كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مثقفون عرب يعيشون في أوربا يرصدون ما يطرأ من تحول
شهادات عن أوربا التي يعايشون بصفة يومية تقلباتها ويعاينون عن كثب مواقفها من الآخر
مثقفون عرب يعيشون ويعملون في مدن أوربية. وهم، في صورة أو أخرى، باتوا يختبرون جدية هذا التحول الذي تشهده أوربا في شكل عام.
هنا يدلون بشهادات عن أوربا التي يعايشون بصفة يومية تقلباتها، سلبًا كانت أم إيجابًا، ويعاينون عن كثب مواقفها من الآخر، الذي تشرع له الأبواب تارة وتغلقها في وجهه تارة أخرى.
نزعات التطرف وكراهية الآخر
سمير جريس كاتب ومترجم مصري يقيم في ألمانيا
اليمين يتقدم في معظم دول أوربا، في إيطاليا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا، وأيضًا في شرق أوربا، في المجر وبولندا؛ وبالتأكيد ستشهد المرحلة المقبلة تغيرًا في السياسات الأوربية، تجاه قضايا اللجوء والهجرة مثلًا، كما ستشهد تزايدًا لنزعات التطرف وكراهية الآخر، المختلف لونًا وبشرة ولغة وثقافة. ولهذه الزحزحة إلى اليمين أسبابها الموضوعية بالطبع، ولعل أحد الأسباب الرئيسة هي موجة اللجوء الكبيرة التي شهدتها أوربا بعد عام 2014م، وعدم قدرة الاتحاد الأوربي على معالجة أسباب الهجرة واللجوء، ووقف الحروب، وكذلك عجزه عن التعامل بعقلانية وتوازن وإنسانية مع هذا الملف، فكان أن ساد في البداية، في ألمانيا مثلًا، ما سُمِّي بـ«ثقافة الترحيب»، وكانت أخبار اللاجئين والترحيب بهم تتصدر نشرات الأخبار، لكن سرعان ما انقلب الأمر إلى النقيض تمامًا، وسادت ثقافة كراهية للأجانب، ولا سيما بعد حدوث بعض الحوادث الإرهابية من جانب عدد محدود جدًّا من اللاجئين.
هذه الموجة أحدثت شعورًا لدى قطاعات من الشعوب، ولا سيما بين العاطلين عن العمل أو ذوي الدخول الضعيفة، بأن حكوماتهم تهملهم وتهتم باللاجئين؛ وهذا ما استغله اليمين الشعبوي في معظم دول أوربا، ونراه بشكل واضح في شرق ألمانيا، حيث ما زال يشعر جزء كبير من مواطني ألمانيا الشرقية سابقًا بأنهم من ضحايا الوحدة الألمانية ومن ضحايا العولمة، وهذا ما جعل حزبًا يمينيًّا متطرفًا مثل حزب «اليمين من أجل ألمانيا» يكتسح الانتخابات المحلية الأخيرة ويحصل على نسبة عالية من الأصوات (تزيد على العشرين في المئة). إذن، ستحدث إعادة لترتيب الأولويات من وجهة نظر الحكومات اليمينية، وسيكون معنى هذا انفتاحًا أقل، وتضييقًا على اللجوء والهجرة، وكما يرى المرء الآن في إيطاليا وفرنسا والنمسا، وأيضًا في الولايات المتحدة الأميركية، كما ستقوى الاتجاهات القومية، كما نرى في حالة بريطانيا العظمى (البريكست كمثال).
على المهاجرين العرب كي يتفادوا مواجهات مع هذا الصعود اليميني، تعلم اللغة، والعمل، والاندماج إلى حد ما في المجتمع، حتى لا يسود شعور بأن هؤلاء اللاجئين يعيشون عالة على دافع الضرائب الأوربي.
الجالية الإسلامية
ومواجهة السياسات العنصرية
مروان علي شاعر وكاتب سوري كردي يقيم في مدينة إسن بألمانيا
هناك خوف وقلق بين المهاجرين المسلمين وخصوصًا من صعود اليمين المتطرف في عدد من الدول الأوربية، وهو قلق مشروع ومبرَّر ولكنه أحيانًا يتجاوز الحد المسموح به. وربما تتحمل الجاليات المسلمة قسمًا من المسؤولية، بابتعادها من العمل السياسي وعدم الالتحاق بالأحزاب السياسية وخصوصًا التي تتبنى قضايا المهاجرين وتدافع عن حقوقهم. يضاف إلى ذلك افتقاد الجاليات الإسلامية التنظيمَ، ووجود خلافات كبيرة بين صفوفها لأسباب كثيرة؛ مذهبية وعقائدية وسياسية. فأكبر جالية مسلمة في ألمانيا وأوربا هي الجالية التركية، وللأسف الشديد تنحاز بقوة ومن دون تردد إلى مواقف الدولة التركية ورئيسها رجب طيب أردوغان، وهو الأمر الذي يعمق الشرخ بين صفوف الجالية المسلمة ويؤدي إلى ضعف تأثيرها طبعًا في برامج الأحزاب السياسية.
كان وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر قدم للحكومة الألمانية خطة شاملة للهجرة، تتضمن إنشاء مراكز احتجاز حدودية خصوصًا في المعابر الحدودية مع النمسا. وأكد وزير الداخلية الألماني أن خطة الهجرة الشاملة تصب في مصلحة جميع دول الاتحاد الأوربي؛ لأيجاد حل عادل وشامل لهذه المشكلة التي تقلق الجميع. والخطة الشاملة للهجرة التي أعلنها وزير الداخلية الألماني وزعيم بافاريا القوي تتضمن إقامة مراكز عبور قرب الحدود النمساوية الألمانية، واحتجاز اللاجئين الوافدين برًّا إلى ألمانيا من النمسا وهنغاريا ودول البلقان، والتأكد من أن لهم الحق في التقدم بطلب اللجوء إلى السلطات الألمانية، من خلال البنك الأوربي للمعلومات والبصمات يوروداك. الهدف الأساس من خطة هورست زيهوفر إنشاء نظام حدودي جديد لمنع دخول لاجئين قدموا اللجوء في دول أوربية أخرى مثل بلغاريا واليونان وإسبانيا وهنغاريا ودول البلقان.
ويطالب وزير الداخلية الألماني الدول الأوربية الأخرى بالالتزام بالاتفاقيات الأوربية السابقة حول اللجوء، وتوقع حوارًا صعبًا مع بقية دول الاتحاد الأوربي التي ترفض عودة اللاجئين، الذين قدموا اللجوء فيها وغادروها إلى ألمانيا. هناك نقاط كثيرة وغامضة في خطة زيهوفر وتواجهها عقبات كثيرة؛ منها مثلًا رفض الحكومة الإيطالية مجرد مناقشة استعادة اللاجئين الذين قدموا اللجوء فيها وغادروها إلى ألمانيا ودول أخرى من دول الاتحاد الأوربي. وترى الحكومة الإيطالية أن فتح هذا الباب سيكون كارثيًّا على الاقتصاد الإيطالي، ولا تمتلك إيطاليا أصلًا القدرة على استعادة كل اللاجئين الذين وصلول إليها سواء عبر البر أو البحر. كما أن فكرة إنشاء معسكرات لاستقبال اللاجئين الذين وصلوا بحرًا إلى إيطاليا من دول شمال إفريقيا تُواجَه برفض عدد من الدول الإفريقية التي تتهم أوربا وألمانيا بمحاولة التهرب من مسؤولياتها تجاه هؤلاء اللاجئين.
منظمة برو آزول التي تتولى تقديم الاستشارة القانونية المجانية للاجئين في ألمانيا تتهم وزير الداخلية الألماني وخطته بمحاولة لأغلاق الأبواب أم اللاجئين الهاربين من القمع والاضطهاد والحروب، وطرد الذين تمكنوا من الوصول إلى ألمانيا عبر إجراءات قاسية مثل: أنواع الإقامات، ومنع لمِّ الشمل للمتزوجين، وحرمان الحاصلين على إقامات مؤقتة من مزايا كثيرة، كانت تُمنَح سابقًا كلَّ اللاجئين حتى الذين لم يبتّ في طلبات لجوئهم.
الكرة الآن في ملعب الجالية الإسلامية لمواجهة السياسات العنصرية، ولذلك لا بد لها من توحيد كلمتها لإغلاق الأبواب أمام اليمين المتطرف الذي يختبئ خلف شعارات وطنية براقة لكسب المزيد من أصوات الناخبين. كما أن الأحزاب الليبرالية والاشتراكية مطالبة أيضًا بمراجعة برامجها الانتخابية.
العنصرية تضرب معاقل أهم التجارب الديمقراطية
زهير كريم كاتب عراقي من بلجيكا
تأثير اليسار الأوربي في السنوات الأخيرة أصبح ضعيفًا على القرار السياسي، وظهرت برامجه مترهلة في نظر الناخب الأوربي الذي يواجه تحديات حقيقية، ومخاوف تظهر مُكَبَّرةً عادةً في الصورة التي يقدِّمها اليمين. في المقابل صار تأثير اليمين جليًّا. وفي الواقع إن هذا التأثير كان موجودًا على الدوام، وما حدث أولًا أن حركات التطرف الإسلامية كانت سببًا آخر في تراجع التأثير الذي كان يحدثه خطاب اليسار المناصر بشكل أو بآخر للمهاجرين والقضايا العربية، ثانيًا -وهو تحصيل حاصل- صعود خطاب اليمين الشعبوي، وتكبيره لصورةٍ مخيفة للعربي والمسلم المهاجر حتى ظهرت شخصيته في السنوات الأخيرة نمطية، قريبة جدًّا من صورة الإرهابي المليء بالكراهية للغرب.
وبالطبع إن النخبة الأوربية تتفهم زيف هذه الصورة، أو على الأقل المبالغة في إظهارها بهذا الشكل، لكن الكرة في ملعب المواطن العادي الذي يخضع لخطاب يبدو في ظاهره واقعيًّا، خطاب ما يسمى بالنازية الجديدة، أو اليمين المتطرف الذي وظف سردية الإسلام نفسه عن الغرب في هذا الخطاب؛ إذ تصف هذه السردية الغرب بالكافر المُعادي، وأن هذا العدو يعمل بكل الوسائل لهدم الدين وتفتيت النسيج الاجتماعي للمسلمين، وتدمير اقتصاد البلدان العربية، أو توريطها في حروب وهمية من أجل استمرار عجلة منتجاتها؛ مصانع الأسلحة على وجه الخصوص.
ومن ثَمَّ خلقت هذه السردية ما يسمى بالإسلاموفوبيا. ولا أريد أن أردد مقولات مستلةً من نظرية المؤامرة، لكن إشارات ما تجعل المراقب للتحولات السياسية في أوربا يشعر أن صورة اليمين التي يقدمها للناس في أوربا عن الجاليات العربية، هي صورة ليست نزيهة.
نعم هو يعتمد على معطيات الشارع، الانفجارات، كما حدث في باريس ومدريد وبروكسل وبرلين، يعتمد على خطاب الكراهية في المساجد، على تزامن كل الهجرة السورية في السنوات الثلاث الماضية مع مشاكل ثقافية جديدة لم يعرفها المجتمع الأوربي من قبل؛ لهذا اختلط الخطاب السياسي بالاقتصادي بالأمني لتقديم صورة مرعبة، يراد منها إقناع المواطن الأوربي بأنه أصبح مهمشًا، فقيرًا، ومهددًا أيضًا بعدم التوازن الديموغرافي؛ إذ يزداد عدد العرب دائمًا أمام انخفاض في عدد المواطنين الأصليين.
على كل حال، فأنا لا أرى أن أوربا منغلقة الآن، أو أن هناك مشكلة في قبول الآخر، لكن العنصرية موجودة، ارتفع صوتها، رغم أن هذا الصوت كان موجودًا دائمًا، وبخاصة في أوربا الشرقية قبل أن يصل أخيرًا إلى معاقل أهم التجارب الديمقراطية، التي اعتمدت منظومات الحقوق بأفضل صورة لها، في السويد مثلًا.
أوربا لن تنغلق على نفسها
لميس كاظم أديب عراقي مقيم في السويد
مذ مطلع القرن الحالي وصلت أحزاب اليمين المتطرف في أغلب الدول الأوربية إلى سُدة الحكم. كان ذلك نتيجة إخفاق الكتل اليسارية والاشتراكية الحاكمة في تخفيض مستوى البطالة وتوفير الرفاهية وفشل كامل لبرامج اندماج الأجانب في المجتمع. لقد استغل هؤلاء المتطرفون هذه الفجوات ليسعِّروا من حدة المواجهة، ويلقوا باللائمة على الأجانب كأحد أهم أسباب هذه الإخفاقات. لكن حالما دخل ممثلو أحزاب اليمين المتطرف إلى البرلمانات الأوربية اتضحت صورتهم أمام الناخب بجلاء وخاب ظنه فيهم؛ إذ لم يقدموا خططًا تنموية أو برامج اقتصادية أو اجتماعية أو اندماجية ناجحة، بل ظلت خطاباتهم استعراضية، فوقية، تؤجج الصراع الثقافي والسياسي.
ونتيجة ذلك ظهرت أزمات سياسية عمَّقت حدّة التطرف، وارتفعت نسب الجرائم بشكل ملحوظ. على صعيد السويد مثلًا حصد الحزب الديمقراطي السويدي المتطرف، في انتخابات 2018م، نسبة 15,5% من الأصوات، وشغل 57 مقعدًا في البرلمان من مجموع 361 مقعدًا. فتوهَّمَ الحزب الديمقراطي السويدي أنه أصبح القبان لتشكيل الحكومة القادمة. فأظهر شعاراته وبرامجه المعادية للأجانب. والمفرح في الأمر أن كلتا الكتلتين الاشتراكية والمحافظة رفضتا التحالف معه لتشكيل حكومة؛ وهو ما أدى إلى تأخر تشكيل الحكومة لأشهر عدة.
إن المواطن السويدي، شأنه شأن المواطن الأوربي، بات يتجنب الاحتكاك بالعرب عامة والمسلمين خاصة، ويتخوف من وجودهم. أذكر بعض الأسباب:
النظرة الاجتماعية الضيقة لدى السويديين عن المقيم الذي جاء إلى السويد مشردًا وباحثًا عن لقمة العيش وبات يقاسمهم رزقهم.
لم يُقدم المقيم العربي والمسلم نفسه إلى المجتمع بطريقة صحيحة تتوافق مع شروط العمل. كما لم يتشكل لوبي عربي يدافع عن جاليته ويقدم النماذج الإيجابية الناجحة.
لم تهتم المؤسسات السويدية بالمجموعة العربية المندمجة وتُقدمها للمجتمع السويدي لتصبح قوة تُحسن صورة المواطن العربي. غياب برامج الاندماج المخصصة للسويديين مما عمق انعزالهم. سوء تصرفات بعض من الجالية العربية وممارستها للعنف في حل مشاكلها ساهَمَ في إعطاء صورة سيئة عن المقيم العربي الذي يمارس العنف في حياته اليومية. تأسست حركات وتنظيمات إسلامية متطرفة، ساهمت في أعمال عنف وقتل الناس الأبرياء بوحشية مما عمّق الصورة السلبية عن العرب عامة والمسلمين خاصة. ساهم الإعلام الأميركي والأوربي حتى العربي في رسم صورة مخيفة عن الشخصية العربية وأنها: متخلفة، وعنيفة، وعدائية، وفوضوية، وإرهابية. في الوقت الذي كانت وما زالت الشخصية العربية بسيطة، وطيبة، وتنحو للسلم، لكن متدنية التعليم، وتتخللها نماذج سيئة تعوّدت ممارسة العنف.
أنا أعتقد أن قوى اليمين المتطرف سوف تنحسر تدريجيًّا في الانتخابات المقبلة؛ لأن الناخب السويدي لم يجنِ سوى خيبات وفضائح. والأهم أنهم فقدوا مصداقيتهم في إدارة شؤون البلد. ولكون الناخب السويدي يصوّت لمن يقدم برامج ناجحة وقيادة أمينة ونزيهة للبلد، فلن يصوت لهم ولن تنطلي عليه ادعاءاتهم الباطلة.
أوربا لن تنغلق على نفسها وستستمر في قبول طالبي اللجوء، واستقبال الأيدي العاملة الأجنبية، لأسباب عديدة أذكر بعضا منها: ازدياد هجرة المواطنين الأوربيين إلى خارج أوربا، وهو ما يزعزع التطور الديمغرافي ويقلل نسبة السكان. التطور الصناعي الهائل يتطلب أيدي عاملة وكفاءات نوعية تناسب قدرات البلد نفسه. تمتلك قيادة الأحزاب الاشتراكية والمحافظة السويدية والأوربية نظرة إنسانية تجاه الشعوب التي تضررت بسبب الحروب التي يشعلها منتجو السلاح الأميركيون والأوربيون.
الدانمارك تعاقب حزبًا عنصريًّا
شاكر الأنباري روائي عراقي مقيم في الدانمارك
أوربا اليوم غيرها قبل ثلاثين سنة على سبيل المثال، حدثت تغيرات بنيوية في تركيبة مجتمعاتها، لعل أبرزها تحول تلك المجتمعات من أحادية الثقافة إلى متعددة الثقافة بسبب تزايد الهجرة من شعوب ذات خلفيات دينية وثقافية غير أوربية، أبرزها من بلدان عربية وإسلامية حملت تقاليدها، وعاداتها، وطقوس عباداتها، ولغتها، إلى مستقرها الجديد نتيجة لظروف قاهرة معظم الأحيان.
ورغم أن الواقع يقرّ بتلك التحولات الظاهرة للعيان، لكن البنى الفوقية النخبوية الأوربية لا تقر بالأمر تمامًا حتى اليوم، وتحاول أن تتغاضى عن تلك التحولات البنيوية في تركيبة مجتمعاتها، وهي مجتمعات لم تعد تستند إلى بنية مسيحية خالصة كالسابق، وبلون واحد، وسمات متشابهة بعض الشيء، وترتكز على تاريخ أوربي متواشج منذ عصر النهضة حتى الآن. وقد أحدث تلك التغيراتِ نمطٌ ثقافيٌّ آخرُ وافدٌ مع المهاجرين يتمثل هذه المرّة في أنواع الأطعمة، واللهجات التي تخلخل في بعض الأحيان اللغات الرسمية المتوارثة، والموسيقا، وطقوس العبادات، حتى رؤيتها إلى الحياة والأحداث.
ومعظم الشعوب الأوربية بدأت تتقبل ذلك بحكم الواقع، إلا أن الثقافة الرسمية ما زالت تتوجس من الاعتراف بتعدد تلك الثقافات، البعض بحجة الحفاظ على الهوية، والبعض بحجة الحفاظ على النقاء الديني أو اللوني، ومن ذلك الرفضِ تتولد الحركاتُ العنصرية التي تضع تلك التحفظات على أولويات شعاراتها، ودعاياتها، وعملها السياسي في محاربة الوجود الأجنبي في البلدان الأوربية.
في الدانمارك حدثت مفاجأة أذهلت الجميع في الانتخابات الأخيرة التي جرت في عام 2019م؛ إذ لم يحصل أكبر حزب يميني عنصري متطرف في عدائه للمسلمين خاصة، والأجانب عامة، سوى على 16 مقعدًا برلمانيًّا، في حين حصل في انتخابات عام 2014م على 37 مقعدًا، وبقراءة هذه المفاجأة بدقة يتبين للمراقب أن الشعب الدانماركي قرر معاقبة هذا الحزب العنصري بوعي تام. كون انتصاره السياسي سيعبث بالسلام المجتمعي، ويخلق أزمات اجتماعية خطيرة على مستقبل الأجيال القادمة، وبخاصة أن الدعاية العالية المعادية للأجانب لا تتناسب مع اندماجهم في الحياة اليومية، أو انصياعهم لقوانين البلاد، ولا يشكل التطرف لدى بعضهم سوى نسبة ضئيلة جدًّا لا تكاد تذكر. لقد تغيرت أوربا الشعبية بعمق، في تقبل الآخر، ولا يمكن إرجاع الزمن إلى الوراء، وهذا ما راحت النخب الثقافية والسياسية الأوربية تدركه أيضًا بعمق، وإن ببطء في بعض الأحيان.
ليس الاندماج ما يصنع صيغة للتعايش
إيهاب صبحي كاتب ومترجم مصري يقيم في فرنسا
في مدينة صغيرة مثل فيلييه لو بيل تقع في شمال باريس، لن يكون الأمر مفاجئًا لك وأنت في المقهى المقابل لمحطة القطار، أن تسمع لهجات غريبة على أذنك، ستدرك من فورك أن من يتحدث من حولك، وأنت تحتسي قهوة الصباح، ليسوا بفرنسيين، ولكنهم خليط من جنسيات مختلفة، ربما يربك صورتك الذهنية، ويجعلك تتساءل ولو للحظة عابرة: هل نحن في فرنسا؟ وإذا تناولنا المشهد على اتساعه، وسرنا في الشارع الذي به القهوة، سنجد محالّ يمتلكها أتراك، وكلدانيون، وصينيون، وهنود، وعرب، وأمازيغ، وأفارقة… ما كل هذا التنوع في مدينة صغيرة لا يتجاوز تعدادها السكاني 30 ألفًا؟
نحن هنا بصدد معايشة لنموذج عملي على قدرة الدولة على استيعاب مهاجرين من مختلف الجنسيات التي هاجرت من بلدانها واستقرت هنا، حاملة معها تقاليدها وثقافتها ولون بشرتها، ولكنها تعيش وفق منظومة القوانين الفرنسية. وإذا انتقلنا للحديث عن العرب على وجه التحديد، وتساءلنا: هل اندمج العرب في المجتمع الفرنسي؟ هنا يمكن لي أن أميز بين مستويات عدة من الاندماج. هناك من يتجه للانسلاخ من هويته تمامًا لكي يعيش مثل الفرنسيين في كل شيء وهو، على قلته، في ازدياد، نظرًا لتعاقب الأجيال وتمردها على الموروث. هناك من يحافظ على ثقافته الحياتيه العربية، لكنه ملتزم تمامًا بقوانين الحياة هنا، وهو تيار يمثل أغلبية نظرًا لأنهم يعيشون متجمعين في مدن وأماكن بعينها، مثل ضواحي باريس على سبيل المثال. وهناك من يقطع الصلة تمامًا بالمجتمع، متقوقع على نفسه، وهم قلة قليلة.
ومن واقع التجربة لا يبدو أن الاندماج من عدمه هو ما يصنع صيغة للتعايش، ولكن بلأحرى، هو التنوع الواعي، والاحترام للآخر تحت مظلة دولة القانون التي تكفل لكل هذا الاختلاف حرية العيش بكرامة ولو في حدها الأدنى. ولا يمكن القول بأن هناك توجهًا عنصريًّا من الحكومة الفرنسية تجاه العرب. وإن كانت العنصرية موجودة كسلوك بشري نراها بين الحين والآخر، فهي فردية، ولا تمثل سياسة دولة. والدليل العيني هو وجود ملايين المهاجرين بالفعل يعيشون في فرنسا.
تزيد وتيرة العنصرية وتنقص، على حسب ماهية الصورة الذهنية لدى الفرنسيين. وهي صورة تُراوِح رمزيتَها بين إيجابي وسلبي، غير ثابتة في المطلق لكنها تنتج عنصرية محتملة، في حدودها المنطقية، ولا تمثل عائقًا أمام طالبي العمل ذوي الكفاءات. إن عامل الكفاءة على وجه التحديد، هو الذي يجعل العرب مندمجين بشكل إيجابي في المجتمع، وهو الذي يرجح كفتهم على كل المستويات، رغم أي مشاكل ثقافية أو عنصرية تطولهم من بعض المرضى.
تقويض الأحكام الجاهزة
طه عدنان كاتب مغربي يقيم في بلجيكا
تصاعدت مشاعر الخوف من الإسلام (أو الإسلاموفوبيا) وبشكل محسوس على مستوى الحياة اليومية في أوربا منذ 11 سبتمبر 2001م… هذه المشاعر السلبية بدأت تترسّخ داخل الشعور الغربي العام على إثر تفجيرات مدريد 2004م، ولندن 2005م، إلى تفجيرات باريس وبروكسل وغيرها… التي حملت توقيعًا داعشيًّا هذه المرة.
وتكمن خطورة الإرهاب الداعشي في أنه لا يعتمد فقط على عناصر منتظمة عقديًّا وأيديولوجيًّا في التنظيم… إنهم يجنّدون الجميع. من شباب متحمسين، إلى منحرفين وأصحاب سوابق، حتى خرّيجي السجون. السجون التي أصبحت مكانًا ملائمًا للاستقطاب بالمناسبة. هناك استغلال واضح لظروف بعض الشباب العربي الذي يعيش على هامش المجتمع الغربي المتقدم. يكفي أن أذكر أن نسبة البطالة في حي مولنبك، ذي الأغلبية العربية في بروكسل الذي نزح منه معظم منفذي تفجيرات باريس وبروكسل، تناهز 40 في المئة في أوساط الشباب… معدّل أكثر ارتفاعًا من العديد من البلدان النامية. إضافة إلى الانسحاق الاجتماعي يعيش الشباب إحساسًا بالدونية بسبب خصوصيتهم الثقافية… وهذه كلها عناصر تستثمرها تنظيمات إرهابية خارجية لصناعة كتائب محلية للموت. وخطورة هذا الوضع تكمن في أن الإرهابي لم يعد فقط ذلك الإسلامي المتطرّف القادم من بعيد… بل هو البلجيكي الذي وُلد هنا… ودرس هنا… واستفاد من الخدمات العمومية والاجتماعية للبلد. شيء مريع فعلًا… ويساهم في خلق التشنّج المقصود تمامًا من جانب الإرهابيين، والمطلوب أيضًا من جانب أحزاب اليمين المتطرف الذي يقتات من حالة الذعر والفزع لبلورة موقف جماعي قائم على الحقد والكراهية.
ربما علينا أن نغادر المعترك العاطفي حيث الأخيار من جهة والأشرار من جهة أخرى. فمقاربة الموضوع بشكل جماعي تدفعنا إلى المساهمة في النقاش العام لتقويض الأحكام الجاهزة والأفكار السلبية المسبقة التي تُروَّج عبر الإعلام من جانب بعض النخب الثقافية. حتى لا نظلّ فقط حبيسي موضوع «الآخر: مصدر الشّر»… علينا أن ندلي بدلونا في عملية الفهم. الفهم لا التبرير. فالفهم يتطلّب الإدانة أحيانًا. وبقدر ما هناك من مثقفين يروّجون للإسلاموفوبيا، هناك أيضًا في أوربا مثقفون غربيون يدافعون عن العرب والمسلمين والمهاجرين… وبقدر ما هناك سعيٌ لإشاعة الإسلاموفوبيا والتقليل من شأنها كنوع من أنواع العنصرية، هناك أيضًا مؤسسات تناهض العنصرية بكل مشتقّاتها وهناك مراكز متخصّصة يمكن للمتضرّرين اللجوء إليها لمحاربة هذه الظاهرة بشكل قانوني متحضّر. إضافة إلى القضاء…
لكن ما مسؤوليتنا كأدباء في الدفاع عن صورتنا؟ أو بالأحرى، ما الصورة الصحيحة للعربي أو للمسلم؟ هل هي الصورة الجميلة والبرّاقة التي نكوّنها عن أنفسنا في الشعارات، فيما الوقائع تدحضها على نحو سافر؟
يجب أن نتوقف أيضًا عن التبرير والدفاع… يجب أن ننتقل بدورنا إلى موقع الفعل النقدي. فالإبداع يمكّننا من رواية قصتنا بشكل صادق. يقرّبنا من الآخر كما نحن دون رتوشات ولا مساحيق تجميل. كما أن علينا أن نتوجّه أيضًا إلى بني جلدتنا بخطاب واعٍ لا يطبطب عليهم… بل يساهم في تشكيل وعيهم بذاتهم وهويتهم كصيرورة تتشكّل باستمرار. كما علينا أن نساهم في تجديد الخطاب الديني… بتحيينه وتوطينه هنا بما لا يتعارض مع قيم المواطنة الأوربية.
لا يكفي أن نتنصل اليوم من كل شيء ونردّد عبارات مكرورة من عيار «الإرهاب لا يمتّ للإسلام بِصِلة». فهذا لا ينفي أن معظم الإرهابيين هم فعلًا من أصول عربية مسلمة؟ لذا علينا أن نعيد طرح إشكالية التأطير الديني في أوساط الهجرة؟
فالأئمة معظمهم ينتمي إلى الماضي. أناس محدودو الثقافة، غير ملمّين بلغة وثقافة البلد الذي يعيشون فيه، ولا يبذلون جهدًا يذكر في تجديد خطابهم لا على مستوى المضمون بإخضاعه إلى قراءة تاريخية تربط النصوص بسياقاتها ولا من حيث الشكل؛ لذا لا يصمد خطابهم أمام تطلعات شباب أوربي التنشئة. عكس الخطاب الدعائي الإرهابي الذي يعتمد رغم ضحالة مضمونه القروسطي على قوة إخراجية تقوم على تكنولوجيا حديثة. فالوصلة الدعائية الإرهابية تشبه في جاذبيتها إعلانات أعتى الأفلام الهوليودية. فيه يتحدث شباب يافعون بلغة يفهمها أترابه هنا مئة في المئة. كما أن التداول السلس لهذه الوصلات الدعائية عبر الهواتف الذكية تسهل من ترويج هذا الخطاب المدمّر على نطاق واسع. إنه يعطي للشاب البائس واليائس والمقصي والمحبط وَهْمَ لعب دور بطوليّ لأول مرّة في حياته، في غياب مرجعيات إيجابية وحافزات عملية تشدّه إلى الحياة بكرامة. فبسبب الفراغ الفكري والخواء الروحي والجفاف العاطفي؛ ينزلق شبابنا إلى هذا الدرك الأسفل من الحقد على الحياة برمّتها.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق