كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الفن والمقاومة في أعمال عصام بدر
متعة الانغماس في تشكيلات الخطوط العربية
كان الغياب السريع لجيلٍ من التشكيليين المؤسسين للفن الفلسطيني الحديث ملحوظًا. أولئك الذين لم تَجرِ دراسة أعمالهم أو الإحاطة بها والرجوع إليها، خصوصًا مَن عاشوا في مخيمات اللجوء، مثل إبراهيم غنام وتوفيق عبدالعال، أو من عاشوا الاحتلال في الوطن وكان الفن لهم أداة مقاومة للحفاظ على الذاكرة والشخصية الوطنية المستقلة، وهو ما عرضهم لخوض سلسلةٍ من التحديات المتواصلة في زمنٍ قاسٍ، وأخصّ بالذكر من بينهم الفنان عصام بدر.
هو فنان فلسطيني من مواليد عام 1948م في الخليل، تخرج من كلية الفنون الجميلة في بغداد- العراق، وحصل على درجة الماجستير في الخزف عام 1982م من أكاديمية تيبليسي للفنون. وقد درس في بغداد في حقبةٍ اشتهرت بالأساتذة الفنانين المميزين، مثل جواد سليم الذي كان أستاذه المباشر ورفاقه الذين اختطوا معه نهجًا مميزًا. وهم الذين قاموا بتأسيس «جماعة بغداد للفن الحديث» كنتيجةٍ حتميةٍ لما كان عليه فهم الفن ودوره في ذلك الزمن. وقد لخص الوضع الناقد سعد القصاب بالقول: «إن الجهود انصبت على خلق الشخصية الوطنية، وإدخال عناصر جديدة في الأساليب، والوعي بالأساليب الحديثة، وتطوير رؤيةٍ يكون أساسها تراث العصر الحاضر والوعي بالطابع المحلي» (خالد خضير الصالحي، لوحات فيصل لعيبي.. الوضع الأمثل وتحريفات المنظور، ملحق المدى 25- 3- 2015م).
وهو ما ظهر تأثيره في الفنان الفلسطيني عصام بدر الذي درس بينهم، ونالته تلك التأثيرات في سطوعها، أي التوجه إلى الطابع المحلي والبحث عن الرموز المرتبطة بالأرض والناس كتعبيرٍ عن مرحلة البحث عن الهوية. نلاحظ أن لوحاته وأعماله الخزفية التي تجاورت معًا في البحث عن العلامات والرموز التي شكلت مشاعر الناس وعواطفهم تحت الاحتلال، وحاولت إحياءها، مثل تشكيلات الحروف العربية. ويبدو هذا واضحًا في لوحاته، خصوصًا المركبة منها، وفي تجاور أعمال الزيت مع النحت الخزفي الذي يتيح له الصقل وإعادة التشكيل في أعماله كافة.
كان عصام بدر من المؤسسين الأوائل لرابطة الفنانين التشكيليين في الضفة والقطاع، التي قامت بدورٍ مؤثرٍ في تجميع الفنانين وتنسيق جهودهم في أثناء الانتفاضة الأولى، كما عملت على تنظيم معارض مشتركة بينهم في أماكن متعددة من الوطن، وقامت كذلك بتدريب جيلٍ من الأطفال والشبان على الأعمال الفنية، وهو ما يشير إلى وعي الفنان بأهمية العمل الجماعي وإحساسه بضرورة بلورة ثقافةٍ فنيةٍ تطول الجميع. تمرد عصام بدر على منطق العلاقات العامة والشهرة الإعلامية، حيث الفن يستعرض نفسه متوسلًا الغرابة وطرائق الإدهاش بأساليب سطحية. كان تكريس الجمال في تفاصيل الحياة اليومية رسالةً أساسيةً في أعماله، وظهر في جميع ما أنتجه من أعمال فنية منوعة بمواد عدة بين الرسم والنحت، مستعينًا بالزيت أو الخزف والزنك والجبس واللينوليوم. وهناك تعليق للفنان الراحل إبراهيم سابا على معرض رسم لعصام في «الحوار المتمدن» يرى فيه أن أعمال بدر يميزها أنها تجعلنا «نرى اليوم بحثًا عن جمالٍ جديد –وقد يكون غريبًا على جمهور المشاهدين– ما تخلقه الأداة وهي: الحجر، الخشب، الزنك، الجبس، اللينوليوم، حيث تخلق هذه الأدوات الجافة حياةً كلها شغفٌ ورِقّة» (عن الإنترنت– دون ذكر التاريخ).
الفن والاحتلال
استخدم الفنان بدر الرموز الشعبية بمحتوى حداثي. فقد عمل في زمن الاحتلال حين غابت عن المجتمع ثقافة الاستمتاع بالفن، بل صار من الصعب العيش فيه وسط الملاحقات والتفتيشات العنيفة. كانت المشاكل المركبة تكاد تُغرق المجتمع بطوفانٍ من الأزمات المعيشية والحياتية، التي قضت على الإحساس بالنبض الجمالي، ودفعت به إلى خلفية الأشياء. وكان البقاء وإيجاد العمل في ظل احتلالٍ لا يرحم هاجسَينِ لأُسر كثيرة لا تعرف كيف تُعيل أطفالها. هكذا اضطرت أعداد كبيرة من الفلسطينيين للشغل كعمالٍ في ظل الاحتلال، وصار الطموح الفني يختفي من الحياة العامة شيئًا فشيئًا بسبب ضرورات الحياة، وصعوبة تحصيل لقمة العيش.
هكذا عاد عصام بدر من بغداد محملًا بطموح أن ينشئ لوحاتٍ وأشكالًا خزفيةً يتداول ضمنها شؤون الحياة اليومية وجماليات الأرض والطبيعة. ورأى أنّ متعة الانغماس في تشكيلات الخطوط العربية توفر ما يمكن للجميع الاستمتاع به عبر الألوان الأساسية المتقشفة. كان يحاول تحقيق حلمه بإمكانية إعادة هذه الجماليات وضمها إلى المعجم المتداول، وردّها إلى الممارسة والتلامس عبر أدوات الحياة اليومية. وكان يعمل على هذا عبر إنتاج قطعٍ خزفيةٍ للحياة اليومية يمكن لكل بيتٍ استعمالها وتداولها. وهكذا لم يترفّع عن أن يقوم بعمل المزهريات، جنبًا إلى جنب مع الأوعية الصغيرة والكبيرة بشتى أشكالها، التي يمكن استخدامها كقطع زينةٍ جمالية، ولم يتوقف عن بث الجمال في كل ما يمكن أن يحوي الفاكهة أو الزهور؛ لأنه كان ابن الحياة اليومية.
لقد رأى أنّ غاية الجمال الوصول إلى الناس، وليس البقاء في المتاحف، ولهذا اختار أن يكون رجلًا من عامة الشعب، لا يطمح في امتيازات تُوصله إلى مصاف نخبة الأبراج العاجية التي تكتفي بذاتها بعيدةً من نبض الناس والشارع. كان يواصل إجراء تجاربه، ولا يتوقف عن استخدام ما ينتجه كناتجٍ قابلٍ للتعديل وإعادة التشكيل، وفيما بعد كان يعمل على استخلاص النتائج لكي يضمها إلى مواكب قِطَعه الفنية الثمينة التي ضمت كسراتٍ ومقاطعَ من الأرض والزهور والعيون والأيدي والنوافذ والطيور أحيانًا. كان يُطَوّع الخزف لكي يعيد تشكيله بفرحة طفلٍ استطاع أن يُحول المادة إلى أشكالٍ تحمل عواطفه الجارفة تجاه العالم بطرقٍ شاعرية. وأحسب أنّ خيار الخزف كان بالنسبة إليه حيويًّا لأنه كان ابن الأرض، ولم يترفع عن الناس وحاضنتهم العظيمة التي تضمهم بين جوانحها. كان يحاول أن ينقل هذا الحب والشغف بالخزف إلى الآخرين، ولهذا لم يتوانَ عن عمل ما يشبه المشغل العام في معمله لكل من يود أن يقوم بعمل قطعٍ خزفيةٍ من ابتكاره الخاص.
هشاشة الخزف
كنتُ واحدةً من الأشخاص الذين أتاحت لهم ورشته العمومية هذا التجريب، كنت أُدهش من خفة يده في الرسم على الخزف كلما قمت بنحت أشكالي المفضلة على قطعةٍ من الطين النِّيء؛ لأنني عندها فقط اكتشفت أن شغفي بالتلوين والرسم جعلني أكتشف هشاشة الخزف وتكسر قطعه بين أصابعي. فلا يمكن التعامل مع الطين الجاف مثل القلم والورقة، فيما كان هو يرشدني إلى مزيدٍ من الخفة التي لا أُفلح في تطبيقها قط. وحينها عرفتُ كيف كان يتعامل مع الخزف كأنه أثيرٌ أو هواء خارجٌ من لُبّ الأرض، في حين أظل أنا، بالرغم من المواهب اللونية التي أمتلكها حسب وصفه، مجرد ضيفةٍ على عالمٍ مُرهَفٍ شفيفٍ لا يُمكنني التعامل معه بمنطق الكتابة.
وبينما ظهر في البداية متجهًا إلى الرسم الزيتي في مرحلة الانتفاضة الأولى التي عاصرها، اتجه بعدها إلى دمج الخزف داخل اللوحة التشكيلية ذاتها، وصار يرسم بالخزف تشكيلاته المفضلة التي تصنع من كل لوحةٍ لحنًا شرقيًّا مخطوطًا بالانحناءات المشرقية والحروف العربية والقباب والخرائط التي تؤشر إلى الأرض دائمًا. كان مهتمًّا بإبراز الأرض في لوحاته وجدارياته التالية، فصوّرها طبقاتٍ طبقات، بحيث يفصل اللون ما يحدث تحت كلٍّ منها. وكان المثير أنه يستطيع استخدام البني والبيج بتذريتهما إلى عناصر صغيرة تُكوِّن ما هو أقرب إلى تراب بهيج اللون، حتى إنه كان يرصد حمائم وثمار فاكهة وتمائم وحروزًا في زوايا أعماله. كانت أعماله تشير إلى أنه يؤكد خاصيةَ جمال الأرض والطبيعة في المحيط الذي نعيشه، ولكن بأسلوبه المتقشف الخاص.
كان شكل الوطن الذي يعيشه يتجلى في التفاصيل الصغيرة التي يراها ساكن الأرض، مثل النباتات والصلصال والطيور والنوافذ، على حد تعبير شاكر فريد حسن، الذي يقول فيه:«من يشاهد لوحاته يحسّ بشوقٍ عارمٍ إلى الحياة والفرح القادم وحب الجمال والطبيعة الأخّاذة، والحنين إلى البيادر وطوابين الخبز، وبالتفاؤل وإشراقة الأمل، رغم الحزن والجرح النازف والألم والمرارة». (الحوار المتمدن– المصدر السابق).
وظهرت رموز الأرض هذه جليةً في جدارياته الملونة التي أقامها بعد عام 1997م في مدينة رام الله، وواحدة منها في بَهو جريدة «الأيام» الفلسطينية، كما توجد أُخرى في مستشفى رام الله حيث قاعة الانتظار الكبيرة، فيما لا نعرف مصير اثنتين أُخريين كانتا على جدار فندقٍ في رام الله.
وأعود إلى هذه العبارات: «ثم مَن منا لا يستعيد خزفيات الفنان الراحل عصام بدر بألوانها الشرقية الدافئة النابضة حياةً وتوهجًا؟ كان عصام بدر يوحد اللون الفيروزي في ذوبانه مع الذهبي. وكان بخطوطه القوية يستمد من نبع الحكايا وألوان الزجاج الفينيقي الذي ما زال يُصنع في الخليل حتى الآن موسوعاتٍ لونيةً شاسعة. فهل تُنسى لوحاته التشكيلية ذات الرموز والتربيعات والعصافير عن جمال الأرض في بلادنا».
(هل يصير الجدار عنوانًا لذاكرتنا –ليانة بدر– الطريق، عدد 43، مارس 2008م).
جدارية الانتفاضة
كانت الأرض موضوعه المفضل، إلا أنه تناولها بشكلٍ مختلفٍ في الانتفاضة الأولى، ذلك أنه كان من أوائل الفنانين الذين عملوا على رصد الاحتلال وتبيان وجوده البشع في حياة الفلسطينيين، وكانت قد اشتهرت له لوحة في وقت ما، وعلى نطاقٍ شعبيٍّ ترسم حصانًا متمردًا يعصي الكائن الذي يحاول أن يلجمه ويسوقه حسب هواه. ولهذا، لم يجد عصام خيرًا من التعبير عن الانتفاضة الأولى عبر الأشكال الخزفية التي جعلها تتواصل بطريقتها الخاصة في جداريته الأولى التي أُقيمت على جدار بلدية رام الله.
ويمكننا هنا أن نتوقف عند جداريته الأولى التي أقامها على جدران بلدية رام الله، واستغرق العمل عليها نحو السنة، ونُقلت حاليًّا إلى جدران قصر الثقافة، وهي من النحت الخزفي، وقد صُنعت من الفخار بطبقةٍ من طلاءٍ زجاجيٍّ باللون البرونزي، وهي عبارة عن سبعة تشكيلات لثمانية أشخاص على طريقة «الفيجرز المستقل»، وحجم كل منها بين متر ونصف المتر أو مترٍ وثلث المتر. ورُكِّب كلّ منها بحيث تتالى مع الآخر. وتعتمد التواصل بعضها مع بعض حسب الحركة الكلية أو الإطار العام للنحت الذي هو الأساس التعبيري للعمل الجداري. والأشكال هذه تمثل:
الجندي، والأم والطفلة متداخلتين وحولهما غصنا الزيتون يتقابلان، والرجل العجوز الذي مثَّل الرحيل بالعصا والزوادة، وهو من جيل النكبة، والفلاح وسنبلتا القمح متوازيتان حوله، والمواطن السجين الذي تحتجزه السلاسل، والفدائي الذي كان الرمز المشرق لتلك المرحلة. وهناك امرأتان تتبادلان الأسرار وسقاية الماء بالجرة. وقد أتى الخبر في صحيفة «الفجر» التي كانت تصدر في القدس آنذاك بتاريخ 21-1-1980م بأنه «تعتبر هذه الجدارية تحوُّلًا في الفنّ المحلي الفلسطيني».
لم يتوقف الفنان حتى ساعة رحيله المبكر عن الحلم بأن تنتشر الجداريات في كل الأمكنة العامة في فلسطين، حتى إن غرفته في قسم الإنعاش في مستشفى رام الله كانت تنفتح على جداريةٍ له صنعها هناك، قبل أن يخطر له أنه سيكون أحد ضيوف ذلك المكان يومًا. جداريةٌ أراد أن يرسم فيها خلاصة الجمال والحياة الكريمة التي كان يتمناها له ولشعبه. هو الذي عانى ويلات الاحتلال، وناله الضرب والركل والصفع من الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يَدهمون محترفه الفني «غاليري 78» حينما كان يُعلّم الرسم والألوان للأطفال الفلسطينيين في أثناء منع التجول في الانتفاضة الأولى. وظل يحلم أن يضع الناس متوالياتٍ خزفيةً من حروفٍ عربيةٍ داخل بيوتهم، ليتمتع الجميع بالملمس والتشكيل المستمد من طين الطبيعة الذي عجنه الإنسان لكي يسبغ الفرح على حياته الصعبة.
لوحاته الأخيرة المصنوعة من الخزف كانت هشة ورقيقة، ولها منطقها الخاص، وتميل إلى التجريد الذي اعتمده وانتقل إليه في المراحل الأخيرة من حياته. فقد اعتمد حينها أشكال الحروف العربية كتسلسلٍ متواصلٍ حمل إلى أعماله النحتية والتشكيلية جرأةً في استخدام المواد والألوان. كان رهان حياته محاولة تطويع المواد التي تُسهم في خلق جوٍّ تعبيريٍّ مستمَدٍّ من مناخ التراث الفلسطيني، والبحث عن إبداع الزخرفة والمنمنمات الموجودة في الثوب الفلسطيني. لكن أعماله الأخيرة تلك ظلت غير مكتملة، مثل مشروع الحياة الذي يحمله الفلسطيني ككائنٍ فردٍ يقارع عذابات الاحتلال يوميًّا على الحواجز وفي كلّ مكانٍ يتنقل فيه.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
سعد يكن.. وراء الفراشة، بألوانها الضاجة بالحياة، تختبئ الفاجعة السورية
ولد الفنان التشكيلي سعد يكن في مدينة حلب 1950م في حي الفرافرة، من أسرة تركية الأصل. شارك في أكثر من مئة معرض جماعي في...
0 تعليق