريخية، على غرار ما كانت تطرحه الكنيسة «الحكم الإلهي أو المطلق». ولدى الاشتراكيين «حتمية سقوط الرأسمالية وانتصار الاشتراكية على الصعيد العالمي «أما الرأسمالية الليبرالية الجديدة فشعارها» موت الأيديولوجيا والانتصار النهائي لقيم الليبرالية وقوانين السوق «فيما أصحاب الأيديولوجية القومية يؤمنون بـ«الخلود النهائي للدولة القومية» التي ترجمها بعض القوميين العرب بشعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، في حين تطرح جماعات الإسلام السياسي شعار «الإسلام هو الحل»
إذا اقتربنا إلى الواقع العربي/ الإسلامي نرى التخندق، والتقابل الديني، والمذهبي، والقبلي، والإثني (تحت الوطني) الفئوي الضيق، وما يصاحب ذلك كله (من الأطراف كافة) من هيجان وتسعير للعواطف، واحتقان في النفوس، وتعصب وتمترس عقائدي، وتسطيح في العقول، وصولًا إلى حد الاحتراب، والتدمير، والقتل المتبادل على الهوية، التي أخذت تطفح على السطح، وتهدد الأوطان والمجتمعات (والمكتسبات القليلة) بالتفكك والاندثار.
مع أن كلًّا يدعي وصلًا بليلى (غير أن ليلى مريضة بل مقتولة ومستباحة في العراق، وسوريا واليمن وليبيا وفلسطين والسودان والصومال وفي غيرها من دنيا العرب والمسلمين) وأنه وحده يمثل الحق والحقيقة والفرقة الناجية.
هذه التساؤلات الوجودية والمصيرية، تظل مؤرقة وحاضرة ولا يمكن بل لا نمتلك ترف تجاهلها والتعامي عنها أو القفز عليها. من هنا يتعين أن تعكس الفعاليات الوطنية والثقافية إلى حد كبير التنوع والثراء التاريخي والحضاري والثقافي الذي تزخر به بلادنا الغالية من خلال احترام الآخر، وتقبل تعدد قراءات الواقع بوصفه ضرورة الحاضر.
كتاب القرني والتخندق العقائدي
كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» الذي صدر في عام 1988م لمؤلفه عوض القرني، الذي يعد أحد كبار دعاة «الصحوة» آنذاك، هو مثال فاقع على التخندق العقائدي والتكلس والجمود الفكري، الذي يندرج ضمن الأجندة السياسية والاجتماعية والفكرية الخفية لتيار الإسلام السياسي المتصدر للمشهد العام في بلادنا على مدى عقود؛ إذ يرفض ويشوه، بل يسعى لتبخيس وإقصاء الآخر والرؤى المغايرة، وصولًا إلى التكفير والتفسيق بحق ما اعتبر بدعة الحداثة في داخل المملكة وعلى الصعيدين العربي والغربي.
واقع الحال أن الموقف العدائي من الحداثة بمختلف تجلياتها لا يعبر عن الجمود (الدوغما) الفكري والأيديولوجي فقط لتلك الجماعات التي ترى نفسها تمثل الفرقة الناجية والآخرون على ضلال، بل يصبّ في خدمة مشروعها المعلن ( تطويع واختطاف المجتمع ) والخفي (اختطاف الدولة).
الواقع ومجرى الحياة والتجربة العيانية يشي بأن الصراع لم يكن في حقيقته دفاعًا عن صحيح الدين ومرتكزاته الثابتة (المقدس)، بل يصب من أجل استهدافات الهيمنة والسيطرة السياسية والأيديولوجية والاجتماعية (المدنس).
جاء في كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام»: «لأن كثيرًا من العلماء والأدباء الغيورين، يظنون أن الخلاف مع الحداثة، خلاف بين جديد الأدب وقديمه، وأن المسألة لا تستحق كل هذا الاهتمام، وهذا ما يحاول الحداثيون أيضًا أن يرفعوه في وجه كل متصدّ لهم، لكنني أؤكد أن الصراع مع الحداثة -أولًا وأخيرًا- صراع عقائدي بحت؛ إذ إنني لا أنطلق في كتابي هذا في الحوار مع الحداثة منطلقًا أدبيًّا، يتحدث فيه المتحاورون عن عمود الشعر، ووزنه وقافيته، وأسلوب القصة، إننا نختلف معهم في المنطلقات الفكرية العقائدية، ونعترض عليهم في مضامينهم ومعانيهم التي يدعون إليها، وينافحون عنها، وعن هذه فقط سيكون حديثنا.. إن كل من يصدق أن الحداثة مدرسة أدبية في الكتابة والشعر والقصة واهم أو جاهل بواقع الحال، أطالبه بأن يقرأ هذا الكتاب، ثم يحتكم إلى كتاب ربه وما يمليه عليه إيمانه فقط».
كما جاء في الكتاب «أننا تعودنا من الحداثيين أن يرفعوا عقيرتهم بالصياح عندما نريد أن نحاكمهم إلى دين الله، ويقولون: ما علاقة هذا بالأدب والفكر؟ بل يقولون: إن التستر وراء الدين والالتجاء له في الخصومة الفكرية علامة الضعف والهزيمة، ومع ذلك فإننا نؤكد مرة أخرى أننا سنحاسبهم إلى الدين، وإلى الدين فقط».
في حقيقة الأمر لم يتضمن كتاب الحداثة مناقشة عميقة لمفهوم الحداثة بشكل عام والحداثة (الغربية) المعاصرة بشكل خاص؛ إذ كان التركيز على «نقد» الحداثة الأدبية وبالتحديد الحداثة الشعرية، من خلال الشتم والقذع والعبارات الهابطة دون امتلاك العدة النقدية العلمية اللازمة.
جاء في موضع آخر في الكتاب «ولا شك أن الحداثيين العرب حاولوا بشتى الطرق والوسائل، أن يجدوا لحداثتهم جذورًا في التاريخ الإسلامي، فما أسعفهم إلا من كان على شاكلتهم، من كل ملحد أو فاسق أو ماجن مثل: الحلاج، وابن عربي، وبشار، وأبي نواس، وابن الراوندي، والمعري، والقرامطة، وثورة الزنج… وبذلك فهم مجرد نقلة لفكر أعمدة الغرب مثل: إليوت وباوند وريلكه ولوركا ونيرودا، وبارت وماركيز، وغيرهم إلى آخر القائمة الخبيثة التي اضطرنا حداثيونا إلى قراءة سير أهلها الفاسدة، وإنتاجها الذي حوى حثالة ما وصل إليه فكر البشر».
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هو ما مفهوم الحداثة؟
يرتبط مصطلح الحداثة بعصر النهضة والأنوار الأوربية (القرن الثامن عشر) ومفهوم الحداثة في محتواها وجوهرها عملية سيرورة يُنتَقل من خلالها من نمط معرفي إلى نمط آخر مغاير له، وهي بهذه الصفة تشكل عملية قطع وتجاوز للرؤية والتصورات التقليدية السابقة في فهم وتحليل وتفسير الواقع وصولًا لتغييره، وذلك باستخدام منهج نقدي علمي جديد، حيث تتبلور الحداثة من خلال تطور متصل ومتسارع في المعارف بأسئلتها ودلالاتها وأدواتها وأنماط الإنتاج ومجمل العلاقات الاجتماعية، وتغير سلم القيم والمعايير والسلوك والممارسة، وتؤكد الحداثة وجودها وحضورها من خلال استثارة وتفعيل الجوانب العقلية والعلمية والنقدية والتحليلية وقبول الآخر. وتجري هذه العملية في سياق تشكل اجتماعي (طبقي) وعلاقات أفقية ديمقراطية وتعددية سياسية وثقافية، وانبثاق مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني.
الحداثة إذًا هي عملية متكاملة تقطع وتتجاوز الطرح المجازي والأسطوري والبياني والسلطوي والخطابي والعلاقات العامودية والتكوينات التقليدية، وفي الواقع فإن الدعوة في الغرب إلى تفكيك وتجاوز الحداثة (ما بعد الحداثة) وتبيان حدودها ومحدوديتها وتناقضاتها إنما تتم على أرضية الحداثة وباستخدام منهجها وآلياتها. يتحدد الفارق الرئيس بين حداثة الرأسمالية والبرجوازية الغربية من جهة، وحداثة البرجوازية التابعة الرثة في بلدان الجنوب ومن بينها البلدان العربية من جهة أخرى، في كون الأولى اعتمدت في نشوئها على مكوناتها ومقوماتها ومواردها الذاتية في المقام الأول، شكلت بمجملها قطيعة مع المجتمع الأبوي القديم، في حين أن الحداثة في المجتمعات العربية على سبيل المثال اتخذت شكلًا هامشيًّا وهجينًا وهشًّا ضمن انفصام حضاري وتبعية وتخلف واغتراب عام، يتمثل في التقابل والتعارض المفتعَل ما بين القديم (الأصالة) والجديد (المعاصرة)، الخصوصية والكونية، النقل والعقل، النص والاجتهاد، ويتم ذلك من خلال الهروب والانسحاب إلى الماضي وإسقاطه على الحاضر بصورة تعسفية أو الهروب إلى الآخر والتماهي معه.
مشروع نهضوي مجهض
السؤال المركزي هنا: لماذا لم تستطع المجتمعات العربية تمثل حداثتها وإنتاجها، وظلت أسيرة التخلف والإعاقة الحضارية، ليس قياسًا بالمراكز المتقدمة، وإنما مقارنة بتجارب وأوضاع مجتمعات كانت تُعَدُّ حتى أمد قريب من البلدان المتخلفة؟
في الواقع، إن المشروع النهضوي العربي المجهض يعود في بداياته إلى منتصف القرن التاسع عشر، من بينها (إصلاحات محمد علي في مصر) وقد سعت اليابان آنذاك للاستفادة من تلك التجربة عبر وفد أرسله الإمبراطور ميجي لمصر للاطلاع والاحتكاك ونقل الخبرة المصرية، والمفارقة هنا هي انطلاقة اليابان ويقظتها من سباتها الطويل وانفتاحها وتملكها لمنجزات الحضارة والحداثة المعاصرة من دون عُقَد الماضي أو قيود الوعي والتقاليد البالية، بل إن هناك تجارب تنموية لاحقة، قد سبقت البلدان العربية بأشواط عديدة مثل الصين والهند وبلدان شرق آسيا وجنوب إفريقيا، وفي المحيط العربي تحضر إسرائيل بإمكانياتها الصناعية والتكنولوجية والعلمية والعسكرية التي تفوق البلدان العربية مجتمعة. ووفقًا لتقارير التنمية العربية الصادرة من الأمم المتحدة فإن المنطقة العربية تحتل الدرجات الدنيا إلى جانب الدول الإفريقية وبعض دول أميركا اللاتينية من حيث معدلات التنمية السياسية والاقتصادية، ونوعية الحياة وتطور الموارد البشرية من قوى منتجة، وإنتاجية عمل وتعليم وصحة وتوظيف، وفي مستويات توطين التكنولوجيا والعلوم ووسائل الاتصال ومراكز الأبحاث، إلى جانب ارتفاع معدلات المديونية والفقر والأمية والبطالة والفساد، ناهيك عن الوضع المتدني للمرأة وتهميش الأقليات، وهو ما جعلها مرتعًا للحروب (الداخلية وفيما بينها) والعنف والتطرف والإرهاب.
يعزو بعضٌ سببَ ذلك إلى عوامل خارجية (نظرية المؤامرة) فيما يعزو آخرون السبب إلى عوامل داخلية تتمثل في البنى الفكرية والنفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة التي تتسم بالتخلف والانقسام والانفصام وهيمنة الفكر الأسطوري التأملي ورسوخ العادات والتقاليد وقيم القبيلة والعشيرة والطائفة، وشيوع اقتصاديات ريعية ونشاطات طفيلية وهامشية غير منتجة، وهذا التخلف لا يتخذ مظهرًا اقتصاديًّا أو تنمويًّا في المقام الأول بل إنه يقبع في أعماق بنية المجتمع الأبوي أو الأبوي المستحدث (وفقًا لهشام شرابي) ويشمل المجتمع والفرد معًا، ويتميز هذا التخلف بخاصيتين متميزتين هما: غياب العقلانية في الرؤية والممارسة، والشلل وعدم القدرة على الفعل وتحقيق الأهداف المستقبلية الموضوعية لدى التطرق إلى ما هية التخلف وأسبابه وسبل مواجهته وتجاوزه لا بد من استنبات رؤية وطريقة تفكير ولغة جديدة تقارب الواقع وتكون أداة كاشفة له مما يفترض بالضرورة الابتعاد من طرق التفكير واللغة المجازية والضبابية والمخاتلة التي تحجب وتغطي الواقع وتعمل على تعتيمه.
مع أنه حدثت تغيرات مهمة في بنية المجتمع العربي خلال القرن المنصرم على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى استبدال نظام سياسي واجتماعي جديد بالنظام القديم، بل أدى إلى إضفاء نوع من التحديث المظهري (الشكلي) على ذلك النظام بتحويله إلى شكل نظام أبوي «مستحدث» يزعم أنه استطاع مواكبة الحديث من دون انزواء أو قطع عن الماضي والتراث (الخصوصية)، وفي الواقع فإن ما نراه هو واقع تلفيقي وهجين، بعيد من جوهر وحقيقة التحديث والحداثة، أو التراث والأصالة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق