كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الصوت.. والأجراس أفق الحداثة من «العواد» إلى «العلي»
«كان العواد طالبًا يضيق به مقعد الدراسة كما يضيق به أكثر مدرسيه؛ لجرأته وشذوذ فكره، وراحته مع الكبار!!»(1). تمتد إمكانية «تعليق الجرس» من حالة العدم والاستحالة حتى الضبابية إلى أن تصل إلى الحد الذي يمكن أن تتحول فيه أي خطوة نمشيها في البيت أو الشارع أو مقعد الدراسة هي محاولة لرفع ذلك الجرس. وفيما يبدو الفضاء هنا متسعًا لكل إنسان لتجربة ذلك الاحتمال، إلا أن الفارق الوحيد بيننا ينهض من قدرة ذلك الفرد أو القلة من الأفراد على إحداث الصوت المختلف الذي يجعل من حمل الأجراس إشارةً إلى النجمة البعيدة!
ولذلك يغدو الكلام عن هذه النجمة ـ «الحداثة» وروادها في بلادنا حديثًا عن الإشارة إليها وهي تلوّح ببريقها لنا من أعالي أمكنتها من دون أن تترجّل إلى وهادنا الصحراوية الشاسعة، ودون أن نمتلك الجرأة على الصعود العصيّ إليها. ذلك أن الحديث عنها في واقع عربي ينتمي إلى عصور ما قبل الحداثة، والذي يتسم ويفتخر بسمات تغييب العقلانية وانعدام الحرية، وبعدم وجود المناخ الثقافي الضامن لنمو الفرد وملكاته وحقوقه، وبتسييد ثقافة تحتفي بالنقل ضد العقل والاتباع من دون الإبداع، سوف يغدو في أفضل أحواله حديثًا عن نسبية مفهوم «الحداثة» التي يمكن أن يتبنى التفكير في أسئلتها الجذرية فردٌ أو أفراد قلّة من أمثال ذلك الطالب المتسائل والمتمرد «محمد حسن عواد» أو«عبدالله القصيمي» أو «محمد العلي» ومن حضر بعدهم!
– وفي مقالة بعنوان: «أيها المتشاعرون»، يوجه خطابه إلى الشعراء المنخرطين في كتابة الشعر الشكلاني لا في إبداعه، تشطيرًا وتخميسًا وتشجيرًا قائلًا: «نظم الشعر جميل، ولكن أين الشعر فيما تنظمونه أو تروونه؟ كل هذا أيها المتشاعرون صديد فكري، وقيوء لو أنفق العمر أجمعه في مثلها لما وصل الناظم إلى الشعر… وما الشعر إلا روح شيطانية عاتية تأبى أن تسكن هذه الخرائب البالية المحطمة… والشعر ليس ألفاظًا ومعاني فقط، وإنما الشعر أمرٌ آخر خلف الألفاظ والمعاني» ص 46.
– «بطرفٍ من الفلسفة، وقبسٍ من التاريخ، ولمحةٍ من العواطف، وتيارٍ هائلٍ من التفكير، يتكوّن الأدب العصري الصحيح» ص 116.
– «أحسن وسيلة لتربية العقل هي التفكير بحرية، وعدم قبول الأشياء على علاتها» ص 113.
– «أتى الدين ليسدد خطوات الإنسان، ويقوده إلى طريق الحقيقة، والنور خلق ليقضي على الجمود، وليضع حدًّا للتعصب العنصري، والغشاوة الفكرية، ويُنهض الروح من مَبَارك كان معتقلًا فيها، فلا يجب أن نشوّه سمعته، فنفهم أن وظيفته هي أن يعلمنا الصوم والصلاة والاعتكاف فحسب» ص 114.
– «تعليم المرأة سنّة مدنية يجب ألا يهملها الشرقيون» ص117، كما يقول في خطابه إلى المرأة: «فكّري، واكتبي، واقرئي، واستعدي، وتعلمي، ودعي التقليد، فأمامك مستقبلٌ مثير حافلٌ بما حملته إلى الشرق وإلى الغرب، وستحمله مدنية القرن العشرين» ص 56.
– يقول في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب: «إن الأساس الذي بني عليه هذا الكتاب -بجزأيه- ليس هو تطوير فن الكتابة وحده، فهذا بعض جوانب الأساس، ولكن هو الخلق.. الإبداع.. إبداع الواقع وخلق المستقبل عن طريق فن الكتابة وفن التفكير. وأنا أستعمل كلمة «خلق» هنا وأكررها عمدًا وأضغط عليها للفت نظر المعنيين بالإصلاح من ولاة الأمور العامة، والمعنيين من حملة الأقلام الجريئة، إلى وجوب تحطيم الوهم القائل «ليس بالإمكان أبدع مما كان»(3).
هذه العناوين وتفصيلات مضامين مقالاتها، تعيننا على رؤية حامل الأجراس وهو يقرعها بعنف؛ ليصل صدى أصواتها إلى من حوله، ناطقة بلسان فصيح بأن طريق الرقي والتقدم ينطلق من ثورة فكرية تسعى لتسييد العقلانية ضد الخرافة، والمعرفة العلمية ضد ثقافة الوهم، وحرية الفرد وتعبيره وتفكيره ضد القمع، وحرية الإبداع الجديد ضد السائد والنمط المستهلك، وضد الاتباع والتقليد!
وحين نمد هذه العناوين إلى جذورها العميقة في الفكر والحقوق والإبداع والاجتماع، سنرى أنها تتقاطع -على بساطتها هنا- مع أهم مرتكزات «الحداثة» القائمة على العقلانية والحرية، وكيان الفردانية وحقوقها، وفي الثورة على النمط والاتباع في الإبداع. وحيث نرى -من منظور زمني ومعرفي مختلف- أن متون هذه العناوين تفتقر إلى العمق المعرفي والمنهجي، فإنها في لحظتها التاريخية تلك ستكون-رغم كل شيء- نزوعًا وتشوفًا مبكرين صوب آفاق الحداثة، وقد استقرّت في كيان هذه الذات المتمردة!
شهادة من أبرز المنافسين
لعل من أهم الشهادات التي عبر عنها أحد أبرز مجايليه من المنافسين والمحبين في آن، هو ما قاله عزيز ضياء عن هذا الكتاب: «والذين يعطون العواد صفة «الشعلة الاجتماعية» أو من يعتبرونه حامل شعلة رسالة اجتماعية أكثر من كونه شاعرًا ينصفونه ويضعونه في المكانة الرفيعة التي استحقها عن جدارة.. وكتابه «خواطر مصرحة» كان أشبه بقنبلة، لا أدري شخصيًّا كيف استطاع طباعته ونشره. وذلك في حد ذاته معجزة لم يسبق لها مثيل، ولم تتكرر حتى اليوم. وليس في أسلوب الكتاب ما يُنظر إليه كإبداع أو عمل فني متميز، ولكن الموضوعات التي عالجها –وبصراحة- هي التي استوقفت الأنظار، وزلزلت السطوح الراكدة والعقول الغافية أو الخامدة،… وكان العواد فتى فقيرًا جدًّا، ولكنه اكتشف ما وراء ذلك الواقع البائس من غد، فألّف كتابه وطرحه في الأسواق (سرًّا) وقد بلغ من شجاعته أن أصرّ على كل كلمة قالها وكانت مما يجب أن يقال… إلى آخر الشهادة المثبتة بكاملها في مجلة النص الجديد.(4)
ورغم كل ذلك فقد استمر العواد في قرع أجراسه التنويرية في الكثير من المجالات. وفي عنفوان ثورته على القديم شكلًا ومضمونًا ذهب مبكرًا في استهداف تحطيم «رمزية» الإلف والاعتياد والنمط السائد، بكسر العمود الشعري بكل أركانه البلاغية المهيمنة؛ ليبتكر خلقًا شعريًّا مختلفًا حين نشر قصيدتيه من الشعر الحر في صحيفة القبلة عام 1921م، وهما: «تحت أفياء اللواء»، و«نطلب العزّة أو يهراقُ دم». وفيهما كان سابقًا لمحمد فريد أبو حديد ولعلي أحمد باكثير، ناهيك عن نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب في الذهاب إلى كسر قيد النمط الشعري شكلًا، ودلالةً بما عبّر به عما يمور في وجدانه كمثقف طليعي ينشد أسباب القوة لكيان الأمة، عبر انهمامه بموضوعة الاتحاد العربي.
ولا يضير العواد أن تفجّرت رغباته العميقة في التحرر من قيد الوزن بعد أن قرأ نصًّا عاديًّا لشاعر عراقي مجهول رمز لاسمه بـ«ب.ن»؛ لأن العواد أكد هذه الرغبات الطموحة والمتجاوزة للسائد في كتابه وعناوينه التي أشرنا إليها آنفًا. هذا السبق التاريخي قد أحدث اختلافًا وتشكّكًا لدى بعض الباحثين، ومنهم الدكتور عبدالله الغذامي، ولكن الدكتور محمد الصفراني الناقد الأدبي والباحث الجاد قد وثّق هذا السبق التاريخي للعواد في كتابة شعر التفعيلة، في بحث عميق بالعنوان نفسه(4).
وقد لاقت هذه التجربة الجديدة لكتابة الشعر الحر صدى واسعًا في الوسط الأدبي في الحجاز؛ حيث تصادى معها عدد من الشعراء منهم: عبدالوهاب آشي، ومحمود عارف، وعباس حلواني، ومحمد علي باحيدرة، وحمزة شحاتة، ومحمد حسن فقي، وسواهم. وقد جمع محمود عارف كل تلك القصائد في مسودة كتاب مخطوط بعنوان «نفثات حرّة»؛ إذ باركها وتفاعل معها عدد من أدباء تلك المرحلة، منهم: عمر عرب، وسعيد العمودي، ومحمد سرور الصبّان، وعبدالله فدا، واستعد الصبان لطباعتها على نفقته الخاصة(5).
غير أن القوى المحافظة، متجلببة بالتقاليد الموروثة والمقدس لم تترك لحامل الأجراس فسحة كافية ليصل صدى صوته إلى محيطه، فتوقف الناشر عن طباعة تلك التجربة الشعرية الرائدة، التي لو قيض لها الطبع والانتشار لكنا قد مضينا على دروب الإبداع والتجديد والحداثة الشعرية مبكرين، بل وسبقنا بعضًا إن لم يكن كل العواصم الثقافية العربية في هذا المجال؛ إذ كان مقدرًا للتجربة أن تفتح الأذهان على الخلق الجديد في مختلف مجالات الحياة في بلادنا، وبخاصة ما يتعلق بفضاء الفن والأدب.
حامل مشعل التنوير
على الرغم من محاصرة الضوء الذي حمله العواد وبعض أقرانه، ورغم كل ما عاناه من القوى المحافظة والمهيمنة في كافة أبعادها، إلا أنه واصل العطاء -في حدود ما سمحت به الظروف والتحديات- بالروح الوثابة نفسها، كحامل لمشعل النهضة والتنوير والرنوّ إلى آفاق الحداثة الشعرية في بلادنا؛ إذ عمد في جهده النقدي الأدبي إلى تعميق معنى الشعر، وارتباطه بالوجدان الثقافي والفني للمبدع، بغض النظر عن قوالب التعبير الإيقاعية عن تلك الحالة الشعرية؛ إذ يقول في مقدمة ديوانه «الأفق الملتهب»: «طبيعة الشعر تتصل بالروح والنفس وما فيها من أفكار ومشاعر وخلجات، وهذه أشياء داخلية. أما طبيعة العروض فتتصل بالعمليات الفنية الخارجية التي تباشر قوالب الشعر وليس الشعر ذاته، وهذه العمليات هي أساليب لنظم الشعر…» إلى أن يقول: «ليس باللازم ألا يكون الشعر إلا منظومًا»(6).
إن هذه الآراء النقدية الأدبية حول مفهوم الشعر تتسق مع تكوين ثقافة وتطلعات هذا المثقف الرائد والباحث عن الجدّة والابتكار والإبداع في مختلف الآفاق، حيث يغدو هنا مشرّعًا لكسر حصر الشعرية في النمط الشعري الموروث، حين يمضي باتجاه الإمساك بالشعرية الكامنة خلف الوزن والقافية وعمود الشعر، التي يمكن أن نجدها في أي إبداع شعري، يمتد من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة، وحتى قصيدة النثر التي رأى أنها تنطوي على إيقاعها الشعري الداخلي!
لقد اختط العواد طريقًا نهضويًّا صوب آفاق الرقي والحرية والإبداع، وقد بقي لنا من مسيرته الطويلة صدى صوته المدوي الذي خنقته الظروف والمؤسسات، بيد أن هذه الانشغالات الجليلة حقًّا وما رافقها من تحديات، قد جعلت من القصيدة عنده فضاءً لبثّ خطاب «الرسالة» من دون العمل على تطوير شعرية النص، لغةً وصياغةً وعذوبة شعرية، فغلبت على قصائده حمولات الرسالة التنويرية الأقرب إلى التقريرية المباشرة، بما أدى إلى حرماننا من أن يكون أحد آباء حداثتنا الشعرية الفاعلة!(7).
هوامش:
(1) د. محمد الصفراني – السبق التاريخي لمحمد حسن عواد في كتابة شعر التفعيلة – المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل – العدد 2 من عام 2010م.
(2) حوار مع عزيز ضياء – مجلة النص الجديد – العدد الخامس– إبريل عام 1996م.
(3) مرجع الإحالات إلى كتاب خواطر مصرحة – ضمن المجلد الأول لأعمال العواد الكاملة – القاهرة – دار الجيل للطباعة – عام 1981م.
(4) د.محمد الصفراني – المرجع بعاليه.
(5) محمد حسن عواد – المرجع بعاليه.
(6) د. محمد الصفراني – المرجع بعاليه.
(7) عبّر الشاعر عبدالكريم العودة عن ذلك في مقالة له بعنوان: «نحن جيل بلا آباء» – مجلة اليمامة – عام 1980م.
المنشورات ذات الصلة
الرواية السعودية في مهب التحولات الكبرى
منذ نحو قرن من الزمان، وبالتحديد في عام 1930م، صدرت الرواية السعودية الأولى «التوأمان» لعبدالقدوس الأنصاري. وفي عام...
المرجع في الكتابة الروائية السعودية المعاصرة روايات أحمد الدويحي أنموذجًا
التعبير الإنساني في عمومه يعتمد على فعل (الانتقاء)؛ فمن نسيج العالم المحيط بالذات المعبرة والمحتضن لها في الوقت نفسه...
بيروت في روايات ربيع جابر… الخروج من متاهات العنف إلى ذاكرة عادلة
في محبة بيروت كتب ربيع جابر خمس روايات بارزة. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ في بادئ الأمر ثلاثيته «بيروت مدينة العالم»...
0 تعليق