كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
القوانين الطبيعية والحرية الإنسانية
يدخل هذا الموضوع في «السنن الكونية»: «سنة الله في خلق الإنسان». ويمكن تصور الموضوع ككل بإعادة تنظيم محاوره ونقاطه فيصبح «الإنسان في العالم» أي الإنسان بين عالمين، عالم العقل وعالم الحس، القبلي والبعدي عند كانط، عالَم ديكارت وعالَم بيكون.
والألفاظ أسماء وصفات. معظمها مفرد وجمع. والصفات الجمع تتبع الأسماء الجمع. الأسماء المفردة: مفهوم، التاريخ، الله، خلقه، تراث، علم، الكتاب، السنة. والجمع: قوانين، السنن، الأكوان، الألوان، طبائع، أقسام، مصادر إدراك، تتبع الصفات: إلهية، كونية. الجمع: الأكوان، طبائع، أقسام، مصادر إدراك. ولا يعني تحليل اللغة تحليل معاني الألفاط بل أيضًا ربط مضمون بعضها ببعض لتكوين صورة أو إشارة أو لحن أو فحوى كما هو الحال في علم أصول الفقه. بل يعني أيضا المجاز والتشبيه لتكوين الصورة كما هو الحال في الظاهريات. فمعنى اللفظ لا يحدُّه حدّ كما هو الحال في المعاجم اللغوية.
بل هو أقرب إلى الشعر أو نص مقدس مثل الإنجيل أو القرآن. والغالب على الموضوع منهج تحليل الألفاظ مثل: الله، السنن، القوانين. وهي جزء من منهج علم أصول الفقه: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المُحْكَم والمتشابه، المُجمَل والمبيّن، الخاص والعام. وهو ما يقابل تحليل الألفاظ في المنهج الظاهرياتي في الفلسفة الغربية المعاصرة. «سنن الله في خلقه» تعني تحكم هذا العالم أي الخلق. فهذا العالم لم يخلق هباء. فالعالم لا يكون من دون إله. والله بلا عالم كخالق بلا مخلوق. من يخلق؟ كما تساءل الصوفية السؤال نفسه عن إله بلا عالم. لذلك قالوا بوَحْدة الوجود أي وَحْدة العالمين، الخالق والمخلوق. فلا خالق بلا مخلوق. ولا مخلوق بلا خالق. يوجد شيء واحد، خالق ومخلوق. والإنسان موجود في العالم كما يقول الوجوديون «وجود في العالم». فلا يسأل عن أصليهما. الوجود يسبق الماهية. والماهية أصلها العجز عن المعرفة يعطي «الله أعلم»، والعجز عن الفعل فيعطي «الله قادر». فإذا ازداد العجز في الإحساس وكان الإنسان أطرشَ أعمى، والنقص والإرادة أعطي الشخص النقيض السمع والبصر والكلام والإرادة، وهكذا تنتقى الأسماء التسعة والتسعون، من النقيض إلى النقيض؛ النقص الإنساني إلى الكمال الإلهي. وسنن الله في خلقه تعني ربط العالم بمجموعة من القوانين بعد خلقه. فالله هو الخالق. والعالم هو المخلوق. ولا يترك العالم بعد الخلق سُدى. ويَعْني خلق الله العالم أن العالم له أصل، ضدّ ما يقوله الوجوديون المحدثون بأنه لا أصل له. فإذا كانت البداية هو الخلق فإن النهاية هو البعث. فالعالم له أصل وله غاية. الخلق من أجل العمل الصالح، والبعث من أجل الموازنة بين (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات). فالعالم ميدان فعل. والفعل عطاء وليس كسبًا، مالًا أو ولدًا. فالخلق هو العالم الذي يعيش الإنسان فيه. فالإنسان «وجود في العالم» كما يقول الوجوديون. يعيش فيه ويموت. لا يعرف الخلق والبعث.
بل يعرف الحياة والموت وما بينهما الزمن المحدد. ولا يعرفه الإنسان. لذلك كان الخلق والبعث من العقائد بديليْنِ من الحياة والموت.«سنن الله في خلقه» هو التعبير القديم عن «الحرية الإنسانية»، و«حقوق الإنسان» التعبير الحديث. فالأصالة القديمة تأصيل للمطالب الحديثة. فإلى أي حد تدخل أفعال الإنسان الجزئية في إطار السنة الإلهية العامة؟ وإلى أي حد تعمّ سنة الله الكونية حرية الإنسان الفردية؟ وهل المطلق يعم النسبي؟ أليست الحرية كالنبوة تعتبر مُلْتَقى المطلق والنسبي، الإلهي والإنساني؟ ويرجع السبب في ذلك إلى استبعاد لفظ «سنن». وهو لفظ متشابه؛ إذ يطلق على القوانين الطبيعية أو الكونية والقوانين الرياضية على الرغم من اختلاف نسبة درجة اليقين في كل منهما. أما الأفعال الإنسانية فإنها لا تخضع لسنن أو قوانين نظرًا لوجود الحرية فيها. فهي تقوم على الحرية. تعني «سنن الله في خلقه» العالم الموضوعي. فالسنن قوانين موضوعية في حين أن القوانين من اكتشاف الإنسان وهمومه. والطبيعة واعية. بها قدر من الوعي حتى يستطيع الإنسان أن يتعامل معها. وهي طبيعة مائية وطبيعة نباتية. وتضم أيضًا الحيوان. وتضم أيضًا الحشرات. والطير مثل الهدهد والزواحف مثل الحية. والإنسان قمة الوعي الطبيعي. والسنن الإلهية هي السنن الكونية. فالكتاب والسنة مصدران لمعرفة السنن. ومن أحد مصادرها المعرفة بالاستنباط، من الوحي إلى الواقع. والاستقراء، المنهج الثاني في تعليل السنن الإلهية. أما الله فهو القوة الفاعلة. هو واضع السنن والقوانين. فالتشخيص تيسير على الفهم. الله قوة فعَّالة تحوِّل السنن إلى قوانين طبيعية. فالأكوان هي الطبائع الجماد والنبات والحيوان. وإذا كانت الأكوان قد تكون من الطبائع فإنها الجماد والنبات والحيوان والإنسان. فالإنسان ظاهرة طبيعية، نعم ولا. نعم تنطبق عليه القوانين الطبيعية، ولا، لا تنطبق عليه هذه القوانين؛ نظرًا لوجود الحرية الإنسانية. والأكوان هي الخلق. والخلق هو الطبيعة. والطبيعة هي ما تحت فلك القمر وما فوق فلك القمر. هي: النجوم والكواكب والمجموعة الشمسية وباقي المجموعات غير الشمسية. وهي موضوع علم الفلك. والطبيعة الأرضية هي الجبال والتلال والهضاب والصحراء والبحار والمحيطات والأنهار والبحيرات والآبار. ثم النبات مثل كل ما هو أخضر كالأشجار والنخيل والأعشاب. والحيوان مثل الزواحف والأسود والنمور، والزرافى والأفيال والأرانب والجمال والقطط والكلاب، والإنسان الذي لا يصنف طبقًا للون البشرة كما يفعل العنصريون.
والإنسان قسَّمَه الفلاسفة إلى حس وعقل وروح. فالحس للإدراك، والعقل للتفكير، والروح للحياة. والروح هو أساس الحياة في العقل والحس. وأضاف الصوفية إلى العقل الذوق لإدراك ما لا يدركه العقل. وقد تنوعت أسماء الذوق إلى الروحي. والأفق ظاهرة جغرافية، انطباق السماء على الأرض. وعند الفلاسفة الاستمالة، وعند الشعراء حامل النجوم والكواكب. وهو والقمر للفلكيين حساب، وعند الرياضيين حساب. كل ذلك يقوم به الفلكيون أو الرياضيون وهو ما اشتهر به العرب نظرًا لحساب مواقيت الصلوات والشهور العربية وشهر رمضان ومواقيت الحج في الظاهر. وفي الباطن الإحساس بالزمان وأداء الأعمال في أوقاتها وهو ما يثاب عليه الأوربيون وبخاصة الألمان، وما يعاب على العرب المسلمين. وفي الأمثال الأوربية Time is money الوقت هو المال أي المكسب والربح. والفعل المقصود في المثل هو الفعل الاقتصادي والفعل السياسي ولكن أيضًا الفعل الأخلاقي والفعل الاجتماعي مثل المساعدة في شفاء المرضى وإطعام الجوعى، وإسكان وإلباس العاري (لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا).
وسنن الله في التاريخ تعني قوانين التاريخ وسقوط المجتمعات وانهيار الحضارات إذا ما رصدت الأنبياء. فالنبوة تقدم في التاريخ، ودفع له إلى الأمام، وإزالة عوائق التقدم مثل الانشغال بالمال والبنين وزينة الحياة الدنيا. ورصد مراحل التاريخ في ثلاث مراحل: الدين والفكر والعلم. وقد جعلها هيغل مثل ليسنغ اليهودية والمسيحية والإسلام. فالإسلام دين الإيمان والعقل والعلم. في الوقت نفسه الشريعة اليهودية السمحة، والمسيحية المتسامحة، والإسلام دين السماحة.
ليس هذا خروجًا على التراث بل تجديدًا له. فالتراث ليس من صنع رجل واحد أو عالم واحد أو فرقة واحدة بل هو من صنع كل الرجال وكل العصور وكل الاتجاهات بما فيها الفرق الضالة. فقد بدأ الغزالي منذ القرن الخامس في «الاقتصاد في الاعتقاد» كتابه عن علم أصول الدين أي علم الكلام ونصره الأشاعرة ضد المعتزلة، يضيف في آخر الكتاب حديث الفرق «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار» وتضيف بعض الصياغات «إلا واحدة» وإضافات أخرى «هي ما أنا عليه أنا وأصحابي» بحيث ضاق التفكير واتسع الأفق للإيمان. فالغزالي هو المسؤول عن جعل الفكر الإسلامي أشعريَّ الاتجاهِ، نمطيًّا.
والسنن أو القوانين الإلهية لا تستنبط أو تُرصد من الكتب بل تستقرى أيضًا من حوادث التاريخ كما يقول علماء أصول الفقه، التعليل ضرورة تطابق العلة المستنبطة لغويًّا من النص مع العلة المستقرأة تجريبيًّا من الواقع الخارجي لمنع تدخل الخيال الفني في الصياغة. فقصص نوح والسفينة وغرق ابنه بالرغم من وقوفه على أعلى قمة في الجبل، وقصة إبراهيم والحجارة التي تتكلم والنار التي لا تحرق، والكبش من السماء لذبحه فداء لإسماعيل، وموسى وقذفه في الماء من أمه طفلًا ودفعه حتى شاطئ قصر فرعون، وتربية امرأة فرعون له، وكبره، وظهور معجزاته وهو حي، من عصاه، تحولها إلى حية تأكل باقي حيات سحرة فرعون، وشق البحر بعصاه ليعبر ويغرق فرعون وجنوده، وتركه قومه في سيناء بعد أن عصوه وذهب ليتعبد، وأخذ يوشع بني إسرائيل قومه إلى أرض الميعاد فلسطين ومحاربة أهلها ليستوطن فيها.
ومع ذلك لم يؤمن بنو إسرائيل فأرسل الله لهم عيسى كبرى معجزاته، معجزته في ميلاده وحياته وموته. أحيا الموتى، وشفى المرضى، وأبصر الأعمى، وأنزل الله له مائدة من السماء كما طلب بنو إسرائيل. ومع ذلك لم يؤمن به كل اليهود بالرغم من كل المعجزات (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُون)، (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا). وأصبح الدليل على النبوة هو الفعل الحركي الأخلاقي كما هو الحال في الإسلام.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق