كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المترجم يخسر حين يحول الناشر الترجمة إلى وسيلة للتكسب
هل الترجمة خيانة؟ ما الذي سيكون عليه شكل العالم لو توقفت حركة الترجمة عن العمل؟ كيف يمكننا أن نعرف الآخر؟ كيف يمكننا أن نستوعب خبرات الشعوب وتجارب الأمم؟ كيف يمكننا أن نُصدِّر خبراتنا لهم؟ آلاف الأسئلة التي تواجهنا حين نفكر في الحديث عن الترجمة، ليس بوصفها فقط جسرًا للتواصل بين الجماعات البشرية، ولكن بوصفها علمًا وفنًّا، وقدرة على الاختيار، وخبرة تترقى بعدد السنين والنصوص، فما الصعوبات التي تواجه المترجمين؟ وما إشكالياتهم مع دور النشر؟ ولماذا أخفقنا في إقامة حركة ترجمة عكسية تعلن عن آدابنا وحضورنا في العالم الحديث؟ وكيف يمكن أن نضبط فوضى المصطلحات؟ هل يمكن أن يتوقف العالم العربي عن منافسة بعضه بعضًا، ويتعامل كثقافة واحدة تتحاور مع الثقافات الأخرى في العالم؟
أسئلة وتساؤلات تطرحها «الفيصل» على عدد من الكتاب والمهتمين
تفاوض بين لغتين
يوضح الشاعر والناقد الأكاديمي المغربي الدكتور صلاح بوسريف أن الترجمة أحد الموضوعات التي دائمًا ما كان النقاش حولها عصيًّا، ويقول: «كثيرون هم المفكرون والنقاد والباحثون في مختلف حقول المعرفة والإبداع الذين اعترفوا بخطر الترجمة، بل رأوا أن الترجمة من لغة إلى أخرى «خيانة» للغتين معًا، فدائمًا، هناك أشياء ما تضيع، وتفقد رواءها في عملية الانتقال هذه، وهنا، أريد أن أذكر بالعبارة التي اختزل بها إمبرتو إيكو ما يحدث في عملية الترجمة، باعتبارها «تفاوضًا» بين لغتين، وفي كلِّ عمليةِ تفاوضٍ يجري تنازل من قبل الطرفين المتفاوضين، كل لغة تتنازل عن شيء من كيانها التعبيري، خصوصًا في الإبداع، فأنت لا تستطيع ترجمة الإيقاع، أو نقله بنفس خصوصية اللغة التي تترجم إليها؛ لأن إيقاع كل لغة يختلف في جوهره عن إيقاع غيره من اللغات الأخرى، والعربية، هي في طبيعتها لغة مد، ولغة شفاهية، لغة غناء وإنشاد وإلقاء. الشيء نفسه يمكن قوله عن الصورة، والتركيب، وبناء التعابير والجمل. ومن ثم فالتفاوض وفق عبارة إيكو هو تضحية بشيء ما، وهو تقريب وليس نقلًا بالحرف والجملة والكلمة. فالترجمة تكون أساسية، بمعنى التقريب، وبمعنى الوقوف على بعض خصوصيات الفكر والثقافة التي نترجمها، مع فقدان خواص وعناصر ومكونات أخرى في الطريق، وهذه إحدى معضلات التفاوض».
ويرى بوسريف أن ترجمة الفكر والنقد تجعل المأزق مضاعفًا؛ «لأننا نكون بإزاء مفاهيم لها سياقاتها الثقافية التي ظهرت فيها، وهي مرتبطة بلغة دون أخرى، لذلك يحدث ارتباك في ترجمة المفاهيم واختلافها، كما في مفهومي «الإنشائية» و«الشعرية» مثلًا». ويلفت إلى أنه ليس هناك مفاهيم موحدة في العربية؛ «لأن الترجمة في عمومها، عندنا، هي مبادرات فردية، يقوم بها أشخاص، لا مؤسسات، حتى المؤسسات، إذا ما وجدت، فهي لا تستطيع أن تقنع الباحثين والنقاد والمفكرين بما تقترحه من مفاهيم، وهذا ما يجعل الترجمة عندنا تشبه اختلاف الألسن في برج بابل؛ لأن المفاهيم التي يستعملها التونسي، في اللسانيات أو في السوسيولوجيا والنقد الأدبي، غير ما يقترحه المغربي والجزائري، أو السوري واللبناني، وهذا ما يحدث بلبلةً، ليس في اللسان فقط، بل في الفهم وفي القراءة وفي مضامين المصطلحات، وفي نتائج البحث وما نبلغه فيه من تأويل، فالمفاهيم، كما يقول الدكتور محمد مفتاح، معالم، وحين تصبح الترجمة بهذا المعنى فإنها تفقد الاتجاه، بل تفقد القدرة على الإبانة والإفهام. وفي الغرب، طبيعة التراكم في الترجمة ووجود مؤسسات وتقاليد باتت عريقة في هذا الباب؛ مما أتاح تبني مفاهيم موحدة، وقد لعبت الجامعة هناك دورًا في شرعنة كثير من المفاهيم ومأسستها، ووضعها في سياق البحث العلمي، فضلًا عن المعاجم والموسوعات التي ساهمت في حل كثير من المشكلات، وهذه كلها عناصر لا نتوفر عليها، والجامعة لدينا بها هذا الارتباك وهذه البلبلة؛ مما ينعكس على البحوث والدراسات، وعلى توجيه الطلبة والباحثين، وعلى البحث العلمي ككل».
عملية إبداع
المترجم السوري حسين عمر يرى من الصعب وضع الترجمة في خانة الفن فقط أو العلم فقط، ويقول: «لا شكّ في أنّ الترجمة من الفنون الإبداعية التي تتواشج على نحوٍ وثيق بالعمل الإبداعي المكتوب بلغة الأصل كما بلغة المقول الهدف. ولكنّ الترجمة محكومة أيضًا بضوابط وأصول علوم اللغة التي تتمّ منها وإليها. أيًّا كانت، الترجمة هي، قبل كلّ شيء، عملية خلق وإبداعٍ جديدة، وليست مجرّد عملية نقل ميكانيكية لنصّ من لغة المصدر إلى لغة الهدف. بالتأكيد، هذا لا يعني التخلّي عن روح النصّ المصدر، وإنّما وضع هذه الروح في جسد النص الهدف بطريقة إبداعية خلّاقة». ويذهب حسين عمر ليؤكد أن الترجمة هي حرفة، «تختلف فيها مهارة من يحترفها، ووسيلة نقل نصّ إبداعي من ضفة لغة المصدر إلى ضفة لغة الهدف، مع الأخذ في الحسبان أنّ لغة سكان الضفة التي يُحمَل إليها النصّ تختلف عن لغة سكان الضفّة الأولى. ولذلك، يجب أن يكون الهاجس الأوّل للمترجم هو بثّ روح اللغة المُترجَم إليها في النصّ وإضفاء جمالياتها عليه، وبذلك، تمنح الترجمة أفقًا جديدًا للعمل الأصلي، وهي وحدها الكفيلة بتحويله إلى نصٍّ عالمي».
فوضى المصطلح
من ناحية، يعتقد عميد كلية الألسن بجامعة بني سويف المصرية الدكتور أحمد الشيمي أن الفوضى تصيب أكثر ما تصيب ترجمة المصطلحات، وعزز كلامه بطرح أمثلة عدة، «حين ظهر مصطلح «genes» ترجمه عباس العقاد بـ«ناسلات» لكنها ترجمة لم يُقدر لها الشيوع، واقترح ترجمتين لمصطلح «identification» فترجمه «التلبيس» مرة و«التشخيص» مرة أخرى. ومعروف أن المترجمين العرب في العصر العباسي – رغم إنجازهم الكبير في الترجمة اضطربوا في ترجمة مصطلحي tragedy وcomedy حين ترجموه بـ«الهجاء» و«المدح»؛ لأنهم لم يركزوا في فهم معنى المأساة والملهاة لأسباب دينية، وقد اضطرب النقاد المحدثون في ترجمة بعض المصطلحات مثل «الهرمنيوطيقا» التي ترجمها جابر عصفور بـ«علم التأويل» وترجمها محمد عناني بـ«علم التفسير» و«الهرمنيوطيقا» أو «التفسيرية»، وترجم سعد مصلوح مصطلح formalism بـ«الشكلانية»، وهي ترجمة لم يُقدر لها الشيوع والانتصار على «الشكلية» التي يحبذها محمد عناني ترجمة لهذا المصطلح. كما نجد أن مصطلح historicism يُترجم مرة بـ«التاريخانية» ومرة أخرى بـ«التاريخية». وتتضح فوضى الترجمة في ترجمة مصطلحات نظرية القارئ، فنجد مصطلح implied reader الذي أطلقه ولفجانج إيزر؛ يترجمه بعضهم إلى «القارئ الضمني» وهي الترجمة الشائعة، وآخرون إلى «القارئ الموحى به» أو «القارئ المفترض» أو «القارئ المضمر». وانظر في الفوضى التي ضربت مصطلح affective fallacy الذي ترجمه سعد مصلوح إلى «خداع التأثير»، وترجمه آخرون إلى «المغالطة العاطفية»، و«المغالطة التأثيرية»، و«الوهم العاطفي»، ومصطلح deconstruction الذي نقرأ له ثلاث ترجمات: «التفكيكية» وهي الشائعة، ثم «التشريحية» و«التقويضية». وهناك مصطلح defamiliarization الذي وجدنا لـه ترجمات متعددة: «التعجيب»، «مخالفة المألوف»، «نزع الألفة»، «الإغراب».
سبيل الناشرين إلى التكسب
ويدافع الشاعر والكاتب والمترجم التونسي عبدالوهاب الملوح عن المترجم المتهم بالخيانة وأنه يجني كثيرًا من الأموال من مهنته، فيقول: «لقد ذهب في اعتقاد الكثيرين أن المترجم يجني المال الكثير مما يقدمه من أعمال مترجمة وهو بذلك يرمي أكثر من عصفور، فإضافة إلى ما قد يجنيه من مداخيل مالية يحظى بالنجومية الأدبية التي يتهافت عليها الكتاب، ويرتقي سلم العالمية بسرعة، وينجح في مسيرته، على العكس من الشاعر الذي يكتفي بكتابة الشعر فقط أو الروائي الذي تتوقف تجربته عند إصدار روايات. فهو الكاتب السعيد إن لم يكن الأسعد على الإطلاق من بين جميع الكتاب، رغم ما يتقوَّل به هؤلاء الكثيرون من صفات ذم المترجم من قبيل؛ إنه خائن، وإنه دخيل على الإبداع، وإنه بلا موهبة، هذا ظاهر الأمر وهذا ما يراه غالبية المتابعين للشأن الأدبي، في حين أن الواقع عكس ذلك تمامًا، فالمترجم الحقيقي لا يسعى البتة للإثراء والربح المادي مما يشتغل عليه من ترجمات، ولعل دافعه الأهم هو تزويد المكتبة العربية، ومن وراء ذلك تسليح العقل العربي بتفكير مختلف وأسلوب مغاير، وإطلاعه على ثقافات شعوب أخرى بما فيها من إبداعات فنية».
ويلقي الملوح باللائمة على دور النشر، «للأسف وجد الناشرون في الترجمة سبيلًا للربح والتكسب، وهو ما حولها من عمل فني فيه مجهود إبداعي جمالي إلى سلعة للبيع والمساومة أيضًا، بل للمنافسة التجارية، بما أن هذي الترجمات صارت ضمن بورصات الجوائز، بغض الطرف عن قيمتها الفنية». وعن تجربته الشخصية يقول: «شخصيًّا لم يكن لدي أي هدف ربحي، منفعي، مما قدمته من محاولات أراها دائمًا متواضعةً في الترجمة، كان الأهم عندي هو تشريك القارئ العربي فيما أكتشفُه من جماليات فنية عند الآخر بثقافته المختلفة، غير أنني وجدت نفسي ضمن سوق للبيع والشراء، ناهيك عن مشكلات حقوق الطبع من الناشر الأصلي التي عادة ما يتملص منها الناشر لما قد تكلفه من أتعاب، إضافة لما قد يمليه الناشر من تغييرات في صلب النص، عدا مشكلة التوزيع التي تظل قائمة وإلى الأبد، بل أرى أن حتى المؤسسات الرسمية التابعة لوزارة الثقافة في ميدان الترجمة ما زالت تتخبط، لا تعرف أي دور لها، وهذا كله في غياب سياسة ثقافية محددة وواضحة منذ البدء».
غياب التقاليد
في حين يذهب الكاتب والمترجم السوري أسامة إسبر إلى أن مشكلات الترجمة في العالم العربي لا تنفصل عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويشير إلى أنه في الوقت الذي يحتاج فيه العمل الثقافي والإبداعي إلى بيئة مستقرة، نجد أن مفهوم القارئ المستقر غير متوافر في بلادنا، «فابن وطننا مشغول بهموم كثيرة، وتتمحور حياته حول تأمين لقمة العيش، كما يعاني انقطاع الكهرباء والماء والغاز والدخل الذي يمكّنه من أن يعيش حياة كريمة، فكيف نطالبه بالقراءة، وهو لا يستطيع أن يجلس على الكرسي كي يركز على ما يمنحه له كتاب مترجم أو غير مترجم. أما الحكومات العربية فلا تهمها الترجمة سوى على المستوى الدعائي، وكما لا يعيش الكاتب العربي من ريع كتبه، لا يعيش المترجم أيضًا، فأجور الترجمة زهيدة في معظم دور النشر العربية، كما أن الناشر عادة لا يمتلك تقاليد قائمة على احترام حقوق الملكية الفكرية، فمعظم الناشرين يحضرون عقودًا قطعية، يشترون بموجبها نصًّا مترجمًا ويستولون عليه دون شراء حقوقه من الآخر الأجنبي، ويعاملون المترجم بالقَطَّارة. كما أن سوق توزيع الكتاب العربي محدود، فالناشر في سوريا يتحرك بين ٥٠٠ نسخة وألف نسخة، بما يعني أن العزوف عن القراءة ظاهرة عربية عامة، ومقتصرة على أوساط المثقفين، والكتب التي تبيع على نطاق واسع هي المرتبطة بترويج الثقافة التقليدية. واختيار الكتاب المترجم إلى العربية يخضع لمعايير التسويق أكثر مما يخضع لقيمته الفكرية أو الإبداعية».
الترجمة تحت بير السلم
أما الناشرة الفلسطينية المقيمة في القاهرة بيسان جهاد عدوان فترى أنه رغم كثرة جهات الترجمة في العالم العربي، فإن سوق الترجمة في القطاع الخاص يسيطر عليه المترجمون من خلال علاقاتهم بالجهات الداعمة للترجمة، «ربما سوق الخليج عبر مشاريعه الخاصة بالترجمة قد منحت للمترجمين أجورًا باهظة، وهم يستحقون ذلك فعليًّا، لكن ذلك أثر في قطاع النشر الخاص الذي صار يتحايل على الأجور العالية التي يطلبها المترجم في مصر أو لبنان أو سوريا، فكان عليه البحث عن منح دعم الترجمة، تلك الخاضعة لعلاقة المترجم نفسه بأشكال الدعم والمتنفذين به، وبنوعية الكتب المحددة التي تفرضها الأجندة الثقافية لبلد ما، مما يحدّ من الاختيارات الواعية التي تهم القارئ العربي، فضلًا عن ركاكة الترجمة؛ إذ يضطر إلى الترجمة تحت بير السلم، ومنح جزء كبير من الدعم لمترجم رئيسي يضع اسمه أو يكتب مقدمةً أو تحقيقًا للكتاب غير الأدبي، حتى يبتعد عن دفع حقوق الملكية الفكرية، والأسعار المبالغ بها تكون في الترجمات التي لها علاقة بالأدب، وهي المهيمنة. أما ترجمة الكتب العلمية، فبسبب ما سبق، فهناك حضور شديد لهيمنة ثقافة على أخرى، وهناك حضور شديد للترجمة الحرفية والتقنية، عكس الترجمة الإبداعية القائمة على قدرة المترجم على استيعاب وامتصاص الثقافة القادمة وخلقها في حُلّة جديدة».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق