كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
في الثناء على ما يبقى
الشيخ الهيغلي
من سنوات قريبة، لمحته يقف في الممر بين صالة الدور الأرضي والبوفيه خارج مبنى المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة على رأسه «بيرية» طراز إنجليزي موغل في شيخوخته ويكتسي وجهه حزن يشبه الأيام، وتبدو ملابسه كأنها من عصر مضى. كان مرتبكًا وفي حيرة الغريب على المكان! لم أعرفه أول الأمر وعندما سألت أحدهم، أجابني: «يا عمي هذا الدكتور إمام عبدالفتاح أمام، ورفع صوته ممعنًا في تقديمه: الشيخ الهيغلي. ثم تعجب لحالي، وأضاف : الله نسيته؟
انتبهت فجأة لفعل الزمن، وما تجري به المقادير. وجدتني أحادث نفسي باندهاش: يا الله!! الدكتور إمام عبدالفتاح إمام؟! كنت فاكر أنه رحل عن الدنيا من زمان!! وحين رحل بالفعل في عام 2019م، سألت نفسي عن النسيان والجحود. دكتور الفلسفة، وعالم العربية الفيلسوف، صاحب تجليات العقل، المجتهد لتكون إسهاماته طوال حياته الفكرية في الثقافة العربية هي تجليات عقل يقظ، والعمل طوال الوقت لتطويع الفلسفة لعمل يسهم في تقدم الأمم، وإيمانه بوصفه أحد أصحاب المناهج الكبار في الفلسفة العربية.
ينتمي الدكتور إمام لتلك المدرسة الفلسفية المصرية التي بدأت في تكوين رؤاها الفلسفية والفكرية أوائل القرن العشرين، وسط حركة المتغيرات، في مواجهة الأسئلة الجديدة التي يفرضها الوقت حول المصطلحات الجديدة أيضًا، وحول ما يسمى بتكوين العقل الفلسفي. لقد بدأت تلك المدرسة مع جيل الرواد: أحمد لطفي السيد، وعلي ومصطفى عبدالرازق، وتوفيق الطويل، ويحيى هويدي، وعثمان أمين، وعبدالرحمن بدوي، التى كان امتدادها فؤاد زكريا وزكي نجيب محمود، ومن ثم إمام عبدالفتاح إمام. جيل آمَنَ بأن علم الفلسفة في جوهره سؤال دائم عن الوصول للحقيقة وعن تدعيم القيم. وسط هذا المناخ وُلد الدكتور إمام عبدالفتاح إمام (1934م – يونيو 2019م)، وتخرج من جامعة عين شمس بالقاهرة، الجامعة العريقة التي أمدَّت مصر وجامعات العالم العربي بالرواد الأوائل الذين أسهموا بقدر من العلم والاحترام في تغيير الوعي، وتمهيد الطريق أمام الرؤى الجديدة في الفلسفة والأدب والفنون وحركة السياسة النشطة ذلك الحين.
مارَس الدكتور إمام طوال عمره تدريس الفلسفة في كثير من الجامعات المصرية والعربية، وتشاء الظروف، زمن الخروج الكبير للمصريين، أن يلتقي ثلاثة من الكبار هم: زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وإمام عبدالفتاح إمام أساتذة في جامعة الكويت ليسهموا بالفعل في إحياء مشاريع ثقافية عميقة من السلاسل التي كان ولا يزال بعضها مواكبًا للثقافة العالمية، حريصًا على ترجمة الكتب والأفكار مثل سلسلة عالم المعرفة. كان والد الدكتور إمام عالمًا بالأزهر الشريف، وراعيًا له بحق حتى نال ليسانس الآداب ودرجة الماجستير التي كان موضوعها «المنهج الجدلي عند هيغل» عام 1968م، ثم حصل على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى عام 1972م عن أطروحة «تطور الجدل بعد هيغل» كما أنجز هذا الرائد الكبير كثيرًا من كتب الفكر الفلسفي، وأشرف على كثير من المشروعات الفلسفية الباقية؛ أذكر منها: مشروع «أقدم لك» «الذي أشرف على ترجمته ويتضمن الكتابة عن سير العظماء من الفلاسفة مثل: «أفلاطون» و«ديكارت» و«كامي» وكثير من كتب الفلسفة التي قدمت بأسلوب يتلاءم مع خبرة متلقٍّ غير متخصص، وقارئ يسعى لاكتساب معارف عميقة تعينه على إدراك الحقائق. ولقد ألَّف هذه السلسة الكاتبان ديفيد بابينو وهواردسيلينا.
يقول الدكتور إمام في مقدمته لكتاب الفلسفة: «هذا هو الكتاب الثالث الذي جاء عرضًا لتاريخ الفلسفة الغربية بأسرها منذ نشأتها في بلاد اليونان في القرن السادس قبل الميلاد عندما طرح فلاسفة مالطة ما يسميه المؤلفان «بالسؤال الكبير»؛ من أين جاء العالم؟ وممن يتألف؟» كما أصدر هذا العالم ما يقرب من مئة كتاب ما بين تأليف وترجمة؛ من أهمها: الوجودية -جزءان. الطاغية، صدر بعالم المعرفة، رصد فيه هذا الفيلسوف تطور شخصية الطاغية في علاقته بالسلطة وشعبه، والمكونات النفسية التي كونت هذا الكائن لينتهي إلى أن يكون هكذا! كما تشهد غزارة ما ترجمه من كتب، ذلك الجهد الذي بذله، حين قضى حياته مؤمنًا بأن الترجمة في الحقيقة هي التي توفر للفلسفة وجودًا ومناخًا صالحين لإنتاج الأفكار الجديدة، وتغني النصوص وتنقلها من فضاء ثقافة محلية إلى أفق آخر.
وفي حياته كانت إسهاماته، وما أنتجه وأبدعه غزيرًا ومفيدًا على نحو خاص، ولا ننسى له ترجمة: فلسفة التاريخ. أصول الفلسفة الحق: ظاهريات الروح. محاضرة في تاريخ الفلسفة. موسوعة العلوم الفلسفية، وكانت كلها للفيلسوف الألماني «هيغل». وعن علاقته «بهيغل» ترى الدكتورة يمنى طريف الخولي أستاذة الفلسفة والعلوم ورئيسة قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة: «يعترف إمام أنه قرأ هيغل بنظارة أرسطو ولذا لم يفهمه ولقد أثارت المسألة بالنسبة إليه إشكالية كبيرة ولم يدرك أن هيغل نحت لنفسه طريقًا آخر ثم أدرك في النهاية أن هيغل صاحب بناء فكري متين ومتنوع يتسم بالغزارة المعرفية والدقة وضرب الأمثلة وتبسيطها. كما ترى الدكتورة: أن إمام اختار فلسفة الوجود مضمار عطائه وتجليات للعقل الفلسفي وانبثاقاته الوجودية». كما يذكر أستاذ الفلسفة الدكتور حمادة أحمد علي في دراسة قيمة عن الدكتور إمام وما ذكره عن نفسه: «تعلمت من هيغل أن طريق الفلسفة مرصوف بالأفكار فهي لا تتعامل مع الأشياء الحسية على نحو مباشر وهذا هو السبب في غموض الفلسفة».
لقد عاش هذا الكريم حياة قامت على جهاد شخصي آمن بالقيمة، وأدرك طوال حياته أن الوجود الإنساني محير بدرجة تدفع إلى الدهشة، وأن متغيرات الدنيا وما يجري بها من حوادث تصيب الإنسان في بعض أحواله باليأس والقنوط، وأن محاولة الإنسان دائمة، وطموحة في الحصول على لؤلؤة المستحيل التي لن يحصل عليها، وعليه طوال الوقت بذل جهده من جديد لمطاردتها في جدلية الممكن والمستحيل. لقد عاش هذا الرجل، ورحل عن الدنيا تاركًا أثرًا واسعًا في الأوساط الثقافية المصرية، وقدم إلى بلاده العربية عددًا من المترجمين المهمين، والكثير من كتب الفلسفة التي تشارك في تأسيس استثارة عربية نرجوها.
وفي يوم رحيله عن الدنيا، انتبه أهل الثقافة والمعرفة ورجال الإعلام لرحيله، واستعادوا سنوات غاب فيها الرجل عن الساحة، وكالعادة تستدعي الذاكرة سير الرجل، وفضله العميم، واستعادت واستحضرته من النسيان، فعادت تؤكد أن هذا الرجل قد أثر كثيرًا في الثقافة المصرية والعربية، وأنه أبرز تلاميذ زكي نجيب محمود، وأحد من تولوا إنجاز مشروعه الفلسفي بمعرفته للفكر العربي المعاصر والفكر العالمي وهو ذلك الفيلسوف الذي اختار منهجًا وسطيًّا في السياسة والفكر، وكان يرى طوال حياته أن أي حُكم لا يستقيم أبدًا طالما تدخلت فيه سلطة ذلك المستبدّ العادل الذي فرض وجوده عبر السنين الطوال.
وعلى الدكتور إمام عبدالفتاح إمام الرحمة وسكن الجنان.
صديق أنطون تشيكوف الطيب
في «ضيافة الغريب» للمغربي الأصيل عبدالسلام بنعبد العالي معنى ينفذ به بعمق داخلي للقبض على الوجود الفعلي لوظيفة المترجم، يقول: «ليس هوس المترجم الوصل وخلق القرابة، ليس جر الآخر نحو الذات والتهامه، وإنما الذهاب نحوه، وفتح النص، فتح الثقافة على أخرية الآخر، وإثراؤهما عن طريق التلقيح باللغة الأخرى واستضافته الغريب». ما يريد أن يؤكده أن الترجمة تتوازى مع الإبداع، وأنها في نهاية الأمر شأن كل فكر، تؤكد هوية الإنسان، وتكشف عن رغبته في التواصل مع الآخر، وتبني جسرًا تنتقل عبره الثقافات، يقوم ببنائه بعض أصحاب المواهب في نقل إبداع ومعارف الآخرين.
المترجم المصري الراحل الدكتور أبو بكر يوسف واحد من هؤلاء، أمضى عمره تقريبًا في علاقة طويلة كان عنوانها الاجتهاد وحب المعرفة، ولإتقان الأدب غير الأدب الذي اكتسبه في وطنه، وثقافة غير ثقافته، مجدها المعرفة والتنوع وإدراك أسرارها ويصل فيها إلى الدرجة التي يطلق عليه فيها «شيخ المترجمين العرب». درس في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية بمصر، ثم انتقل في المرحلة الثانوية إلى مدرسة في المعادي بالقاهرة، وحين أنهى المرحلة الثانوية اختير ضمن جماعة من المتفوقين للإفادة في بعثة لروسيا في عام 1959م. كانت القاهرة في ذلك الوقت تواجه عوائق التحرر من الاستعمار والعمل على الخروج من أسر الخطابات التي تقيد العقل، وتعمل على مواجهة أشكال القمع كافة من خلال ثقافة تقوم على التنوع والمعرفة، وكانت تحاول الخروج من الماضي بالاستنارة وترى أن ذلك لا يتم إلا بإحداث نقلة في التعليم، وفي الوقت نفسه بدأت العلاقة مع الاتحاد السوفييتي القديم عبر شعارات مواجهة الاستعمار والسيطرة الغربية. في عام 1959م بدأت البعثات إلى ذلك البلد البعيد، واختير الطالب أبو بكر يوسف ضمن عدد من الأفراد لدراسة الأدب في جامعة موسكو الحكومية، وفي تلك الجامعة أتقن اللغة الروسية بعمقها الكلاسيكي والمعاصر، واكتشف من خلالها طبيعة الحياة في روسيا، وتنوع الثقافات في تلك البلاد الواسعة العامرة بالأجناس والثقافات المختلفة.
تعرف إلى الرواد العظام: تولستوي، ودوستيوفسكي، وغوركي، وجوجول، وميخائيل شولوخوف، وفي جامعة موسكو تعرف إلى العديد من أساتذة الأدب والمستعربين، ومع إتقانه اللغة عثر على تشيكوف العظيم فانبهر به كاتبًا إنسانيًّا، محبًّا لأهل الهامش والمنكسرين في أرواحهم من الأطباء والخدم والحوذيين والعاملين عند سادتهم، بدأ بترجمة تشيكوف، وعندما لاحظ أن ترجمته لا ترقى للصيغة التي يود أن تصل إليها الترجمة، توقف عقدين حصل خلالهما على الدكتوراه في الأدب الروسي، ثم كان اختياره التفرغ تمامًا للترجمة، فالتحق بالعمل مترجمًا متفرغًا في دار بروغرس. في هذه الدار ترجم أبو بكر يوسف أعمالًا من كنوز الأدب الروسي؛ مختارات لأنطون تشيكوف، وبعض أعمال الشاعر ألكسندر بوشكين، والروائي ميخائيل ليرمنتوف، وبعض أعمال جوجول ومكسيم غوركي، وغيرهم.
أحب أبو بكر يوسف تشيكوف، ومجَّده، ورأى فيه ذلك الكاتب الذي كانت حياته خالية من العطف، والذى ينظر إلى العطف كأنه شيء غير مألوف، شيء ليس به خبرة من قبل. وكانت تثير عواطف المترجم نحو الكاتب عندما يقرأ كان يحكي عن أبيه لأحد أصدقائه.. أتدري أني لم أستطع قط أن أغفر لأبي جلده إياي «وحين كان يقول» لم يكن في طفولتي طفولة».
أَسَرَهُ هذا الكاتبُ الروسيُّ العظيم، وحين أصدر مجلداته الأربعة عن دار الشروق واجهته تلك المشاعر المتناقضة حين أقدم على ترجمة مثل تلك الأعمال وكيف يقدمها للقراء العرب ومنهم من يعرف الكثير عنه؟ كان عليه أن يترجم تشيكوف الفنان وتشيكوف الإنسان. بأي طريقة يقدم بها هذا المبدع الكبير للقارئ العربي؟ ذاك الذي قال عنه يومًا تولستوي: «بفضل صدقه صاغ تشيكوف أشكالًا كتابية جديدة كل الجدة، بالنسبة للعالم كله أشكالًا لا أجد لها مثيلًا».
لقد رأى الدكتور أبو بكر يوسف حين أقدم على ترجمة هذا الأديب أنه يواجه ترجمة كاتب قال عنه يومًا ألكسندر كوبرين: «… بالفعل، سوف تمرُّ الأعوام والقرون. وسوف يمحو الزمن ذكرى آلاف الآلاف من الأحياء الآن، لكن الأجيال القادمة تردِّد اسمه بعرفان، وبأسى خافت على مصيره»؛ لذا أقدم أبو بكر يوسف على ترجمة المجلدات الأربعة تحت عنوان الأعمال المختارة: واحدًا للأعمال القصصية التي كنا نسعى إليها أول العمر، قادمين من قرانا، حيث سور الأزبكية القديم برغبة البحث عن قصصه في ذلك الزمان الموغل. والمجلد الثاني احتوى الروايات. والثالث احتوى دراساته القصيرة. والمجلد الرابع: مسرحياته العظيمة.
من أجل هذا وغيره أمضى الدكتور أبو بكر يوسف حياته في علاقة مع الأدب قامت على الاجتهاد والمعرفة والإتقان، محبًّا لأدب غير أدبه، وثقافة غير ثقافته حتى وصل -كما قلت- إلى أن يكون شيخًا «للمترجمين العرب» الذي مُنِحَ عن جدارة من اتحاد أدباء روسيا العضوية الشرفية تقديرًا لإسهاماته في التقريب بين الثقافتين الروسية والعربية.
ونحن أول العمر، والأدب الروسي يشكل لنا طريقًا لإبداع جديد، نكتشف من خلاله أفذاذه ومبدعيه، ويبهرنا في ذلك الوقت تلك الأعمال الخالدة لهؤلاء الكلاسكيين العظماء، كنا في ذلك الوقت نبحث في المكتبات القديمة عن ترجمة هذا الرائد الجليل «أبو بكر يوسف» عليه رحمة الله.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق