كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مدن «إعادة الإعمار» والرواية
إن المتغيرات السريعة والدراماتيكية التي ألمت بالمدن العربية في سنوات الحروب التي طالت دولًا عدة، وبخاصة بلدان ما سُمِّيَ بالربيع العربي، ومنها سوريا على وجه الخصوص، يطرح على الطاولة سؤال الرواية والمدينة من جديد، ويلحّ على استنطاق الواقع المدمر بما يمكن أن تكون عليه العلاقة الجدلية بين المدينة والرواية.
إذا كان عصر النهضة العربية قد نجمت عنه ولادة الرواية عن المدن التي تحولت نحو التحديث وأثرت في الوعي الذي انقسم مستويين متقابلين؛ الوعي القديم بثوابته التقليدية، والوعي الجديد المفتوح على التحديث ومتحولاته، فإن العصر الحالي بما يمور من حروب وعنف وتدمير طال البنيان والمجتمع وكل منظومات الحياة، وأحدث انقطاعًا في التدفق الزمني للمدن، بل يمكن القول: إن هذا التدفق كان قد تعرض إلى عوائق في العقود الماضية التي تلت عصر النهضة الواعد أدت إلى تباطؤ جريان الزمن، نجم عنه استنقاع لم تكن المدن بمنأى عنه، المدن بفضائها الإنساني وما يستتبعه من نشاط وإنتاج وَسَمَا تلك المرحلةَ.
لو وضعنا الزمنين، زمن النهضة العربية وزمننا الحالي، بعضهما مقابل بعض لوجدنا أن هناك خطًّا بيانيًّا يسير متعاكسًا بالرغم مما أنجزت البشرية من تقدم سريع وإنجازات في القرن المنصرم كان أعظمها الثورة الرقمية التي وسمت النصف الثاني منه، وصار العالم يعيش ضمنها اليوم. كذلك التحولات الكبيرة اللاحقة للحرب العالمية الثانية ومنها أن شعوبًا عديدة استفادت من تجاربها ونهضت من تحت ركامها وبنت دولها التي تعدُّ اليوم من الدول القوية الراسخة، كألمانيا واليابان. وأسهمتا في رفد الحركة الأدبية في الرواية وغيرها من الأجناس بأعمال تدلُّ على التجديد المستمر المترافق بحركة نقدية جادة.
التغيرات الحداثية التي طالت المدن العربية كان لها علاقات جدلية مع أقطاب التنوير حينها، علاقات نجمت عنها أنشطة ثقافية عدَّة واكبت الحداثة التي كانت بدأت تضع بصماتها على المدن كنشوء الصحف أو الجرائد وتوسعها وإرهاصات الرواية العربية، ومساهمات الجرائد حينها في إشهار هذا النوع الأدبي وتقديمه إلى جمهور متلهف للجديد، مقابل جمهور آخر يخشى من التحديث ويتمسك بالثوابت التقليدية في وجه المتغيرات. كذلك المقاهي الثقافية التي باتت اليوم جزءًا من سردية تاريخية لتلك المدن، واكبت هذه المتغيرات التطور العمراني الذي كان يرنو إلى بناء المدن الحديثة ذات الوظيفة الاجتماعية مع التمسك بالقيمة الجمالية وإعطاء فن العمارة وهندسة المدن الأولوية، دعم هذه الإنجازات وجود أنظمة حكم اهتمت بمدنها، حتى لو كان الدافع النرجسية والشعور العارم بالملكية، من خلالها كان الحكام يتطلعون إلى أن يباهوا الأمم الأخرى بها.
لا يمكن الاقتداء بتلك التجارب الريادية اليوم، فمشاكلنا تختلف جذريًّا عن تلك الحقبة، وتغيرات المدينة ارتبطت بجريان الزمن، والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على غير ما هي عليه اليوم. فميلاد المدينة الحديثة في ذلك الزمان واكبه نمو واكتمال الوعي المديني مرتبطًا بالطبقة الوسطى التي صارت في عصرنا الحالي آيلة إلى التلاشي بعد الفرز الصاعق الذي أحدثته الحرب، وقبلها عقود الفساد الحكومي والاجتماعي في طبقات المجتمع؛ إذ ظهرت طبقة من أصحاب الأموال منبتّة من الفراغ القيمي والفكري احتكرت قطاع المال والأعمال من دون أن يكون لديها مشروع وطني، لتأتي الحرب وتقضي على ما بقي من أطلال الطبقة الوسطى وتعيد الفرز والتصنيف من جديد، ويصبح تجار الحرب هم المرشحين مستقبلًا لتسلُّم الاقتصاد وإعادة الإعمار وامتلاك مصير المجال العام، مع الأخذ في الحسبان مدى افتقارهم للمعرفة والعلم والقيم.
بما أن المدينة وعاء سياسي وثقافي وإبداعي لتعدد الأجناس والأعراق والطبقات والمعتقدات والثقافات وأنواع الإبداع المختلفة، فإنها تخلق وعيًا مدينيًّا ينجم عنه تغيير العلاقات الثقافية وأدوات إنتاج المعرفة، وهذا ما يسم عصر النهضة، لكن ذلك العالم الصاعد الذي رمزت إليه المدن المتحولة كان قد انهار في مرحلة لاحقة ولم يعد يقوى على الصعود بعد أن دَوَّتِ الهزائم في فضاء المنطقة العربية، وبخاصة بعد هزيمة حزيران 1967م، وما نجم عنه من أدب سُمِّي بأدب النكسة أو أدب الهزيمة، تلك الهزيمة التي أسست لمرحلة جديدة في ظل أنظمة عسكرية شمولية كانت قد صادَرَت الحريات منذ وصولها إلى الحكم وقبل النكسة، واستمرت هذه الممارسات مواكبة نمو المدن الورمي الفوضوي وازدياد العشوائيات حول مدن النهضة السابقة كسوار من الفقر والبؤس والجهل.
لقد كانت الرواية أكثر وأسرع الأجناس الأدبية إلى تلقف الزلازل التي عصفت بالمنطقة، وبخاصة الزلزال السوري منذ بدايته أو بالأحرى منذ تفشي العنف وتحول حركات الانتفاضة الشعبية نحو العسكرة واشتعال الحرب وانهيار المجتمع بطريقة دراماتيكية، وكانت القضايا التي طرحتها غالبية الروايات هي العنف والتشريد واللجوء والقمع والطائفية ومظاهر أَسْلَمة المجتمع والنزعات العنصرية، حتى يمكن القول: إن بطل الروايات الأكبر كان العنف، وإن بعض الروايات تأثرت بسِمَة العصر «الصورة والمشهدية»، فكانت كما لو أنها كاميرا تجول في الأماكن، وبعضها كأنها وثيقة تدون الأحداث، وقسم منها مثلما لو كانت صراعًا عقائديًّا أو أيديولوجيًّا يجري بين شخوص الرواية، منها ما رسم بانوراما توثيقية شملت معظم المدن السورية في المرحلة الأولى من الحراك عندما كانت المظاهرات تعم المدن أيام الجُمَعِ. وبعضها رسم للمدن التي غادرها صورًا من الذاكرة مغمسة بالحنين والنوستالجيا في مقابل صور اليوم التي يشاهدها على الشاشات أو يسمعها من أفواه الذين طفروا في تغريبتهم.
تنوعت مصاير المدن السورية، بين مدمَّرة أو مهجورة أو تحت سيطرة نفوذ أجنبي أو فصائل لها طرق إدارتها الحياة. وما بقي تحت سيطرة النظام الحاكم لكنها تعرض لتغيير في هويته لا يمكن وصفه بشكل نهائي لأن التخلق على هامش الحرب ما زال مستمرًّا وفق أخلاقها. لكن يمكن القول: إن مصير المدن بأفضل حالاتها صورة واقعية لديستوبيا تفوق الخيال.
لكن الحديث عن المدن الموعودة، المدن التي تنتظر على حدود دمارها ونزيف أرواح من غادروها حيتان المال المتلهفة لتكويم الأرباح من وراء بنائها، المدن التي سوف توضع لها مخططات وفق ثقافة الجهات المستثمرة وتوجهاتها، ولن يكون للهوية السورية مكان فيها، الهوية التي انشطرت وتعددت وضاقت مساحتها، صارت هويات مناطقية أو تنتمي إلى مرحلة ما قبل الدولة في بعض أجزائها، كيف سيكون شكل المدينة الجديدة، أو المدن الجديدة؟ وأي فضاء ستمنح للوعي المديني ووعي الذات والخصوصية؟ في سوريا أثناء الحرب أحدث الزلزال هوة سحيقة العمق بين الحاضر الذي كانت عليه المدن والمستقبل المتوقع، هناك انقطاع للزمن. ليست الصدمة صدمة الحداثة التي كانت محرضًا للوعي المديني في عصر النهضة المذكور، لكنها صدمة وجودية هزت الوعي وخلخلت أركانه، فالمدن الموعودة المنتظرة، لا لتنهض من تحت ركامها كما عنقاء أسطورية، بل تنتظر انتظار العاجز عن مصيره مثل جريح يتكوم فوق ركامه لتمتد أية يد إليه ولن يمتلك ترف الاختيار، هذه المدن التي يفترض أن لها سكانًا سيعودون إليها بعد إعمارها، هي التي ستصنع الصدمة الثانية، ومعظمها لجأ ساكنوها إما إلى دول الجوار حيث تلقفتهم حياة اللجوء القاسية بشرط مهين لإنسانيتهم، ولد جيل في تلك المنافي المنافية للظرف الإنساني، جيل بدأ يكبر ويشكل رموز وعيه بعيدًا من العصر، بلا مدارس بلا طفولة بلا أمان بلا عناية صحية بلا ألعاب بلا حكايات غير حكايات الموت والدمار والضغينة والثأرية، هذا الجيل الذي ستمنُّ عليه نهايات الحروب وثمار طاولات التفاوض بعدها بعودة إلى مأوى وإلى مدن وأحياء عليه أن يرسم فيها فضاءه الخاص، لن يمنح ترف أن يمارس حلمه وخياله في تصميم بيئته، بيته شارعه الحي الذي يعيش فيه، الأسواق، الساحات، الميادين، المتاجر، دور السينما، المسارح، دور العبادة، أماكن الترفيه، أماكن التسلية؛ كل هذا سيهبط عليه من فوق، من إرادة المال والاستثمار والربح، من أموال تجارة الحروب التي كان ضحيتها وثمنها الباهظ.
أي وعي مديني وأي علاقة بين الساكن الجديد في أرضه القديمة عائدًا من تغريبته القاسية إلى أطلال أزيلت أنقاضها وارتفعت مكانها أبنية أخرى وأحياء وشوارع أخرى، وجيران آخرون؟ ما الفضاء الإنساني المتوقع أن يتشكل فوق جمرات مطمورة تحت رماد النفوس التي التهمتها حرائق الحرب، وأي مجتمع ينتظر أن يتخلَّق بعدما خلخلت الحرب بنيانه المهتز أساسًا وهتكت نسيجه المهلهل؟ كيف ستنشأ العلاقات في مدن تتشكل بطريقة قسرية بعيدًا من جريان الزمن وعلى صدى انفجاراته التي صدّعت الوعي والذاكرة؟
سيكون لهذه المدن تاريخها الجديد يستبطن تاريخًا أعمق، بل سيكون لكل مدينة سورية تاريخ مختلف سيبدأ من جديد، مثلما سيكون لكل منها روايتها، لن تكون هناك رواية سورية واحدة، ستكون روايات، لكن السؤال الأكثر إبهامًا وغموضًا سؤال العلاقة بين المدينة والرواية.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق