كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
لاجئون يحومون حول بيوتهم البعيدة
يأخذ تعريف اللجوء والابتعاد من الوطن المعنى نفسه تقريبًا، سواء عند شاعرة ومثقفة مثل الشاعرة السورية المقيمة في باريس مرام المصري التي تقول: «نحن المغتربين، نحوم حول بيوتنا البعيدة، كما تحوم العاشقات حول السجن؛ ليلمحن ظلال أحبتهن». أو عند امرأة شبه بسيطة مثل أم معتصم، اللاجئة في مخيم الزعتري، فمهما كان شكل اللجوء وطبيعته، فهو عندها ليس سوى «موت بطيء». أم معتصم لم تستطع أن تحبس دموعها وهي تروي حكاية لجوئها إلى الأردن هربًا من الحرب الدائرة في بلدها، فبعد مقتل زوجها في إحدى المظاهرات واعتقال ولدَيها، كان عليها أن تنجو بمن تبقّى من عائلتها: (ولدان وبنت)، عابرةً بهم الحدود مشيًا على الأقدام.
لم تكن هذه المرأة الأربعينية لتأبه بكلّ ما سيواجهها خلال رحلة الألم، فهمُّها وشغلُها الشاغل أن تنجو بـ«صيصانها» على حد تعبيرها وهي تروي قصتها. وهو ما تحقّق لها في النهاية رغم النيران المجهولة المصدر التي كانت تحيطها من كل جانب خلال الساعات الثلاث التي استغرقتها المغامرة غير المحسوبة النتائج.
أربعة أشهر قضتها «أم معتصم» في مخيم الزعتري المتاخم للحدود السورية الأردنية، وكان تحت التأسيس، متاعُها خيمة لا تقي بردَ الشتاء ولا حرّ الصيف، والقليل من الطعام.
مخيم الزعتري الذي يضم أكثر من 45 ألف أسرة غدا اليوم كأنه مدينة داخل المدينة، وبخاصة مع إطلاق آلاف المشاريع والحملات الإنسانية بهدف التخفيف من مصاب اللاجئين وخصوصًا الأطفال منهم، ومن ذلك افتتاح مكتبة «القلب الكبير» التي تضمنت زهاء ثلاثة آلاف كتاب. كما أُطلقت مبادرات متنوعة تتخذ من الثقافة والفنون وأشكال الإبداع الأخرى وسيلة للتخفيف عن هؤلاء الأطفال، وتمكينهم من التعبير عن أنفسهم، ومساعدتهم على تخطي الأزمات التي تعترض طريق طفولتهم.
الفنان والمخرج نوار بلبل الذي يدير مبادرة تحمل اسم «خيمة شكسبير»، قال: إن الهدف من «الخيمة» فتح المجال أمام الأطفال لممارسة هواياتهم في الرسم، أو حضور عروض مسرحية مستوحاة من أعمال شكسبير. كما قامت مجموعة من الفنانين من اللاجئين بإطلاق مبادرة لرسم لوحات فنية على جدران البيوت المتنقلة (الكرفانات)؛ لإكساب المكان لمسة جمالية فنية، تبعث على الأمل والفرح.
«الحمد لله، وضعنا في المخيم يتحسن بمرور الوقت» يقول الستيني أبو خليل، مثمنًا الخدمات التي تقدم للاجئين من إنشاء مشفى، ومدارس للطلبة السوريين في المخيم، ومؤكدًا أن تأسيس مخيم «مريجيب الفهود» على الحدود الشمالية الشرقية للأردن الذي يسع ستين ألفًا، خفف الضغط الذي كان يعانيه «الزعتري». عدد كبير من اللاجئين استطاعوا مغادرة هذين المخيمين؛ ليستقروا في المدن والضواحي والقرى، وبخاصة شمال الأردن ووسطه، وهو ما أتاح لهم حرية كبيرة في التنقل والعمل، وخصوصًا في مجال الأطعمة والمأكولات بمختلف أصنافها -وهو مجال اشتهرت «دمشق» به منذ القدم- حتى بات يُخيّل للمارّ من شارع المدينة المنورة في العاصمة الأردنية عمّان أنه في أحد شوارع دمشق؛ لكثرة فروع المطاعم ومحالّ الحلويات والعصائر السورية فيه، فروعٌ حملت أسماء توقد الحنين.
يحاول اللاجئون السوريون التعويض عن نمط الحياة الذي اعتادوا عيشه في بلدهم، بأن يحتفظوا ببعض العادات التي ألفوها، وشكّلت متنفسًا لهم من الضغوطات على اختلاف أنواعها، ومع حلول الربيع بدأ الكثير منهم القيام بنزهات أسبوعية تشابه طقس «السيَران» الذي كانوا يقومون به في غوطة دمشق وفي الأرياف عمومًا كل يوم جمعة، يقول اللاجئ عدنان الشامي: «مع كل هذا الألم الذي تعرضنا له نتيجة الحرب والدمار في بلدنا، وبالرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي نعيشها هنا، إلا أنني وعائلتي لا نفوّت فرصة للخروج إلى الطبيعة للتنفيس عن ضغوطاتنا».
وحملت موجة اللجوء السوري إلى الأردن مليونًا و350 ألف لاجئ يعيش 15% منهم فقط في المخيمات، والباقي في المجتمعات المضيفة، وشكلت حالة العيش المشترك بين المجتمعين الكثير من المفردات والمصطلحات من اللهجة السورية المستخدمة في الحياة اليومية؛ فبات الكثير من الأردنيين يستخدمونها، وهو أمرٌ عَزاه الباحث الاجتماعي موسى العموش إلى اندماج السوريين في سوق العمل الأردني، والقرب الجغرافي والديمغرافي بين البلدين. ويضيف العموش: «على المقلب الآخر، تنتشر اللهجة الأردنية بشكل كبير في أوساط السوريين، وبخاصة الأطفال منهم، الذين التحقوا بالمدارس الأردنية، إلى درجة يصعب معها في كثير من الأحيان، تمييز الطالب السوري عن زميله الأردني».
وبالعودة إلى السورية «أمّ معتصم» التي استطاعت أن تؤمن كفاف يومها عبر إعداد المأكولات البسيطة، فإن هذه المرأة تعدّ أسرتها محظوظة مقارنة بغيرها من الأسر اللاجئة التي لا تستطيع تأمين قوتها اليومي إلا بمساعدة أهل الخير بعدما تخلّت عنهم المفوضية، وشَحَّ عطاء أغلب الجمعيات الخيرية. وها هي تتضرع إلى الله رافعة يديها أن يكون الحل قريبًا؛ ليعود اللاجئون إلى ديارهم التي تركوها، وأن يمنّ الله عليها برؤية منزلها وترميمه بعدما رأت ما حلّ به من دمارٍ وتخريب في صورٍ أرسلها إليها جيرانها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
مثقفون يواجهون صعوبات في العمل
يواجه اللاجئون المشتغلون في المجال الثقافي والإعلامي على وجه التحديد، صعوبات كبيرة في العمل؛ بسبب امتناع الحكومة الأردنية عن إصدار تصاريح عمل لهم، فيفضّل كثير منهم المغادرة دون عودة، وهو أمر أكّده الفنان والكاتب المسرحي السوري وائل قدور، موضحًا: «أتمنى ألّا يُغادر المثقفون السوريون الذين بقوا في الأردن، بمن فيهم أنا، وأتمنى أن تتم إعادة النظر في وضعهم بحيث يتم تسهيل حركتهم وتمكينهم من السفر والعودة؛ لأن ذلك مهم جدًّا بالنسبة لهم حتى يتمكنوا من المشاركة ويُصبحوا جزءًا من الصورة الأكبر». ويلفت قدور إلى أن مُشاركة المثقفين السوريين في معظم الفعاليات تواجه العديد من الصعوبات؛ بسبب القيود المفروضة على زيارة السوريين وسفرهم. وعلى الرغم من أن هناك تفهّمًا لما يبديه الأردن من تخوفات أمنية، وبخاصة تسلل عناصر من تنظيم «داعش» الإرهابي، إلا أن النظر إلى المسألة ينبغي أن يكون مختلفًا عند الحديث عن المُثقفين والفنانين؛ فاحتياجات هذه الفئة تنحصر في حصولها على صفة قانونيةٍ، وإدماجها في المشاريع الثقافية، إضافةً إلى حرية الحركة من الأردن وإليه. ويدعو قدور وزارة الثقافة الأردنية إلى «الاستثمار في الفنانين والمثقفين السوريين الموجودين، والعمل معهم على مشاريع ثقافية ضمن إطار احترافي».
وفي هذا السياق يؤكّد المخرج المسرحي الأردني الدكتور فراس الريموني أن الدولة خسرت «فرصة ذهبية» لاستقطاب الفنانين والمثقفين السوريين، على عكس ما حدث مع موجة اللجوء العراقي الأولى في التسعينيات؛ إذ استطاع المثقفون العراقيون حينها العمل بأريحية كبيرة، فأغنوا المشهد الثقافي، وأسسوا عددًا من دور النشر وشركات الإنتاج الفني، وتم قبول بعضهم أعضاء في رابطة الكتاب الأردنيين، أما الموجة الثانية من اللجوء العراقي في عام 2003م، فكانت على عكس الأولى؛ إذ كان أصحابها من ذوي رؤوس الأموال الضخمة، واشتغل معظمهم بالتجارة، لا سيّما تجارة العقارات. وجاءت موجة اللجوء العراقي الثالثة مختلفة عن سابقتيها؛ إذ غلب عليها البعد الديني، فكانت تتشكل في معظمها من المسيحيين والإيزيديين الذين هربوا بعد سيطرة «داعش» على الموصل ونينوى في شمال العراق، وكان الأردن بالنسبة لهم بلد العبور؛ إذ تمت إعادة توطين غالبيتهم في بلدان أوربا وأميركا، بعد أن أقاموا في الأردن لأشهر عدّة فقط، بحسب ما أفاد به عمر عبوي، مدير البرامج في جمعية «الكاريتاس».
المنشورات ذات الصلة
المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر
إذا كانت اللغة منزل الوجود كما قال هيدغر ذات مرة، فهذا يعني أنّ اللغة تكون قد سبقتنا دومًا إلى ما نعتزم التفكير فيه،...
المرأة العربية والكتابة الروائية
يـبدو زمـنًا بـعيدًا ذاك الـذي صدرت فيه نصوص تـدافع عن حق المرأة العربية في أن تـنال الاحترام والاعتراف بدورها الأساس...
الإبداع والنسوية والنقد
حاصرتني على مديات طويلة كتابات نقاد يحيلون كل ما تكتبه الكاتبات على أنه أدب نسوي، أو أدب نسائي، وأحيانًا يجنحون إلى...
0 تعليق