كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المثقفون اليمنيون في ظل الحرب من تسويق الموت كمنتج تحت مسمى الشهادة إلى «الهروب الجميل»
لا تترك الحرب نسيجًا واحدًا في صورة المثقف، إنها أشبه ببورتريه ممزق الملامح ومحطم كما في لوحات بيكاسو. وبالنسبة للمثقف في اليمن، كما يقول الكاتب والفنان التشكيلي نبيل قاسم، لا يربح سواء كان البلد في حالة حرب أو حالة سلم، هو دومًا خاسر. «الحرب هي ذلك السعار الملعون الذي يدفع نصف الآدميين إلى إرسال النصف الآخر للسلخانة»، يقول الروائي الفرنسي سيلين. وفي تلك الثنائيات المميتة لا ينجو المثقف. أحيانًا يصبح بوقًا تحريضيًّا. ومع أن الحرب حالة يأس جماعي، مأساة الكل، هناك صورة إنسان يقف وحيدًا في ظلام شاحب، وهو يرتدي قناع صرخة مكتومة هلعًا. وفي الطرف الآخر حيث الساحات الخربة، أو الأزقة التي لا تبلغها الشمس، يصبح القناع ساخرًا، في نسخة هوليودية لقاتل عابث. النقطة المشتركة في تضاد: هزلية سوداء. ومع ارتفاع وطأة الحرب، هناك من أعاد النظر في ذاته، أو انساق في مفرمة قلق وحشي. هكذا يروي المثقفون اليمنيون بصور مختلفة، انعكاسها عليهم.
قول نبيل قاسم: «خلال فترة الحرب زادت مساحة الظلام، وزادت مساحة الخوف، وجدت بالصدفة أوراقًا بيضاء عادية بحجم A4، وجدت ألوانًا خشبية وقلم رصاص، وبدأت اللعب. رسمت أكثر من 200 لوحة، لنقل إنها بلغة الفن إسكتشات». يلفت المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه إلى العلاقة الوثيقة بين الفن والخوف؛ إذ إن الرسم والنحت تولدا كسعي ثابت ضد الموت. فن الصورة من أجل تخليد سمات زائلة. قرأ نبيل العديد من الكتب والروايات. وكتب أشياء كثيرة لن يعرف كيف سيصنفها. إلا أن الحرب من وجهة نظره، جعلتنا أيضًا نعرف «كثيرًا من المثقفين ظهروا عبر مواقفهم السياسية مؤيدين للحروب والقتل، أحيانًا باسم الدفاع عن الوطن». لقد التقى القبلي، بالمناطقي، بالديني،… وهذا شيء جعله ينأى بنفسه بعيدًا. وأضاف: لم تكن هناك في السابق حياة ثقافية لنخسرها بالحرب. لم تكن هناك مسارح أو دور سينما لتُغلق. يتعلق الأثر السيئ بالحياة اليومية للناس التي كُسرت برأيه، أطفال اختنقت ألعابهم وضحكاتهم. ظهور هذا العدد من القتلة حين يصبح الحديث عن القتل أمرًا عاديًا، أن نرى الأطفال يُستخدمون كأدوات للقتل.
انتصار الحياة بعد كل حرب
الجميع تضرر ماليًّا واقتصاديًّا بمن فيهم المثقف، لا يوجد رابح سوى تجار الحروب. أما الثقافة في نظر نبيل فهي الطريق المعبد للخسران في اليمن. لكن حتى تكون مثقفًا عليك أن تكون عنيدًا. ينشط نبيل مع مؤسسة بيسمنت الثقافية، التي تقدم من خلال منتدى التبادل المعرفي برنامجًا كل سبت، عبارة عن ندوات، ومحاضرات، وحفلات موسيقية، ومعارض فنية. بداية الحرب توقفت الأنشطة الثقافية التابعة لمؤسسات مجتمع مدني، ثم عادت تدريجيًّا. وبصورة استشرافية تحدث نبيل: لم نعترف بالموت، وكنا نصر بأن الحياة تنتصر بعد كل حرب.
مع توقف العمل الخاص، ركز الشاعر محمد الشميري اهتمامه بالتجمعات الثقافية في الحديدة؛ حيث قام وآخرون بتفعيل دور نادي القراءة، من أجل تنويع فعالياته أدبيًّا وفنيًّا. يقول: إنه مع زيادة وقت الفراغ صار يقضي ساعات كثيرة في القراءة، أو متابعة ما يُكتب هنا وهناك. يقول محمد: إن صدمة كبيرة كان سببها مثقفين، أو من كان يعتبرهم كذلك، حين تحولوا فجأة إلى أدوات حرب دقيقة أقسى من القناصة. لكن هل يمكن إزالة صفة المثقف نتيجة سقوطه المدوي سياسيًّا. ماذا عن الفيلسوف الألماني هيدغر، الذي انساق في مناصرة النازية وآلة قمعها القائمة على وهم التفوق العرقي الجرماني. بالنسبة للشميري أخذت الحرب منحيين في أثرها على المثقفين اليمنيين؛ الأول سلبي وتمثل بمثقفين سوّقوا الموت كمنتج تحت مسمى الشهادة. والآخر إيجابي، وهم بنظره قلة ركزوا في الجوانب الفكرية والجمالية، وأعادوا النظر في إنتاجاتهم، وهو ما اعتبره نوعًا جميلًا من الهروب.
إلا أن أكثر شيء يرعبه هو تصاعد نظرة سلبية تجاه المثقفين، حتى بين المثقفين أنفسهم. وأشار محمد إلى نبرة بدأت تعلو بين الناس: انظروا ماذا يفعل المثقفون. هناك حالة كفر تضرب المجتمع بدور الثقافة، اعتبرها كارثة عميقة في الوعي الجمعي. أما عن نظرته للأمور فيؤكد أنها تغيرت، على الأقل انخفض مستوى الأمل لديه. صار أقل تسرعًا، وأكثر توقعًا للخيبات. كانت اللحظة الأكثر إيلامًا، عندما نزح أقارب له من الموت في تعز، إلى منزلهم في الحديدة. يقول: إنه حين ارتدى ابنه ثياب المدرسة وحمل حقيبته، لمح طفلًا بينهم يبكي بحرقة. سأله عن السبب. رد بحرقة: ليش أنا مش قادر أروح مدرستي بتعز؟ ما زال الشميري منشغلًا عما بعد الحرب، وآثارها العميقة.
إحساس قوي بالخراب
بصورة أخرى يتحدث الكاتب والصحفي لطف الصراري حول كلفة لا تقتصر على القتلى والدمار، إنما تداعيات نفسية سيدفعها جيلان على الأقل في اليمن. أما أكبر أثر على المثقف يقول: إنها «تدفعه إما إلى تجزئة ضميره أو إلى الجنون». إحساس قوي باللاجدوى والخراب يعمه وهو يراوح بين الرجاء واليأس. على الصعيد الشخصي تبدلت حياة الصراري رأسًا على عقب خلال الحرب، بعد توقف الصحيفة التي كان يعمل بها، وتوقف معظم الصحف الأهلية العام الفائت. إلا أن الحرب ولدت لديه دافعًا لإعادة النظر في كثير من مفاهيم الحياة. وفي المحيط السوداوي وجد وقتًا للكتابة، وللقراءة.
حفزت مأساوية الحرب أفكارًا كثيرة لدى الصراري. يقول: إن «بعضها ينضج ومعظمها يتفتت نتيجة الهم اليومي للمعيشة من ناحية، ومخاتلة مخاوف الموت وإغراءات الحياة من ناحية أخرى». مع هذا تمكن من إصدار مجموعة قصصية شغلت الحرب معظم نصوصها. بالنسبة له حياتنا لن تعود كما كانت سابقًا، ومنطلقات الكتابة وموضوعاتها لن تكون هي نفسها. ويضيف: «هذا يشغلني كثيرًا بقدر ما تشغلني أمنيات السلام». فذاكرة الحرب تترك الكثير من الندوب، ليس أولها صراخ أطفاله إثر تجارب الخوف، ولا آخرها أحذيتهم الممزقة وألعابهم الحربية. تجربة الحرب أيضًا تختلف بالنسبة لأولئك الذين عاشوا ظروفها الدامية وسط المدن».
يصف الكاتب نشوان العثماني، وهو مراسل لـ«مونت كارلو» في عدن، كيف أحاطتهم الحرب من كل ناحية في عدن. ونتيجة القلق زاد إدمانه على مضغ القات. كانت المواد الغذائية تنعدم، أما القات فلم ينقطع عدا أيام قليلة. تضاعفت أسعار المواد الغذائية، لحظات مشحونة بالرعب والمأساة. انعدمت أنابيب الغاز. شاهد الموت حيث سقطت صواريخ كاتيوشا وقذائف جواره؛ لتقتل أبرياء في حيه.
عاش لحظات فاقدًا الأمل، وحاول التماسك، مستعينًا بالروايات؛ ليستدين منها عوالم متخيلة. وبينما كان ينسى ما حوله داخل رواية، تعيده أصوات قذائف أو صواريخ إلى الواقع المرير. لم يقرأ شيئًا آخر سوى الروايات وكتب أوشو والفلسفة البوذية. كان يبحث عن السلام الداخلي؛ لأن أكثر ما يخيفه هو توحش الناس، وفقدان قيم المحبة والتسامح. سأل أصدقاء له في الهند ومصر وسوريا: كيف يستطيع الإنسان أن يعيش في الحروب ويظل محافظًا على سلامه الداخلي وعُرا المحبة؟ يرى نشوان أن أحلك الليالي قد تبشر بصباح ندي. فهل سيأتي هذا الصباح على اليمن، أو سينتج عنه وطن على طريق الأفغنة أو الصوملة؟ لا تتساوى الآمال. لكنّ نشوانًا يحلم بأن يستيقظ الوعي في فترة بهذا الإظلام. فإن أحلك الليالي قد تبشر بصباح ندي. كان شعاري في الحرب ولا يزال: لنرَ ما يكتبه الله وكل ما يكتبه الله جميل. لكن الجانب الأكثر قسوة، بالنسبة للثقافة برمتها، هو صورة المثقف المعرضة للتنكيل في المخيلة العامة لليمنيين. تتشكل في الوعي الجمعي، أحكام سلبية ستساهم في ارتفاع الفكر الأصولي، واتساع رقعة العنف.
المنشورات ذات الصلة
معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم فعالياته كتب جديدة وندوات وحوارات وورش جذبت جمهورًا واسعًا
قد لا تتوافر أرقام دقيقة حول الأعداد الكبيرة التي ترددت على معرض الرياض الدولي للكتاب، ولا ما أنفقته هذه الأعداد من...
«زرقاء اليمامة» أوبرا تراجيدية… تنتصر للمرأة وتنفتح على المستقبل
لحظة بدت شديدة الطموح إلى مخاطبة العالم عبر أوبرا سعودية، تأخذ بأهم ما في الأوبرا العالمية من سمات جمالية ومواصفات...
“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا
فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي...
كتابة تتدفق و تجعل ما نقوله مهما، شكرا جمال حسن