كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
في الليل
انتهى العَشَاءُ، لَحسَ جليبوف الطبق ببطءٍ، ومسح فتات الخبز من على الطاولة، بكل عنايةٍ وحرصٍ إلى راحة يده اليسرى. دونما بلعٍ، استشعر بلذةٍ كلَّ فُتَاتَةٍ منها في فمه، مغطيًا إياها بطبقةٍ وافرةٍ من اللعاب. ليس بوسع جليبوف القول ما إذا كان الطعم لذيذًا أو لا، فالمذاق شيءٌ مختلفٌ تمامًا، لا يستحق المقارنة بهذا الشعور المُتَّقد الذي يجعل كل ما عداه ينحسر في غياهب النسيان. لم يكن في عجلةٍ لبلعه: فالخبز نفسه يذوب في فمه، وبسرعةٍ يتوارى ويختفي.
عينا باجريتسوف الواسعتان اللامعتان حدَّقتا في فم جليبوف من دون مقاطعةٍ. فلا أحدٌ منهما لديه من قوة الإرادة ما يمكنه من رفع عينيه عن الطعام الذي يتوارى ويختفي في فم الآخر. بلع جليبوف ريقه، وفي الحال حَوَّلَ باجريتسوف نظرته إلى الأفق؛ حيث يزحف القمر البرتقالي الكبير عبر السماء.
«حان الوقت». قالها باجريتسوف. وانطلقا ببطءٍ عبر طريق يقود إلى صخرةٍ هائلةٍ، وتسلقا مصطبةً صغيرةً تحيط بالتل. وبالرغم من أن الشمس قد توارت عن الأنظار منذ مدة وجيزةٍ، فإن البرد تغلغل في الصخور التي كانت في النهار تحرق الأقدام العارية داخل النعال المطاطية.
زرَّ جليبوف معطفه المبطن. لم يمنحهما المشي أيَّ دِفءٍ.
- « هل يبعد كثيرًا من هنا؟» سأل جليبوف.
- « إلى حدٍ ما».
بهدوء أجاب باجريتسوف.
جلسا ليستريحا. لم يكن لديهما ما يقولانه، أو حتى ما يفكران فيه، فكل شيءٍ واضحٌ وبسيطٌ. في منطقة مسطحة في نهاية المصطبة، ثمة تِلَالٌ من الحجارة؛ نُزِعَت من الأرض، ومن الطحالب الجافة المُجتَثَّة من باطنها.
«بوسعي أن أقوم بالأمر بمفردي».
ابتسم باجريتسوف بامتعاضٍ، وأضاف بقليلٍ من الاضطراب:
«لكن الأمر سيكون أكثر بهجة وتوفيقًا لو قمنا به نحن الاثنان معًا، ولهذا أيضًا فكرت فيك كونك صديقًا قديمًا.
لقد جُلِبَا على السفينة نفسها العام الماضي.
توقف باجريتسوف قائلًا:
«اخفض رأسك، وإلا سوف يُكْتَشَفُ أمرنا».
استلقيا وشرعا في إبعاد الحجارة جانبًا. ليس ثمَّة أيّ صخرةٍ يستعصي عليهما معًا رفعها؛ وذلك لأن القوم الذين كَوّمُوهَا ذلك الصباح، لم يكن من بينهم من هو أقوى من جليبوف.
أقسم باجريتسوف على ذلك بهدوءٍ وثقةٍ. لقد جُرِحَ إصبعه، والدم ينزف منه بغزارةٍ. رَشَّ بعض الرمل على الجرح. مَزَّقَ قطعةً من حشوة معطفه وضغطها باتجاه الجرح، ولكن نزيف الدَّم لم يتوقف. «تخثر دمٍ وتجلط بسيطٍ». قالها جليبوف، دون إبداء أيِّ اهتمامٍ.
«هل أنت طبيبٌ؟». سأله باجريتسوف، وهو يمص دم الجرح.
ظلَّ باجريتسوف صامتًا. الزمن الذي مارس فيه مهنة الطب بدا له بعيدًا جدًّا. هل حدث أن وُجِدَ حقًّا؟ في كثيرٍ من الأحيان، يبدو العَالَم من وراء الجبال والبحار غير حقيقيٍّ؛ مثل بقية من حلمٍ. الحقيقي يتمثل في اللحظة، الدقيقة، الساعة، اليوم – من الاستيقاظ حتى حَزَّةِ الانتهاء من العمل. لم يفكر أو يخمن قط أبعد من ذلك، ولم تكن لديه القدرة ليفعل. كما لم يكن الأمر بوسع أي شخص آخر. إنه لا يعرف ماضي الناس المحيطين به، بل لم يكن يريد أن يعرف.
وبالتالي، لو صرح باجريتسوف بأنَّه دكتورٌ في الفلسفة، أو مارشال في الطيران، فجليبوف سوف يصدقه دونما أدنى تفكيرٍ. ولكن هل كان هو نفسه طبيبًا حقًّا؟ ليست عادة تقدير الأمور هي التي فقدت لديه فقط، بل حتى عادة الملاحظة. شاهد جليبوف باجريتسوف يمص الدم من إصبعه، غير أنه لم يقل شيئًا.
انزلقت الحالة عبر وعيه، لكنه لم يستطع العثور على ردٍّ، أو حتى محاولة إيجاد إرادةٍ ورغبةٍ في داخله للرد، فالوعي الذي تبقي لديه -ذلك الوعي الذي لم يعد بشريًّا- له أوجهٌ قليلةٌ جدًّا، وهو موجهٌ الآن نحو هدفٍ واحدٍ فقط؛ هو إزالة الحجارة بأسرع ما يمكن.
هل هي عميقةٌ؟
سأل جليبوف، عندما توقفا للراحة.
- كيف يمكن أن تكون عميقةً؟ أجاب باجريتسوف.
أدرك جليبوف أن سؤاله سخيفٌ، وإلا فإن الحفرة بالطبع لا يمكن أن تكون عميقةً!
وقال باجريتسوف: «هاهو ذا».
مدَّ يده حتى لمست إصبع إنسانٍ. ظَهَرَ إصبع القدم الكبير من تحت الصخور، كان واضحًا تمامًا في ضوء القمر. إنه ليس مثل أصابع جليبوف وباجريتسوف. ليس من ناحية كونه بلا حياة، بعد أن تلاشت منه، وصار متيبسًا، ثمَّة اختلافٌ بسيطٌ جدًّا في هذا الصدد. ولكن ظفر إصبع قدم الميت مقصوصٌ ومنمقٌ، وأمّا الإصبع نفسه فهو أكثر امتلاء ونعومة من إصبع جليبوف.
وبسرعة، رميا جانبًا ما تبقى من الحجارة المركومة فوق الجثة.
قال باجريتسوف: «إنَّه شابٌّ».
سحب الاثنان معًا الجثة خارج القبر.
أردف جليبوف قائلًا وهو يلهث واصفًا الميت:
إنّه عظيم البنية، ممتلئ البدن، كان يتمتع بصحةٍ جيدةٍ.
وردّ باجريتسوف:
- لو لم يكن ممتلئًا هكذا، لدفنوه بالطريقة التي يدفنوننا بها، ولما كان ثمَّة سببٌ لمجيئنا اليوم إلى هنا.
قاما بفرد الجثة، ووضعها بشكلٍ رأسيٍّ، وخلعا الملابس الداخلية عنها.
وقال باجريتسوف برضى:
- أوتعرف؟ تبدو القمصان جديدة.
خبأ جليبوف ملابس الميت الداخلية تحت معطفه.
وهنا قال له باجريتسوف:
- من الأفضل أن ترتديها.
- «لا، لا أريد ذلك». تَمْتَمَ جليبوف.
أعادا معًا وضع الجثة مرةً ثانيةً في القبر، وقاما بتغطيتها بالصخور.
سقط الضوء الأزرق للقمر البازغ على الصخور، وعلى أحراش غابة (التايغا). * مبديًا كلَّ صخرةٍ بارِزةٍ، وكلَّ شجرةٍ بطريقةٍ غريبةٍ، مختلفةٍ بصورةٍ كبيرةٍ عن الطريقة التي تبدو بها خلال النهار. بدا كلُّ شيءٍ حقيقيٍ، لكنه مختلفٌ عما هو عليه في النهار، وكأنما للعالم وجهٌ آخر؛ وجهٌ ليلي!
الملابس الداخلية للرجل الميت دافئةٌ الآن تحت معطف جليبوف، ولم تعد تبدو أنها تخص شخصًا آخر.
وقال جليبوف بطريقةٍ حالمةٍ:
- أحتاج إلى دخانٍ.
أجابه باجريتسوف مبتسمًا:
- غدًا ستحصل على دخانك.
نعم، غدًا سيبيعان الملابس الداخلية للرجل الميت، ويستبدلان بها خبزًا، ومن الممكن أيضًا شيئًا من التبغ.
______________________________________________________________________________________________________
التايغا: منطقةٌ (بيوغرافية) شماليةٌ تحت قطبية، متميزةٌ بغطاءٍ نباتيٍّ يتكون من أشجار الصنوبر وغيرها من الأشجار من الفصيلة الصنوبرية مستديمة الخضرة، والمتأقلمة مع المناخ البارد.
فارام شالاموف كاتبٌ روسيٌ، (وُلد في 18 يونيو، وتُوُفِّي في 17 يناير 1982م) بــموسكو. اشتهر بإبداعه لسلسلةٍ من القصص القصيرة عن السجن في معسكرات العمل السوفييتية.
في عام 1922م، ذهب شالاموف إلى موسكو، وعمل بأحد المصانع. كان مهتمًّا بالأنشطة المضادة للثورة بينما كان طالبًا بالحقوق في جامعة موسكو الحكومية.
خدم (شالاموف) مدة عامين في أشغالٍ شاقةٍ في جبال الــــــ(أورال). عاد إلى موسكو في عام 1932م، وأصبح كاتبًا وصحافيًّا تُنشَرُ أعماله. أُعيد اعتقاله في عام 1937م؛ بسبب دعمه للمعارضة الــ«تروتسكية»، وتوزيعه لوصية لينين التي انتقد فيها القادة البلاشفة جميعهم؛ (وبخاصة ستالين). أمضى شالاموف السنوات الـسبع عشرة التالية في معسكرات العمل القاسية جدًّا في حوض نهر كوليما في الشرق الأقصى السوفييتي. وقد صور بعمقٍ معاناة المعتقلين في مجموعته القصصية الشهيرة «حكايات كوليما». أُطلق سراحه في الخمسينيات، وسُمح له بنشر بعض أشعاره. في عام 1978م، نُشرت له طبعةٌ روسيةٌ من كتاب «Kolymskiye rasskazy» و« حكايات كوليما»، ولكن حُظِرَ نشرها في الاتحاد السوفييتي حتى عام 1988م. صدرت طبعاتٌ كاملةٌ من أعمال شالاموف في موسكو في عام 1992م. ونُشِرَتْ حكاياتٌ مختارةٌ من المجموعة باللغة الإنجليزية في مجلدين هما Kolyma Tales (1980م) وGraphite (1981م).
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق