المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

العرب في مواجهة الشتات «أنا لست رقمًا»

بواسطة | مايو 9, 2016 | مقالات

فجأة لم يعد هناك وطن. تحول محض كلمة في بطاقة الهوية، مفردة في دفاتر الهجرة والجوازات. الوطن الذي كان في الأمس، أصبح جحيمًا مفتوحة، تلتهم الجميع. في غياب الوطن لا وجود لأي شيء سوى التيه والشتات. ملايين البشر اضطروا للخروج من أوطانهم؛ خوفًا من التعرض للاضطهاد بسبب انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو القومية أو الاجتماعية، أو بسبب توجهاتهم السياسية، وبعد أن كان لكل منهم حياته الشخصية، ومكانته الاجتماعية، ومنصبه الرفيع، أو مهنته التي توفر له حياة كريمة، أصبحوا جميعًا يحملون الصفة نفسها: «لاجئ»، تلك التسمية التي تحمل في طياتها الانكسار، والحاجة للمساعدة، والرغبة في اقتسام الطعام والسكن مع مواطني البلد المضيف. أصبحوا جميعًا أرقامًا في جداول وتقارير دولية.

في الشتات يجد اللاجئ من ينظر إليه بشفقة وعطف، فتقتل هذه النظرة كبرياءه، أو يرى نظرة الكراهية، والدعوة للعودة من حيث جاء، فتضيق عليه الأرض بما رحبت.

سوريون وعراقيون، ليبيون ويمنيون، وغيرهم من جنسيات أخرى، قرروا أن يخرجوا من ديارهم. انتهى المطاف ببعضهم في دولة مجاورة، ولكن آخرين قصدوا بلادًا بعيدة، ذات ثقافات وعادات ولغات غريبة؛ لأنهم سمعوا مثلًا أن ألمانيا تخصص 40 إلى 50 ألف يورو سنويًّا لرعاية الطفل الواحد، الذي يهاجر من دون أهله. لكن هل تعوض هذه الأموال الطفل عن اقتلاع جذور انتمائه لوطنه؟ هل تستحق أن يلقي شاب في السابعة عشرة من عمره بنفسه من القطار؛ خشية إعادته إلى بلده الذي هرب منه، ليموت في جنة الغرب، بدلًا من العيش في جحيم وطنه؟

الشعار الذي وضعته الأونروا لمسابقة التصوير الفوتوغرافي «أنا لست رقمًا»، ويستهدف تسجيل لحظات خاصة في حياة اللاجئين الفلسطينيين، يمكن استعماله في أحوال وحالات كثيرة، تنطبق اليوم على أوضاع اللاجئين العرب في شكل عام، هؤلاء الذين ليسوا أرقامًا بالتأكيد، إنما عواطف وحيوات وتطلعات، هؤلاء ليسوا أرقامًا إنما آباء وأمهات وإخوة وأخوات وشباب وشابات، فيهم الطبيب والمثقف والفنان والنحات والمهندس والموظف الكادح.

في هذا الملف الذي تتبناه «الفيصل»، مقاربة واسعة ومتنوعة لأحوال «العربي» في لحظة مفصلية من تاريخه؛ إذ الأحلام بصباحات جديدة ترتد تنكيلًا ثم تهجيرًا. والهجرة هربًا من الموت لا تنتهي سوى إلى الموت. ولئن طغى حضور اللاجئ السوري في هذا الملف، فإن لاجئين حضروا أيضًا بقصصهم وتفاصيل يومياتهم التي تراوح بين الـ«هنا» والـ«هناك».


اللاجئون العرب في ألمانيا ضيوف أم أصحاب بيت؟

أسامة أمين – صحفي مصري مقيم في ألمانيا

أجلس في القطار الذي يربط مدينة بون بمدينة ساربروكن، وأقرأ في كتاب باللغة الألمانية، يصعد ثلاثة شبان وشابتان، كلهم عرب، يرتدون بنطلونات جينز، وجواكت سوداء، وكأنه زي مدرسي موحد للجنسين، باستثناء الفتاتين كانتا محجبتين، يجلسون في المقاعد المقابلة والمجاورة لي، كل واحد يحمل هاتفه الحديث، يتحدث فيه أو يكتب رسائل، عيونهم حمراء بلون الدم، ويبدو عليهم الإرهاق البالغ. بعد دقائق قليلة، يغلبهم النعاس، ويبقى واحد منهم فقط مستيقظًا للحفاظ على أمتعتهم القليلة المتواضعة.

يرن الهاتف، ويرد أحدهم وصوته مختنق من الغضب والتعب، قائلًا: «نعم ركبنا القطار الخطأ، وضاعت ساعات حتى انتبهنا إلى ذلك، من الساعة الثانية صباحًا، حتى الحادية عشرة، من قطار لآخر، نحن الآن في القطار الصحيح، لكني لا أعرف المحطة، وأخاف أن نضيع مرة أخرى…»، قاطعته وقلت له: إنني سأدله على المحطة. أنهى المكالمة فورًا، ونظر إليّ مذهولًا، وفتح البقية عيونهم، وتساءلوا في نفس واحد: «أنت عربي؟ لقد تكلمنا طوال الوقت من دون انتباه؛ لأننا حسبناك ألمانيًّا، بسبب الكتاب الذي تقرؤه، وعدم ظهور أي انفعالات على وجهك من حديثنا». أكدت لهم أني لم أنصت إليهم؛ لأني كنت مشغولًا بالقراءة. وسألتهم عما بهم، فقالوا: إنهم وصلوا الليلة الماضية، بعد رحلة استغرقت أسابيع، من سوريا إلى ألمانيا، وإن بعض مرافقيهم لم يكمل الرحلة من فرط العناء، واضطروا هم لمواصلة الرحلة بدونهم.

للمرة الأولى ألتقي لاجئين سوريين فور وصولهم، وقبل أن يذوبوا في المجتمع العربي الذي يوجد في ألمانيا منذ سنين طويلة، أدركت للمرة الأولى أن اللاجئين ليسوا أعدادًا، بل بشرًا، يحمل كل واحد منهم أحلامه، وآماله في حياة أفضل، وأن التفكير فيهم باعتبارهم مثل (الطوفان)، هو أمر يفتقد إلى الحس الإنساني. كانت معي زجاجة ماء زمزم، أخرجتها من حقيبتي، وقدمتها لهم، وطلبت منهم أن يشربوا منها، ويدعوا الله أن ييسر لهم أمورهم، فرأيت فرحة غامرة، وكأن ذلك آخر ما كان يخطر على بالهم، أن يحصلوا على ماء زمزم في قطار ألماني، لكنهم بالرغم من ذلك كانوا حذرين للغاية، إذا تحدثوا بينهم خفضوا أصواتهم؛ حتى لا أسمع. يبدو أن الرحلة القاسية التي قطعوها علمتهم ألا يثقوا فيمن لا يعرفونه.

هل كان أهل هؤلاء الشباب والفتيات سيقبلون أن يتركوهم يسافرون بمفردهم كل هذه الآلاف من الكيلو مترات في غير هذه الظروف؟ هل حرمتهم الحرب طفولتهم وشبابهم، والاستمتاع بتدليل الأهل لهم، والانتظام في دراستهم، والعيش في دارهم؟ هل يعرفون ما ينتظرهم في معسكرات اللاجئين من حياة صلفة؟ هل هؤلاء من يخاف الألمان أن يغيروا نمط معيشتهم، وأن يجعلوا من بلادهم (جمهورية ألمانيا الإسلامية)؟

ليسوا مجرد أرقام

يلقون أطفالهم في البحر، مثل أم موسى عليه السلام، ويدعون الله أن تلتقطهم قوات حرس السواحل، وتنقلهم إلى الشاطئ الأوربي، ويقولون: الموت غرقًا أفضل من الموت أشلاء جراء القنابل المتفجرة، التي تلقيها الطائرات المتوحشة، حتى إذا ما وصل الأطفال إلى هناك، وجدوا الرعاية والاهتمام، وطلبوا (لمّ الشمل)، وجلبوا آباءهم وأمهاتهم وبقية إخوتهم. ثم قررت أسر بأكملها أن تحمل أرواحها على أكفها، وتقطع الطريق بأي وسيلة ممكنة؛ لتجد من يستقبلها على محطات القطار بالترحاب، ثم زاد عددهم فغاب المرحبون، ثم زاد عددهم أكثر، فوجدوا من يسد الطريق، ويطلب منهم العودة من حيث جاؤوا، وكأن هناك بيتًا يمكن أن يعودوا إليه.

لم يعد هناك ما يشغل بال الألمان مثل قضية اللاجئين، وبدلًا من أن يتحدث الناس عن الطقس، أو السؤال عن الصحة، أصبحوا يتحدثون عن هذا الفيضان البشري الذي غطى ربوع بلادهم، وبعد أن كانت مستشارة ألمانيا، أنغيلا ميركل، أكثر السياسيين شعبية في بلادها، فقد مُنِي حزبها بخسائر فادحة في الانتخابات المحلية في ثلاث ولايات، بعد استياء كثير من الناخبين من تمسكها باستقبال اللاجئين السوريين، ورفضها إغلاق الحدود في وجههم، أو وضع حد أقصى لأعداد اللاجئين التي ستستقبلها ألمانيا، وفي المقابل حققت الأحزاب الرافضة لاستقبال اللاجئين مكاسب ضخمة. فهل يعيد المهاجرون العرب رسم خريطة ألمانيا السياسية، والاجتماعية والدينية؟

مليون شخص دخلوا ألمانيا في العام الماضي، احتل السوريون المرتبة الأولى بينهم، وقد سجلت السلطات الألمانية 377 ألف سوري في المدة من يناير إلى سبتمبر من العام الماضي، ويمثل اللاجئون السوريون في ألمانيا 5% فقط من إجمالي السوريين اللاجئين في مختلف دول العالم. فهل يشكل هؤلاء فعلًا فيضانًا يجتاح هذه البلاد؟

اللاجئونالطبيب السوري يعالج الألمان

لم يأت كل السوريين في قوارب متهالكة في عرض البحر الأبيض المتوسط، ولم يعتمدوا جميعًا على المهربين الذين دلوهم على المناطق الحدودية التي يتسللون من خلالها من دولة لأخرى، بل حصل بعضهم على تأشيرة دخول، وجاء بالطائرة، ولم يجد أي صعوبة في الدخول مثل أي سائح أو ضيف. فما الفرق بين مئات الآلاف من السوريين المعذبين الذين لا يرغب فيهم أحد، وبين القلة التي تفتح لها الأبواب؟

يقطع خطيب الجمعة حديثه، ليطالبنا بأن نتزاحم، ونضيق المسافات بين الصفوف؛ لأن عدد رواد المسجد قد تضاعف خلال الأسابيع الماضية، بعد قدوم الإخوة والأخوات من سوريا، ثم استأنف خطبته مطالبًا بأن نقدم لهم يد العون، وألا نتركهم يواجهون نفس الصعوبات التي مررنا بها عند وصولنا إلى ألمانيا، وحذرنا من الأنانية، وبخاصة أن بعضنا يقول: إن هؤلاء اللاجئين السوريين كثير منهم يملك المال في بلاده، وعاش دومًا حياة رغدة، عكس غيرهم من الذين جاؤوا من قبلهم من دول العالم الأخرى.

وما كادت الصلاة تنتهي حتى جاء صديقي طبيب الأسنان السوري الشهير، وقدم لي شخصًا آخر لم أره من قبل، قائلًا: إنه طبيب أنف وأذن وحنجرة، جاء الأسبوع الماضي من سوريا، وسيعمل في مستشفى بون، ويحتاج إلى ممارسة اللغة الألمانية، حتى يتمكن من التفاهم مع المرضى، وهذا هو الشرط الأساسي لكي يمارس عمله. اتضح أن ألمانيا ترحب بالأطباء السوريين، المعروف عنهم الاجتهاد، والمستوى العلمي الذي لا يقل عن نظرائهم الألمان؛ لذلك يحصلون بسهولة على تأشيرة دخول إلى الأراضي الألمانية، وتصريح عمل، وغالبًا يجدون وظائف في انتظارهم؛ لأن المستشفيات الألمانية دومًا في حاجة إلى أطباء. ومرة أخرى هي الحرب التي جعلت طبيبًا سوريًّا يحتاج إليه آلاف المرضى والجرحى في بلاده، يضطر إلى السفر إلى الخارج؛ ليضمن أن يبقى على قيد الحياة، وأن يكتسب المزيد من الخبرة، لعله يعود يومًا ويعالج بني وطنه، بعد أن يتخلص من المعاناة التي لم تعد تطاق.

ألتقيه في شهر رمضان، وأستمع له، وهو يتحدث عن الإفطار في بلاده، مع أفراد أسرته المشتتين حاليًا في داخل سوريا وخارجها، وكيف كانت الحياة رغدة في بيت والده الطبيب الشهير، والمزرعة الكبيرة المطلة على البحر، ثم الانتقال إلى العاصمة دمشق، بعد أن وقعت مدينتهم الساحلية في يد هذا التنظيم أو ذاك، ثم قصف الجيش السوري. كل ذلك دفعه للهجرة، والعيش الآن في غرفة متواضعة، لم يكن يتخيل يومًا أنه سيعرف هذا الصنف من الحياة.

حصل على الاعتراف بدراسته، وتصريح مزاولة المهنة كطبيب كامل التأهيل مثل أي طبيب ألماني، وانتقل من بون للعمل في عيادة في مدينة ميونيخ، صحيح أن الراتب ليس جيدًا، والمدينة غالية، لكنه راضٍ. اضطر للسكن في شقة مع شاب ألماني، وفتاة فرنسية؛ مما أغضب أهله، لكنه لا يجد بديلًا بإيجار معقول، يعد والديه أن يراعي الله في كل شيء، لكنه فعلًا مضطر، ولا يفكر فيما يغضب الله، ويضيف قائلًا: «هذا ثمن العيش في هذه البلاد!» تمر أسابيع قليلة ثم يأتيه عرض جيد بوظيفة كاملة، وبراتب يسمح له أن يستأجر شقة بدون فتاة فرنسية فيها، بل له وحده، ولزوجته السورية مثله؛ لأنه قرر أن يكمل نصف دينه، وكانت النهاية التي تبدو سعيدة، لكنه يصر على أنه لا يعرف طعم السعادة، خارج بلاده.

اتهامات وشائعات

ما إن جاءت أُولَيات المجموعات من اللاجئين حتى ارتفعت الأصوات النازية العنصرية تحذر من العواقب الخطيرة لقدوم كل هذه الأعداد من المسلمين، فقالوا: إن هؤلاء اللاجئين سينجبون مئات الآلاف من الأطفال، ويتزايدون بكثرة، حتى يصبح المسلمون أغلبية، مع أن عدد سكان ألمانيا حاليًا يزيد عن 81 مليون نسمة، لا يشكل المسلمون منهم سوى 5% فقط. كما اعتبروا أن هؤلاء المهاجرين جاؤوا من دول تناصب إسرائيل العداء؛ لذلك فإنهم سيكونون معادين للسامية، وهو أمر لا يجوز أن يحدث في بلد تسبّب في قتل ملايين اليهود في الحرب العالمية الثانية.

وجاءت تحذيرات كثيرة من أن العرب لا يعرفون كيف يتعاملون مع النساء الألمانيات، وحين وقعت حادثة الاعتداءات الجنسية على الفتيات والسيدات الألمانيات في احتفالات رأس السنة، واتضح أن كثيرين من المتهمين هم من العرب، وبخاصة من دول شمال إفريقيا، رأى العنصريون أنهم كانوا على حق، وارتفعت أصواتهم، ووجدوا من يؤيدهم.

وكتبت وسائل إعلام معادية للأجانب، أن المهاجرين الذين يدخلون بدون تأشيرات، وبدون تدقيق في هوياتهم، قد يكون من بينهم إرهابيون تابعون لتنظيم داعش، وما إن وقعت أحداث باريس، وذكرت مصادر أن بين الجناة من جاء كلاجئ؛ زادت المخاوف.

قالوا عن اللاجئين: إنهم سيجلبون معهم الأمراض المعدية من بلادهم، ولن يكونوا من المؤهلين؛ لذلك فلن يكونوا إثراء للثقافة الألمانية، كما يزعم السياسيون، بل وبالًا على خزانة الدولة؛ لأنهم سيعتمدون على المساعدات الاجتماعية، وسيطيب لهم العيش بلا عمل، ما دامت الدولة تقتطع من رواتب الموظفين الألمان لتطعم هؤلاء الأجانب، وتوفر لهم الحياة الرغدة. وعندما اكتشفت السلطات أن بعض اللاجئين يحمل هويات متعددة، بلغت في بعض الحالات عشرين هوية لنفس الشخص، يحصل بموجبها على مساعدات اجتماعية، ويتحرك بين الدول بأسماء ومستندات متعددة، بحيث يصعب معرفة هويته الحقيقية؛ غضب كثيرون، وقالوا: هل هذا جزاء ألمانيا التي فتحت لهم أبوابها؟

القضية أن نسبة هؤلاء الأشخاص الأشرار المخادعين، لا تتجاوز 1%، وهذا ما أكدته تقارير السلطات الأمنية؛ أن معدلات الجريمة بين اللاجئين أقل من معدلات الجريمة بين المواطنين الألمان أنفسهم، لكن بعضهم يصر على أن استقبالهم كان خطأ كبيرًا، ويلومون المستشارة الألمانية التي قالت: إنها لا تستطيع أن توصد الحدود أمام من ترك الموت وراءه، كما أكد رجال الصناعة الألمان أن بلادهم في حاجة لهؤلاء القادمين، وأن المكاسب التي ستتحقق من وجودهم تفوق بكثير التكاليف الحالية لمساعدتهم، وأن السنوات القادمة ستثبت ذلك.

لكن هل يتحلى الألمان بالصبر؛ ليروا صدق ذلك؟

هل يعودون؟

يقول لي صديقي الطبيب السوري: لو توقفت الحرب اليوم سنرحل كلنا غدًا، حتى ولو كانت بلادنا خرابًا، لكننا لا نعرف إلى متى ستستمر. هل يا ترى لو استمرت سنوات، وبنى كل سوري بيته، واعتاد أطفاله على الحياة هنا، هل سيعودون، أم سيبقون كما بقي اللبنانيون الذين جاؤوا أثناء الحرب الأهلية، والعراقيون الذين جاؤوا أثناء الاحتلال الأميركي، والأتراك الذين جاؤوا عمالًا بعد الحرب العالمية الثانية، واستقروا حتى الجيل الثالث، وأصبحوا جزءًا من المجتمع الألماني؟ هل سيصبح السوريون ضيوفًا مؤقتين، أم سيصبحون أصحاب بيت مثل غيرهم؟ لننتظر ونرى.


رفيق-شاميرفيق شامي يرفض العودة كي لا يصافح
أشخاصًا أيديهم ملطخة بالدماء

الأديب رفيق شامي هو بالتأكيد أشهر سوري في ألمانيا، جاء إلى هذه البلاد قبل أكثر من أربعين عامًا، وأصبح الآن أحد أهم الأدباء الألمان، ومن أكثرهم شعبية وشهرة، ألّف 62 كتابًا، عدد صفحات أحدها يبلغ 900 صفحة، وهو رواية «الجانب المظلم من الحب»، ولعله الأديب الوحيد القادر على أن يحكي قصصه من دون أن يقرأ من كتاب أو ورقة، فيبهر مستمعيه، وهو يستخدم لغة ألمانية ذات صور شرقية، جعلت الألمان يعرفون حواري دمشق، بل قرية معلولة التي جاء منها هذا المهاجر السوري. يقول: إن كل مهاجر يتملكه الحنين للعودة إلى مكان طفولته، لكنه وهم يجعل المهاجر يرسم صورة وردية لهذا المكان، حتى إذا عاد يومًا وجده غير الصورة التي رسمها له في مخيلته، وإذا تحدث مع الناس، اكتشف أنه لم يعد قادرًا على التفاهم معهم؛ لأنهم سيتكلمون معه عن أمور سطحية، لكن أحدًا لن يطرح عليه السؤال الجوهري، وهو: ما الذي جعله يرحل؟ يقول: إن المهاجر يحتاج إلى الصبر والضحك، فالضحك هو الزاد الذي يجعل المهاجر قادرًا على التحمل والمقاومة، والعيش طويلًا في المنفى، والضحك هو مصدر القوة، وهو الذي يجعل العقل منفتحًا على القضايا الصعبة.

ذكر رفيق شامي أن السفير السوري في ألمانيا عرض عليه عام 2009م، أن يعود إلى بلاده، وأن يحصل على مركز ثقافي يحمل اسمه، ولكنه رفض هذه الفكرة؛ لأن ذلك سيعني أن يصافح أشخاصًا أيديهم ملطخة بالدماء. وانتقد المثقفين المزعومين الذين يقبلون نفاق الزعماء الذين قتلوا شعوبهم، وروى ما شاهده في التلفزيون السوري من وقائع مؤتمر للشعراء، وقف أحدهم يمدح الأسد قائلًا: إن سوريا صغيرة عليه، وإنه يستحق أن يكون قائدًا للعالم أجمع، وليس لسوريا وحدها.

يرسم رفيق شامي البسمة على وجوه الألمان، ويضع مرآة أمام عيونهم؛ ليسخروا من أنفسهم، ولذلك لا نستغرب أن يصنع الأمر نفسه مع بني جلدته، وعلى الرغم من تناوله لقضايا سياسية في أعماله الأدبية، ومقابلاته الصحفية، فإنه يرفض أن يقوم بدور سياسي، ويأبى أن تستغله وسائل الإعلام؛ لكي ينشر الخوف من المسلمين باعتباره مسيحيًّا.


 مقيمون لا لاجئون سوريون ويمنيون يفضلون القاهرة على أوربا

الفيصل – القاهرة

«لا يوجد في مصر لاجئون سوريون» هكذا قالت الشاعرة السورية رشا عمران وهي تحدثنا عن أوضاع السوريين في مصر، موضحة أن مصر البلد الوحيد الذي لم ينشئ معسكرات للسوريين على أرضه، ولم يعزلهم عن أبنائه، «نحن جميعًا نعيش معًا، ولا أشعر أنني غريبة عن وطني، حتى إنني فضلت البقاء في مصر على الذهاب إلى أوربا، فمن الصعوبة الاندماج مع أبناء وطن ليس لهم نفس اللغة والتاريخ والقيم، وكل ذلك متحقق بالنسبة لي في مصر، ولا أعاني أي مشكلات سوى ما يعانيه المصريون جميعًا في حياتهم اليومية».

رشا-عمران

رشا عمران

القاهرة

لا يختلف وضع اليمنيين العالقين في مصر عن ذلك؛ إذ إنهم لا يعانون سوى غلاء المعيشة وكثرة الإجراءات الحكومية، فضلًا عن ازدحام القاهرة وضجيجها، بحسب ما أوضح ناصر الأرياني. الأرياني وهو أحد الدارسين في جامعة القاهرة، يرى أن المركز الرئيسي لليمنيين هو حي الدقي بالقاهرة، ففيه العديد من فنادق الدرجة الثالثة التي ينزلون بها في البداية، وسرعان ما يحصلون على شقة أو ما شابه عبر مساعدة أصدقائهم وذويهم الذين سبقوهم في المجيء، لكن اليمنيين لا يعملون في مهن كثيرة، وأغلبهم جاء للتجارة أو التعليم أو العمل مع أحد أقاربه في القاهرة. ومن ثم فجميعهم مرتبط بالدقي بشكل رئيسي.

سوريون يفضلون المدن الأقل ضجيجًا

على النقيض من ذلك يذهب زياد الصالحي، وهو شاب سوري في الخامسة والثلاثين من عمره، ويعمل سائقًا لتاكسي، إلى أن السوريين ينتشرون في أغلب المدن المصرية الآن، فهم يبتعدون عن زحام القاهرة وغلائها باحثين عن عمل في المدن الأقل سرعة وضجيجًا.

كان زياد قد جاء إلى القاهرة ليقيم مع بعض من أهله وجيرانه الذين سبقوه إليها، في البدء كانت القاهرة محطتهم الأولى، لكن غلاء السكن وقلة العمل المتوافر بها دفعهم للذهاب إلى طنطا، وهي مدينة إقليمية تتوسط المسافة بين القاهرة والإسكندرية، هناك عمل زياد سائقًا لتاكسي. ويقول زياد: إنه يقيم في مصر منذ عامين ولا يعرف حتى الآن عن مفوضية حقوق اللاجئين شيئًا، ولا يرى أحدًا ممن ذهبوا إليها، موضحًا أنها لا تفيد إلا في الحصول على إقامة.

وأكد زياد أن المصريين يرون أن السوريين في بعض الأحيان يزاحمونهم في فرص العمل، لكنهم لا يقدرون الظروف السيئة التي يعيشونها.

وفي الوقت الذي تكاد تنعدم فيه الأرقام عن اليمنيين المقيمين في مصر؛ بسبب توتر الأوضاع في اليمن، ورغم صدور بيان من السفارة اليمنية في القاهرة عقب بدء العمليات العسكرية في شهر مايو الماضي يوضح أن عدد اليمنيين الذين لم يستطيعوا العودة إلى بلادهم يقدر بنحو خمسة آلاف مواطن، لكن هذا الرقم لا يمكن التأكد منه بشكل واضح، ولم تعمل الجمعيات الأهلية ولا المؤسسات الرسمية على التحقق منه، إلا أن ذلك لا يدعونا إلى المبالغة؛ إذ إن المعاناة التي يلاقيها أي من اليمنيين حال تفكيره في المجيء من اليمن إلى مصر لا تجعل القاهرة وجهته الأولى.

من ناحية أخرى، تتوافر الكثير من الأرقام عن السوريين، ففي الوقت الذي قالت فيه رئيس مجلس إدارة مؤسسة «فرد» الأهلية رشا أبو المعاطي: إن ستين ألف طالب سوري مسجّلون في المفوضية، من بينهم أربعون ألفًا يذهبون إلى المدارس، وعشرون ألفًا يجلسون في المنازل بلا تعليم، فإن رئيسة إدارة المرأة والأسرة والطفولة بجامعة الدول العربية السفيرة إيناس مكاوي أكدت أن ما يقارب 350 ألف سوري يعيشون بمصر غير مسجَّلين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وأن عدد من يستفيد من المعونة المالية الشهرية الخاصة بالمفوضية هم واحد وثلاثون ألفًا فقط، يتقاضى كل منهم مبلغًا ماليًّا قيمته تراوح بين أربع مئة جنيه، وألف وخمس مئة جنيه مصري، وذلك حسب عدد أفراد العائلة التي يعولها.

انفو-لاجئون

يحرص اليمنيون ذوو الوجود الأقدم في القاهرة على التجمع بمطاعم خاصة بهم، وما أكثر المطاعم التي تحمل اسم حضرموت، مثلما تنتشر سلسلة مطاعم ياقوت الحموي السورية في القاهرة والمدن الإقليمية، لكننا في بعض المطاعم اليمنية سنجد الأواني القديمة وأنوعًا من الأطعمة الجبلية الحريفة، سنجد مناخًا يشعرنا أننا انتقلنا إلى اليمن بهضابها وجبالها، أو أن الهضاب والجبال بمأكولاتها قد هبطت إلينا.

لكننا مع السوريين الوافدين حديثًا على القاهرة، سنلحظ أنهم جميعًا في حالة انتظار للعودة، فعلى الرغم من توزعهم على العديد من الحرف والأعمال إلا أنهم لم يشعروا بعد بالاندماج الكامل في المجتمع على نحو ما حدث لليمنيين، وما زالت الغربة بادية على وجوههم، رغم أن القاهرة تبدو كما لو أنها تعيش عصرها الإمبراطوري، حيث الحضور القوي لغير المصريين، وحيث يعيش الجميع كمواطنين من دون حضور لثقل كلمة لاجئ، أو فكرة معسكر يحول بينهم وبين اندماجهم في المكان.

علي-المقري

علي المقري

يوم واحد – صالح للحياة

علي المقري

يقول الشاعر والكاتب اليمني علي المقري، الذي تمكن من الوصول إلى القاهرة قبل سفره إلى فرنسا ليتسلم جائزة هناك: إنه خرج بمعاناة شديدة من صنعاء إلى عدن، ومنها إلى جيبوتي عبر البحر، ليمر من أمام سفن القراصنة ويقيم بين جماعات متشددة في جيبوتي لمدة شهرين، شاعرًا بأن الخطر مُحدق به كل لحظة، وهو لا يستطيع الاتصال بأهله في اليمن ولا العودة إليهم، ولا حتى الخروج من جيبوتي؛ لأنه ليس معروفًا متى ستتوافر الطائرة التي ستقله إلى القاهرة. علي الذي حصل أخيرًا على إقامة تؤهله للجوء كامل إلى باريس، يحصل على دولارات عدة في الشهر من مفوضية اللاجئين هناك، ويتمنى العودة إلى القاهرة؛ ليقيم بين أصدقائه بها، لكنه يتمنى أكثر أن توقف آلة الحرب عملها في بلده؛ كي يتمكن من رؤية يوم واحد صالح للحياة.

شاورما


التغريبة الجديدة.. المثقف السوري لاجئا

نبيل سليمان – ناقد وروائي سوري


متغربونربما
لم تكن (الدياسبورا السورية) بأوجع الكلمات التي رمتنا بها سنوات الزلزال الخمس الماضية. والدياسبورا، كما هو معلوم، كلمة يونانية تعني الشتات، وقد ارتبطت تاريخيًّا باليهود، فكانت الدياسبورا اليهودية، أي يهود الشتات، بعد الزلزال البابلي عام 586 ق.م. وإذا كانت الحرب العالمية الثانية قد أنعمت على ستة وعشرين مليونًا بالتهجير واللجوء، فلم تكد الحرب تهدأ حتى كانت الدياسبورا الفلسطينية عام 1948م، والتي تجددت عام 1967م، كما أعلن ذلك العام عن ولادة الدياسبورا السورية بمن لجؤوا من الجولان إلى أرجاء سوريا بعد الاحتلال الإسرائيلي.

وإذا كان الحديث عن الدياسبورا الأمازيغية -مثلًا– يظل خافتًا، فقد تفجر حديث الدياسبورا العراقية بفضل الدكتاتورية وبفضل الحرب، حتى نيَّف عدد اللاجئين العراقيين في أرض المنافي والشتات على أربعة ملايين، لكن كل ذلك يبقى هينًا أمام هذا الذي لا يصدق من الدياسبورا السورية، وخلال زمن قياسي!

لسبب لغوي على الأقل، أفضل أن أقول (التغريبة السورية) بدلًا من الدياسبورا. تذكروا تغريبة بني هلال في التاريخ وفي الأدب الشعبي. وتذكروا المسلسل التلفزيوني السوري الموجع والبديع الذي أخرجه حاتم علي: التغريبة الفلسطينية. ولأنها التغريبة السورية، حسبي هنا أن أشير إلى ما للمثقف فيها. وقد كان أول ذلك في اللجوء أو النزوح الداخلي، حين أخذت ألتقي في اللاذقية، بأصدقاء مثقفين فارين من الرقة أو حلب. واتسعت الدائرة حين بدأ التواصل هاتفيًّا مع آخرين في طرطوس أو دمشق، قادمين من تينك المدينتين أو من سواهما: الأكاديمي والمترجم فؤاد مرعي والروائي محمد أبو معتوق من حلب، الروائي ممدوح عزام من قريته المتاخمة للسويداء إلى السويداء نفسها، الفنان إسماعيل العجيلي والروائية نجاح إبراهيم والباحث منير الحافظ من الرقة… ومنهم من كان اللقاء به في لجّة مئات الآلاف من الذين لجؤوا إلى اللاذقية، وبخاصة من حلب وإدلب، وبأقل من الرقة وحمص وحماة، مدنًا ومحافظات. وبالطبع، فقد كان لكل لقاء مرارته التي تفجرها الذكريات، كما يفجرها الاختلاف، فمن المثقفين اللاجئين داخل سوريا وخارجها من هو موالٍ أيضًا، وإن يكن فقد بيته أو ذويه أو عمله أو…!

التغريبةذكريات ومرارات

هيثم-حقي

هيثم حقي

غير أن كل ذلك يظل هينًا جدًّا إزاء ما يجري هناك، بعيدًا أو أبعد. هكذا، ما كان لي أن أصدق، وأنا أسير في شارع الحمرا في بيروت، أن هذه الطفلة أو هذه الشابة اللتين (تشحذان) من العابرين، سوريتان مهاجرتان. ثم ما كان لي أن أصدق الأمسية التي جمعتني بأصدقاء فرّوا من عنت النظام: الباحث حسان عباس، والشاعر والطبيب محمد فؤاد، والإعلامية ديما ونوس… ومن بعد ستشتبك اللقاءات والذكريات والمرارات والاختلاف، من فضاء إلى آخر. فبنعمة الهاتف والواتساب والفيبر والبريد الإلكتروني، عانقت الأصدقاء الذين عمّدت صداقتي معهم مياه الفرات في الرقة، ومنهم من تخفّى في دمشق بعدما صار مطلوبًا من الأمن، ثم فرّ من دوما حيث اختطفت زوجته، ولم يظهر لها ولمن اختطف معها أثر حتى اليوم، وكان فرار هذا الذي لقّب منذ الشهور الأولى بحكيم الثورة، إلى مدينته الرقة التي كانت الرايات السود فيها قد اعتقلت شقيقه.

روزا-حسن

روزا حسن

ومن الرقة فرّ الحكيم إلى تركيا، حيث سبقه أو لحق به الفارّون من جحيم داعش وأخواتها: ماجد رشيد العويد وإبراهيم العلوَش من كتّاب الرواية والقصة، وأيمن ناصر الفنان التشكيلي والروائي الذي حطمت داعش مرسمه ومنحوتاته في شوارع الرقة، كما اعتقلت ابنه حتى أمس قريب. ومن الأصدقاء الأكراد، هو ذا الباحث إبراهيم محمود الذي فرّ وأسرته من القامشلي إلى دهوك، ومنها زودني في سنوات اللجوء بمؤلفاته الجديدة: الجسد البغيض للمرأة، بروق: سيرة فكرية، أبراج بابل، والروائي حليم يوسف الذي سبق إلى ألمانيا، والصحفي والروائي إبراهيم اليوسف الذي زودني من ملجئه الألماني بسيرته «ممحاة المسافة».

واحة-الراهب

واحة الراهب

ومن المثقفين الفلسطينيين الذين عاشوا في سوريا –ومنهم من ولد فيها– حتى دفعتهم سنوات الحرب السورية إلى تغريبتها، كأن لم تكفهم التغريبة الفلسطينية، فالروائية نعمة خالد تطوحت من تركيا إلى ألمانيا، والقاصة سلوى الرفاعي تطوحت من تركيا إلى النرويج، أما المفكر الفلسطيني أحمد برقاوي فقد أنعمت عليّ دبيّ بلقائه مرارًا، كما أنعمت عليّ بلقاء الاقتصادي عارف دليلة، والفنانة واحة الراهب، والمخرجين مأمون البني ووليد القوتلي. وممن لم أكن أعرفهم من قبل أنعمت عليّ الإمارات أيضًا بلقاء الكاتبين إسلام أبو شكير وعبدالله مكسور.

أما القاهرة فمن نعمها الكثيرة لقاء الشاعرة رشا عمران والباحث الفلسطيني سلامة كيلة. وقد تضاعفت هذه النعمة أثناء مؤتمر الرواية في القاهرة (آذار – مارس 2015م) بلقاء صبحي حديدي الذي أربت سنوات منفاه على الثلاثين، ومثله خليل النعيمي وسلوى النعيمي وبطرس حلاق القادمون من باريس، وزادتهم سنوات الزلزال نفيًا على نفي. ولأن القائمة تطول، حسبي أن أجدد شكري لوسائل الاتصال التي تجعلني أسمع صوت صديق أو صديقة من المثقفين أو المثقفات الذين توزعتهم الملاجئ: هيثم حقي، وهالة محمد، وراتب شعبو، وسمر يزبك في فرنسا، وروزا ياسين حسن في ألمانيا، وخطيب بدلة في تركيا، وغازي أبو عقل في الكويت، ووفيق خنسة في لوس أنجلس، ومحمد جمال باروت في الدوحة، ومنذر بدر حلوم في موسكو، ومحمد حبيب في النرويج…

براءات الذمة الوطنية

وهكذا، هكذا ضرب المثقف (ة) السوري (ة) في الآفاق، الشاعر والروائي والباحث والممثل والمخرج والصحفي، ودائمًا ينبغي أن نضيف الـ (ة). ومن أولاء من ولد عمله الأول في بلد اللجوء، ومنهم من كان نجمًا قبل اللجوء، لكن سنوات اللجوء عطّلت إنتاجه. ومن أولاء أيضًا من لم يدفعه دافع من نظام أو من معارضات مسلحة إلى اللجوء، لكنه آثر الخروج، ومنهم من كان حتى بعدما زلزلت سوريا زلزالها ذا شأن في الإدارة الثقافية أو السياسية للنظام، وإذا به في غمضة عين نجمًا معارضًا، يوزع من الشاشات براءات الذمة الوطنية، وبخاصة على من لم يغادروا البلد، ومنهم من ناله ما ناله من شر النظام أو من شر الرايات السود، أو منهما معًا.

سمر-يزبك

سمر يزبك

لا أحسب أنني بحاجة إلى أن أشدد على أن معاناة أي مثقف لاجئ لا تقاس بمعاناة طفلة (تشحذ) في شارع الحمرا في بيروت، أو لاجئ في مخيم الزعتري، أو لاجئة في عينتاب… ومع ذلك، فمن مثقفي ومثقفات اللجوء من يتعالى على أولاء ويمنّن الجميع، في الملاجئ ومن هم تحت القصف أو أسرى الرايات السود، بتفضله على الجميع باللجوء. وكما يقال حقًّا: الغربة كشّافة، وتهتك الأقنعة، وقد كشف مواطن اللجوء زيف عدد غير قليل من المثقفين والمثقفات. ويبقى الرهان على مثقف (ة) لم يرتهن لبريق مالي أو سياسي، بل يصرف زمن اللجوء في الإبداع والنشاط اللذين يقربان اليوم الموعود بالعودة إلى الوطن الحر والآمن.


لاجئون يحومون حول بيوتهم البعيدة

جعفر العقيلي صحفي – عمان

لاجئون٢يأخذ تعريف اللجوء والابتعاد من الوطن المعنى نفسه تقريبًا، سواء عند شاعرة ومثقفة مثل الشاعرة السورية المقيمة في باريس مرام المصري التي تقول: «نحن المغتربين، نحوم حول بيوتنا البعيدة، كما تحوم العاشقات حول السجن؛ ليلمحن ظلال أحبتهن». أو عند امرأة شبه بسيطة مثل أم معتصم، اللاجئة في مخيم الزعتري، فمهما كان شكل اللجوء وطبيعته، فهو عندها ليس سوى «موت بطيء». أم معتصم لم تستطع أن تحبس دموعها وهي تروي حكاية لجوئها إلى الأردن هربًا من الحرب الدائرة في بلدها، فبعد مقتل زوجها في إحدى المظاهرات واعتقال ولدَيها، كان عليها أن تنجو بمن تبقّى من عائلتها: (ولدان وبنت)، عابرةً بهم الحدود مشيًا على الأقدام.

لم تكن هذه المرأة الأربعينية لتأبه بكلّ ما سيواجهها خلال رحلة الألم، فهمُّها وشغلُها الشاغل أن تنجو بـ«صيصانها» على حد تعبيرها وهي تروي قصتها. وهو ما تحقّق لها في النهاية رغم النيران المجهولة المصدر التي كانت تحيطها من كل جانب خلال الساعات الثلاث التي استغرقتها المغامرة غير المحسوبة النتائج.

أربعة أشهر قضتها «أم معتصم» في مخيم الزعتري المتاخم للحدود السورية الأردنية، وكان تحت التأسيس، متاعُها خيمة لا تقي بردَ الشتاء ولا حرّ الصيف، والقليل من الطعام.

مخيم الزعتري الذي يضم أكثر من 45 ألف أسرة غدا اليوم كأنه مدينة داخل المدينة، وبخاصة مع إطلاق آلاف المشاريع والحملات الإنسانية بهدف التخفيف من مصاب اللاجئين وخصوصًا الأطفال منهم، ومن ذلك افتتاح مكتبة «القلب الكبير» التي تضمنت زهاء ثلاثة آلاف كتاب. كما أُطلقت مبادرات متنوعة تتخذ من الثقافة والفنون وأشكال الإبداع الأخرى وسيلة للتخفيف عن هؤلاء الأطفال، وتمكينهم من التعبير عن أنفسهم، ومساعدتهم على تخطي الأزمات التي تعترض طريق طفولتهم.

الفنان والمخرج نوار بلبل الذي يدير مبادرة تحمل اسم «خيمة شكسبير»، قال: إن الهدف من «الخيمة» فتح المجال أمام الأطفال لممارسة هواياتهم في الرسم، أو حضور عروض مسرحية مستوحاة من أعمال شكسبير. كما قامت مجموعة من الفنانين من اللاجئين بإطلاق مبادرة لرسم لوحات فنية على جدران البيوت المتنقلة (الكرفانات)؛ لإكساب المكان لمسة جمالية فنية، تبعث على الأمل والفرح.

«الحمد لله، وضعنا في المخيم يتحسن بمرور الوقت» يقول الستيني أبو خليل، مثمنًا الخدمات التي تقدم للاجئين من إنشاء مشفى، ومدارس للطلبة السوريين في المخيم، ومؤكدًا أن تأسيس مخيم «مريجيب الفهود» على الحدود الشمالية الشرقية للأردن الذي يسع ستين ألفًا، خفف الضغط الذي كان يعانيه «الزعتري». عدد كبير من اللاجئين استطاعوا مغادرة هذين المخيمين؛ ليستقروا في المدن والضواحي والقرى، وبخاصة شمال الأردن ووسطه، وهو ما أتاح لهم حرية كبيرة في التنقل والعمل، وخصوصًا في مجال الأطعمة والمأكولات بمختلف أصنافها -وهو مجال اشتهرت «دمشق» به منذ القدم- حتى بات يُخيّل للمارّ من شارع المدينة المنورة في العاصمة الأردنية عمّان أنه في أحد شوارع دمشق؛ لكثرة فروع المطاعم ومحالّ الحلويات والعصائر السورية فيه، فروعٌ حملت أسماء توقد الحنين.

يحاول اللاجئون السوريون التعويض عن نمط الحياة الذي اعتادوا عيشه في بلدهم، بأن يحتفظوا ببعض العادات التي ألفوها، وشكّلت متنفسًا لهم من الضغوطات على اختلاف أنواعها، ومع حلول الربيع بدأ الكثير منهم القيام بنزهات أسبوعية تشابه طقس «السيَران» الذي كانوا يقومون به في غوطة دمشق وفي الأرياف عمومًا كل يوم جمعة، يقول اللاجئ عدنان الشامي: «مع كل هذا الألم الذي تعرضنا له نتيجة الحرب والدمار في بلدنا، وبالرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي نعيشها هنا، إلا أنني وعائلتي لا نفوّت فرصة للخروج إلى الطبيعة للتنفيس عن ضغوطاتنا».

وحملت موجة اللجوء السوري إلى الأردن مليونًا و350 ألف لاجئ يعيش 15% منهم فقط في المخيمات، والباقي في المجتمعات المضيفة، وشكلت حالة العيش المشترك بين المجتمعين الكثير من المفردات والمصطلحات من اللهجة السورية المستخدمة في الحياة اليومية؛ فبات الكثير من الأردنيين يستخدمونها، وهو أمرٌ عَزاه الباحث الاجتماعي موسى العموش إلى اندماج السوريين في سوق العمل الأردني، والقرب الجغرافي والديمغرافي بين البلدين. ويضيف العموش: «على المقلب الآخر، تنتشر اللهجة الأردنية بشكل كبير في أوساط السوريين، وبخاصة الأطفال منهم، الذين التحقوا بالمدارس الأردنية، إلى درجة يصعب معها في كثير من الأحيان، تمييز الطالب السوري عن زميله الأردني».

وبالعودة إلى السورية «أمّ معتصم» التي استطاعت أن تؤمن كفاف يومها عبر إعداد المأكولات البسيطة، فإن هذه المرأة تعدّ أسرتها محظوظة مقارنة بغيرها من الأسر اللاجئة التي لا تستطيع تأمين قوتها اليومي إلا بمساعدة أهل الخير بعدما تخلّت عنهم المفوضية، وشَحَّ عطاء أغلب الجمعيات الخيرية. وها هي تتضرع إلى الله رافعة يديها أن يكون الحل قريبًا؛ ليعود اللاجئون إلى ديارهم التي تركوها، وأن يمنّ الله عليها برؤية منزلها وترميمه بعدما رأت ما حلّ به من دمارٍ وتخريب في صورٍ أرسلها إليها جيرانها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

لاجئون٣مثقفون يواجهون صعوبات في العمل

يواجه اللاجئون المشتغلون في المجال الثقافي والإعلامي على وجه التحديد، صعوبات كبيرة في العمل؛ بسبب امتناع الحكومة الأردنية عن إصدار تصاريح عمل لهم، فيفضّل كثير منهم المغادرة دون عودة، وهو أمر أكّده الفنان والكاتب المسرحي السوري وائل قدور، موضحًا: «أتمنى ألّا يُغادر المثقفون السوريون الذين بقوا في الأردن، بمن فيهم أنا، وأتمنى أن تتم إعادة النظر في وضعهم بحيث يتم تسهيل حركتهم وتمكينهم من السفر والعودة؛ لأن ذلك مهم جدًّا بالنسبة لهم حتى يتمكنوا من المشاركة ويُصبحوا جزءًا من الصورة الأكبر». ويلفت قدور إلى أن مُشاركة المثقفين السوريين في معظم الفعاليات تواجه العديد من الصعوبات؛ بسبب القيود المفروضة على زيارة السوريين وسفرهم. وعلى الرغم من أن هناك تفهّمًا لما يبديه الأردن من تخوفات أمنية، وبخاصة تسلل عناصر من تنظيم «داعش» الإرهابي، إلا أن النظر إلى المسألة ينبغي أن يكون مختلفًا عند الحديث عن المُثقفين والفنانين؛ فاحتياجات هذه الفئة تنحصر في حصولها على صفة قانونيةٍ، وإدماجها في المشاريع الثقافية، إضافةً إلى حرية الحركة من الأردن وإليه. ويدعو قدور وزارة الثقافة الأردنية إلى «الاستثمار في الفنانين والمثقفين السوريين الموجودين، والعمل معهم على مشاريع ثقافية ضمن إطار احترافي».

وفي هذا السياق يؤكّد المخرج المسرحي الأردني الدكتور فراس الريموني أن الدولة خسرت «فرصة ذهبية» لاستقطاب الفنانين والمثقفين السوريين، على عكس ما حدث مع موجة اللجوء العراقي الأولى في التسعينيات؛ إذ استطاع المثقفون العراقيون حينها العمل بأريحية كبيرة، فأغنوا المشهد الثقافي، وأسسوا عددًا من دور النشر وشركات الإنتاج الفني، وتم قبول بعضهم أعضاء في رابطة الكتاب الأردنيين، أما الموجة الثانية من اللجوء العراقي في عام 2003م، فكانت على عكس الأولى؛ إذ كان أصحابها من ذوي رؤوس الأموال الضخمة، واشتغل معظمهم بالتجارة، لا سيّما تجارة العقارات. وجاءت موجة اللجوء العراقي الثالثة مختلفة عن سابقتيها؛ إذ غلب عليها البعد الديني، فكانت تتشكل في معظمها من المسيحيين والإيزيديين الذين هربوا بعد سيطرة «داعش» على الموصل ونينوى في شمال العراق، وكان الأردن بالنسبة لهم بلد العبور؛ إذ تمت إعادة توطين غالبيتهم في بلدان أوربا وأميركا، بعد أن أقاموا في الأردن لأشهر عدّة فقط، بحسب ما أفاد به عمر عبوي، مدير البرامج في جمعية «الكاريتاس».


مواسم الهجرة القاتلة إلى الشمال

روائي وكاتب ليبي – أحمد إبراهيم الفقيه

مواسم-الهجرةتفاقمت مشكلة الهجرة غير المقننة (ولا أقول غير الشرعية) من دول الجنوب إلى دول الشمال، في السنوات الأخيرة، ووصلت أعداد المهاجرين إلى أرقام مهولة، فقد بلغت هذه الأعداد خلال أربعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، ما يزيد عن ثلاثين مليون مهاجر، وقفزت في العقد الأخير فقط إلى رقم مضاعف أي أكثر من ستين مليونًا، أما أخطر ما رافق هذا التزايد في الهجرة فهو قوارب الموت؛ إذ لم يكن التسلل من بلاد إلى بلاد، يتسبب في هذا الموت الجماعي للمهاجرين، كما يحدث مع قوارب الموت وإحصائياتها المفزعة.

كان خطر الهجرة غير المقننة محدودًا جدًّا، ولا يصل إلى موت المهاجر أثناء عبوره للحدود، إلا عدد قليل وحالات فردية، نادرة الحدوث، مثل تلك التي جعل منها الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني موضوعًا لروايته الشهيرة التي احتفت بها السينما «رجال في الشمس»؛ إذ فقدت مجموعة من المتسللين عبر الصحراء في طريقها إلى الكويت حياتها؛ لأنها اختفت داخل خزان ماء فارغ موضوع فوق سيارة لشحن الماء، نتيجة لسوء تصرف قائد الرحلة، الذي لم ينتبه إلى دقات الرجال داخل الخزان، ولم يستطع تقدير الخطورة التي يمثلها القيظ في الصحراء على زبائنه داخل صندوق حديد.

وسجلت أعمال أدبية غربية، وبخاصة في الأدب الألماني مثل هذه الحالات الفردية، ورصد بعضها ما يتعرض له المهاجرون تسللًا عبر حائط برلين من ألمانيا الشرقية إلى الجزء الغربي من المدينة، وكيف كان بعضهم يسقط تحت رصاص الحراس، ولعل أكبر أعداد من المهاجرين في الأزمنة الماضية كانت تلك التي تسللت بشكل سري إلى أميركا عبر حدودها من المكسيك، وهي أيضًا كانت موضع أعمال أدبية أميركية.

قوارب الموت

غير ذلك فإنها ظاهرة حديثة جدًّا هذه التي جعلت الموت جزءًا من المغامرة، وجعلت الفواجع الكبيرة والمهولة التي حصلت في البحر الأبيض المتوسط، المتمثلة في قوارب الموت، تستنفر الضمير العالمي، وتفزع كل كائن يملك قلبًا ينبض، وتتصاعد الأصوات من مختلف أنحاء العالم، بل ومن قلب الغرب المستهدف بالهجرة، تطالب بوجود صيغة أكثر رحمة وأكثر إنسانية للتعامل مع الهجرة التي يسمونها خطأ هجرة غير شرعية، ويقترحون لها اسمًا آخر مثل طالبي اللجوء، أو الهجرة غير المنظمة، وأن يسعى المجتمع الدولي لانتزاعها من براثن العصابات التي تتاجر بالبشر، وهي التي تحملهم بأكداس بشرية فوق قوارب مطاطية قابلة للعطب والغرق، بعد أن تسلبهم مدخراتهم، وحوادث نصب كثيرة تحدث، يجد فيها المهاجر المسكين نفسه يدور في حلقة مفرغة؛ مثل: حالات حصلت في ليبيا، تنقله العصابة من شاطئ البحر في جزء من الشاطئ الليبي، وتضعه في جزء آخر من نفس الشاطئ، باعتباره وصل إلى جزيرة إيطالية، بينما هو لا يزال في ليبيا وقد عاد إلى المربع صفر بعد أن فقد كل ما يملك من أموال أعدها ثمنًا للحصول على الهجرة.

وتشكل بلادي ليبيا في سنواتها الخمس الأخيرة، التي أعقبت ثورتها على نظام الطغيان العسكري الانقلابي، مكانًا مثاليًّا لعصابات المتاجرة بالمهاجرين السريين، وتهجيرهم عن طريق البحر الأبيض المتوسط، فلليبيا حدود مفتوحة مع العمق الإفريقي؛ إذ هي تتاخم مناطق دارفور السودانية، وتربطها حدود طويلة مع تشاد ومع النيجر، وهذه البلدان نفسها ترتبط بعلاقات عشائرية مع بلدان أخرى تتاخمها؛ مثل: نيجيريا ومالي، وهناك حركة حرة لهذه العشائر، تسهل لعناصرها الدخول إلى ليبيا، وبخاصة بعد أن غابت الدولة، وصارت الحدود الليبية مع الجوار الإفريقي قابلة للانتهاك لضعف الرقابة، وانهيار الإدارة، وضعف مؤسستي الأمن والجيش، وانتشرت بجوار عصابات المتاجرة بالبشر، عصابات التطرف الإسلامي؛ مثل: داعش والقاعدة، وهي عصابات تستحل لنفسها ما حرم الله؛ من أجل تمويل نفسها، فدخلت هي أيضًا في تهريب البشر، وتهريب السلاح، وتهريب العملة، وتهريب البضائع الممنوعة؛ مثل: الحشيش وغيره من المخدرات، وصارت ليبيا بسبب حالة الفوضى التي تعيشها مصدرًا من مصادر التوتر في العالم، ونقطة انطلاق للهجرة غير المقننة، ومحطة للهاربين من العدالة من مجرمين وإرهابيين، وهو أمر يضع ضغطًا على أهل الحراك السياسي؛ من أجل معالجة الفراغ الذي تسبب بانهيار الدولة، وحالة الاحتراب القائمة بين الميليشيات، وهناك ضغط عالمي وجهد تقوم به الأمم المتحدة؛ من أجل وجود صيغة تؤمن نوعًا من الحل الذي يؤدي إلى قيام الدولة بكامل مؤسساتها الدستورية والأمنية العسكرية والقضائية؛ لقطع الفرصة على هذه العصابات، ومحاصرتها، وإنهاء وجودها فوق التراب الليبي.

وليبيا تعطي مثالًا واضحًا لكيف أن الهجرة غير المقننة، صارت جزءًا من منظومة الإجرام العالمي التي تدخل فيها عصابات المخدرات، وعصابات تهريب العملة، وعصابات تهريب السلاح، ثم أخيرًا عصابات الإرهاب الديني وأهل التطرف والمغالاة من أهل الجرائم الذين يتلمسون غطاء من الدين، والدين منهم براء.

مواسم-الهجرة-١

حروب أفرغت البلدان من مواطنيها

ولهذا فإن الحل لمشكلة أو ظاهرة الهجرة غير المقننة، ليس فقط حلًّا أمنيًّا، ولا حلولًا تقتصر على قوارب إنقاذ تبحث عن الغرقى وتحاول إنقاذهم، إنما حلول جوهرية، تبدأ بالبحث عن أسباب الهجرة، وتجفيف مواردها، بدءًا بإنهاء الفتن والنزاعات والحروب الأهلية، وخلق حالة من السلام في هذا الجزء من العالم الذي ابتلاه الله بحروب أفرغت بلدانه من مواطنيها، وأغلقت مصادر الرزق، وجعلت الموت يطوف في الشوارع، فكانت الهجرة عملية هروب من الفاقة، وأحيانًا عملية هروب من الموت، حتى لو كان المهاجر يعرف أنه يخوض عملية خطرة قد تنتهي بالموت؛ لأن موتًا محتملًا في البحر أفضل من موت مؤكد في شوارع مدينته.

وهناك غير الحرب والقلاقل الناتجة عن الصراعات المسلحة، الحالة الاقتصادية المتردية، وبخاصة في بعض الدول الإفريقية؛ مما يستوجب جهدًا إنسانيًّا عالميًّا لخلق نوع من التوازن الحضاري، بين شمال العالم وجنوبه، وإنشاء صناديق دعم لبعض الأقطار الفقيرة في القارة السمراء، وصناديق أخرى؛ لخلق عمل لبعض العاطلين داخل بلدانهم، وتنمية مواردهم؛ مما يمنع عنهم العوز، وينهي البطالة، التي تدفعهم إلى الهجرة، وضمان حزمة الإجراءات المطلوبة إنسانيًّا، وتسهيل قواعد الهجرة، وخلق مسارات قانونية تجعل الهجرة أقل خطرًا مما هي الآن، ويمكن لكل دولة تحصين نفسها بجملة من القوانين التي تحقق رفع الضرر عن المهاجر، وفي نفس الوقت تأمين الوطن المستهدف بالهجرة من الأزمات، والمشاكل التي تحدث بسبب هؤلاء المهاجرين.


مقابر على امتداد الذاكرة… وإسطنبول تخفف من آلام المنفى

صحافية سورية تقيم في إسطنبول

غولاي ظاظا

مواسم-الهجرة-٢قبل خمس سنوات قرر السوريون بناء وطن أفضل، وبعد خمس سنوات ما زال كفاح السوريين يدور حول الهدف نفسه بثبات وآلام كبيرة، مع دخول شرط آخر لاستمرارية الهدف الأول: البحث عن منفى أفضل، تارة عبر الانتقال من بلد إلى آخر، وتارة أخرى بتحويل الاضطرار (اللجوء إلى تركيا) اختيارًا. تركيا التي يقيم فيها قرابة مليوني سوري والذين باتوا مرة أخرى مادة تجارية في لعبة الأمم خارج بلادهم.

بين الوطن القريب والمنفى الجديد مساحة شاسعة لآلام تنهش يوميات السوريين وذاكرتهم، وحاضر مسكون بالهلع قانونيًّا ونفسيًّا. انطباعات رحلة الخروج الأولى المفترض أن تكون قصيرة، حتّمت عليهم عملية تكيّف مرهقة عبر إعادة تعريف دائم لكافة مناحي الحياة، تعريفات تتحايل على «المؤقّت» لتشمل خمس سنوات وما يأتي من بعده، وتتحايل على الديمومة حتى حين باتت مقابر السوريين ممن فارقوا الحياة في تركيا بمساحة بلدات سورية كبيرة، على أمل أن يتحول درب الآلام الذي سلكوه إلى الخارج هو نفسه طريق الحرير الذي سيعيدهم إلى الداخل. إسطنبول بهذا المعنى منفى أعاد السوريون بناء صورته لتطويعه، بحيث يخفف من وطأة شعور السوري بأنه «غريب». ويشكل البحث عن الخصائص المرغوبة للمكان موضوعًا فكريًّا، فإسطنبول بالنسبة للشاعر والكاتب علي سفر: منفى، لكن في الوقت نفسه «هذا المنفى نفسه حادث وليس اختيارًا، مثل أي شخص يتعرض لحادث ما». ويروي سفر لـ«الفيصل» بعض مزايا هذه المدينة؛ منها أنها تخفف عن المنفيّ قليلًا، «فهي مدينة مانحة للطاقة، تدفع بفتنتها إلى العقل، وتجبر الإنسان على الغرق فيها وبتفاصيلها».

العلاج بالكتابة

ويرصد الكاتب والشاعر السوري علي سفر الكيفية التي تخفف بها إسطنبول من وطأة آلام المنفى فهي المدينة «القريبة جدًّا من دمشق حيث يلمح السوري صورته في الكثير من زوايا المدينة وحاراتها ومعالمها التاريخية، ويمكن للمصابين بالنوستالجيا أن يجدوا قُوتًا لمعاناتهم، وهي المدينة التي تنقل السوري من أنموذجه الذهني، إلى شكل آخر لمعنى المدينة، يقترن بالحداثة، وإمكانية الحفاظ على التراث بالتجاور مع غزو حداثي». لا خلاف على أنّ هناك قسمًا كبيرًا من السوريين في تركيا قرروا عدم ترك المكان حتى لو أتيحت لهم فرصة الهجرة إلى أوربا، وهؤلاء بالضرورة أكثر أملًا، وأمهر في تطويع الألم، وكما يقول سفر: إن «الكتابة عن الأمكنة جزء من العلاج»، ولا تفوته الإشارة إلى أن «الأمكنة المشتهاة ليست بعيدة، وإحالاتها تقترن الآن بالموت، ولهذا يصبح التفكير بالأمكنة الجديدة هو تفكير بالحياة، لهذا ليس لدي خيار سوى أن أنتمي للمكان الجديد». وتحتضن تركيا الجزء الأكبر من المؤسسات السياسية المعارضة للنظام السوري، وكذلك أنشطة المنظمات غير الحكومية المنتشرة بكثافة في الولايات الحدودية. ونظرًا لأن فكرة العودة إلى الوطن باتت شأنًا سياسيًّا، فإن الشاعر علي سفر، مثله مثل الكثير من السوريين البارزين في الحقل الثقافي، بات يكتب في الشؤون السياسية، وهو ما لم يفعله مطلقًا قبل الثورة، فالأولوية ترتبط بـ«مسألة العودة، وكل المخططات الشخصية مبنية على مفترقات الطرق السياسية».

حق العودة

لكن انخراط المثقف في العمل السياسي يعني أيضًا ظهور خصوم جدد وقتلة محترفين أمامه، فالكاتب السوري خطيب بدلة، خرج من سوريا في عام 2012م مرغمًا بسبب النظام، وأضيف اليوم إلى سلسلة خصومه من يسميهم: اللصوص والمتطرفون، ومطلوب من جهات عدة. ومن بين العيّنة الثقافية التي التقتها «الفيصل» يعد خطيب بدلة أكثر المتأقلمين مع الحياة الجديدة في إسطنبول مستندًا في ذلك على عنصر أساسي وفرته له تركيا وهو الأمان والاحترام. ويقول: إنه قابل للتكيّف مع الأماكن الجديدة بسرعة، ويفسر ذلك بتنقله المتكرر أثناء الثورة بين عدة مدن وقرى وبيوت وبيئات، وفي تركيا عاش في الريحانية وغازي عنتاب وإسطنبول. ويضيف: «في الريحانية، حيث الحياة بسيطة والوقت طويل، أنجزتُ كتابين ومجلة كش ملك، وفتحت مشاريع أخرى. في إسطنبول أوزع الوقت القليل بين العمل السياسي، والإعلامي والإبداعي». ويعمل بدلة حاليًا على مشروع قصة طويلة بعنوان: «صعود نجم عبدالحميد الفارط».كما حاول تجربة العيش في ألمانيا، وأقام شهرين في ريف هامبورغ، لكن «الحياة في ألمانيا تخلو من المشاكل على نحو مرعب، ولذلك عدتُ إلى تركيا». لكن هل تركيا هي المحطة الأخيرة؟ يجيب بدلة بأنه قبل أيام قليلة طالب المعارضة السورية بأن ترفع شعار «عودة السوريين إلى ديارهم».

علي-خطيبالذاكرة المزدوجة

الحديث عن الذاكرة لدى السوريين المقيمين خارج بلادهم بات يشبه الحديث عن المقبرة، وبقدر المجازر التي ارتكبها النظام، يواجه السوريون آلام الذاكرة الشخصية أيضًا بمجازر من نوع آخر، فيها الكثير من المكابرة المثمرة في طرد تفاصيل «الشخص السابق» الذي «كانه». استدعاء أي تفصيل للحظات يعني عويلًا مُرًّا. الغرق في هذه الحالة كفيل بحفر خطوط على الوجه على مسار الدموع. قد يكون التفصيل المؤلم مجرد اجتماع للعائلة حول مائدة الطعام. أمام هذه الحالة لجأت الكاتبة فاطمة ياسين إلى اعتماد ذاكرة مزدوجة، كل منها في ملف مستقل مثل أي ملف على جهاز الكومبيوتر «الذاكرة الدمشقية في ملف، والذاكرة الإسطنبولية في ملف آخر». وتضيف: «توقفَ التحميل على الملف الأول، وبقي محتفظًا بالأرصفة وأعمدة الكهرباء وصياح أمّي لحثّي على الاستيقاظ المبكر، أما الملف الثاني (الإسطنبولي) فمليء بحوارات الواتساب مع دمشق وجلسات السكايب في ساعات توافر الكهرباء هناك».

عقدت فاطمة «هدنة طويلة الأمد مع المدينة الجميلة بشقيها الأوربي والآسيوي» وتحاول اكتشاف الجانب الدمشقي في إسطنبول، لكن تبقى جوانب لا يمكن تعويضها، فهنا للبحث والتناص المكاني حدود «إذ لا غوطة هنا». وما الذي أخذته منها سوريا؟ تجيب فاطمة: «الكثير من الملابس التي لم أستطع حشرها في الحقيبة الوحيدة، ومجموعة شعرية لرياض الصالح الحسين، تخليت عنها على أمل العودة السريعة لمطالعتها». ورغم الصعوبات البيروقراطية في المجال الإداري، شكّلت إسطنبول على مدار سنوات بيئةً لتقديم العديد من السوريين أنفسهم بطريقة أفضل مما كانوا عليها في سوريا، خصوصًا في مجالات إبداعية، وينطبق الأمر على الكاتبة فاطمة ياسين التي أتاح وجودها في إسطنبول ولقاءاتها مع المثقفين السوريين بأن تدخل عالم الكتابة، وتتناول مجالات السياسة والأدب في صحف عربية مرموقة.

لاج١تناقص الصحون

يبقى الموت هو الجزء الأكثر هلعًا في آلام السوريين. أن يموت أحد أفراد العائلة داخل سوريا، فتسمع خبر الوفاة عبر مكالمة أو رسالة، فيدفن الفقيد فيما أقرب الناس إليه لا يعرف حتى كيف سارت طقوس الدفن، فيكون الموت في دمشق والتعازي في إسطنبول. هذا السيناريو بات يتكرر في حياة السوريين في الخارج. والتقت «الفيصل» حالتين من هذه الفواجع: فاطمة ياسين وأيضًا الإعلامية (ولاء…) التي كان على طاولة عائلتها في دمشق صحن زائد دائمًا للضيف. وتقول: «اليوم اختفى هذا الصحن، وكذلك صحن أبي، وسُرقت الطاولة». أتاح وجود ولاء في إسطنبول خوض مجال عمل جديد في الإعلام، وتعتقد أنه ما كان لها أن تنال هذه الفرصة في سوريا. وتكتشف في إسطنبول أن الجاذبية الأرضية خفيفة أثناء سيرها في أزقة هذه المدينة مقارنة بدمشق، وهي التي كان يلاحقها وصف «النازحة الجولانية» طيلة حياتها في سوريا. هي لا تنتمي إلى هذا المكان الذي يتوسط آسيا وأوربا حيث تختبر لأول مرة «حياة الإقامات»، هنا تعيش مستأجِرة: تستأجر أسرة وعملًا ومنزلًا وأصدقاء. ومثلها مثل كل من التقتهم «الفيصل»، لم تتعلم حتى الآن اللغة التركية، وتبرر ذلك بأن هذه اللغة يلزمها عمق أكبر لتكون أخف على اللسان.

الكثيرون ممن رفضوا التوجه إلى أوربا رغم الموجة المثيرة للجدل من اللاجئين، يحصون الأيام من أجل العودة إلى سوريا. وتركيا بلد جيد للعودة السريعة كما تقول ولاء، حتى لو لم تمتلك ثمن تذكرة الطائرة، فإن خبرة السوريين في اجتياز الأسلاك الحدودية تسهل من الأمر كثيرًا، على حد وصفها. والمفارقة أن الإعلامية الشابة تخشى من فكرة أن توثَّق كلاجئة في أوربا، ورغم إقامتها الطويلة في تركيا إلا أنه لا شيء يثبت رسميًّا أنها لاجئة فضلًا عن هاجس الغرق في البحر. وتوجه ولاء نقدًا لاذعًا لمن يصوّر السوريين في تركيا وكأنهم يعيشون على حساب الرئيس التركي أو معوناته، بل ترى أن هؤلاء قاموا بضخ أموال هائلة في سوق العمل التركي، ولم يحصل السوريون إلى الآن على وثيقة عمل لضمان حقوقهم التي تتعرض للانتهاك، فضلًا عن القوانين غير السلسة بخصوص الإقامة.

خزان المياه

ولاء-فاطمةمهما بلغت درجة «السلام الداخلي» للسوريين في تركيا، تبقى الجوانب الإدارية في هذا الانتقال مبعثًا لحالة خوف وقلق وتوتر دائم، وكل فترة تصدر قوانين جديدة بخصوص السوريين لا يمكن الإحاطة بها، خصوصًا لمن لا يتقن اللغة التركية، وهي حال معظم السوريين، ومن بينهم الإعلامي مهند منصور. يكشف منصور عن غصّة يشعر بها بتركه البلد: «تركنا تاريخنا وماضينا هناك، لدي ملفات عملي القديم وبدايات مهنتي، فيديوهات وبرامج وملفات ومجموعة من الكتب، جاءت عناصر الأمن إلى المنزل ولم أكن حينها هناك، فقام أخي برمي جهاز كومبيوتري الذي يحتوي على كل هذه الملفات، في خزان المياه.. ليتني استطعت أن أجلب معي خزان المياه ذاك». الألفة مع إسطنبول «ألفة خجولة» وكثير منه ادعاء بالألفة كما يقول الإعلامي السوري. الإحساس بالإقامة المؤقتة تبرر له عدم قيامه بمتطلبات المقيم الدائم مثل تعلم اللغة التركية. بإمكان منصور الاتخاذ من إسطنبول قاعدة لنشاطه المهني، وأيضًا مكانًا للمساهمة في ثورة شعبه ضد الأسد. ويقول: إنه بالرغم من وجوده في إسطنبول، لكنه يشعر بأنه على حدود الوطن. «هنا رائحة الشرق، أما الذهاب إلى أوربا يعني نهاية حلم العودة». وينتقد منصور الذي يعمل في حقل الإعلام منذ عشر سنوات، حالة الانفلات الإعلامي في أوساط المعارضة السورية، المتحررة من الانضباط والمعايير المهنية. عن سؤاله: أين الوطن الحقيقي؟ يجيب منصور: «حيث لك أموات وطنك الحقيقي». ورغم أن الإجابة تضمر احتمالًا واحدًا، وهو سوريا، إلا أن طول إقامة السوريين في المنافي الاضطرارية جعلت مقابرهم تمتد على قارات العالم أجمع.

لاج٢جمهورية الغرق

ليس الثبات في تركيا ديْدَن السوريين طالما أنهم كانوا مادة لأكبر موجة لجوء إلى أوربا تسببت انعكاساتها بأزمة ما زالت تهدد وجود الاتحاد الأوربي نفسه. في تجربة المنافي المتعددة، يرصد الشاعر عارف حمزة نوعًا من إعادة بناء الهوية السورية في الخارج. ويقول الشاعر المقيم في ألمانيا: «حكمنا أناس لعشرات السنوات لم يجعلوا من مواطني هذا البلد أهلًا لبعضهم حتى تحدث هذه الحرب الأهليّة. ولكن كنا أهلًا لبعضنا في المنفى وخلال الغرق في البحر الأبيض المتوسط». ويحسب حمزة للنظام السوري حسنة وحيدة انعكست عليه إيجابيًّا، وهي منحه الإحساس بأنه عاش في المنفى وهو داخل سوريا؛ مما جعل خروجه إلى تركيا في الأول من سبتمبر عام 2013م «خفيف الوطأة». ويروي كيف أنه كان يحرص على الاحتفاظ بتخطيطات الرسامين من أجل الكتابة عند العودة للبلد، لكن «فجأة غادرتُ إلى أوربا وحدي. وهناك استقبلني المنفى بذراعين واسعتين. وظلّ صاحبي الصامت في كلّ مكان. حتى إنّه يُشغّل المنامات التي عليّ رؤيتها هنا وأنا أتقلّب في سرير نام عليه شعب كامل من منبوذي هذه الأرض». لم ينقطع حمزة عن كتابة الشعر سواء في تركيا أو ألمانيا رغم أنّ استدراج ما تخلى عنه سابقًا إلى الأماكن الجديدة صار أمرًا مريرًا. ويوضح ذلك بالقول: «لم يتغيّر عليّ شيء بالنسبة لكتابة الشعر. هناك صور جديدة حولي؛ نعم، وعمران وطبيعة وحجارة سميكة بسبب الحياة، ولكن لا أفهم معاناة الناس الذين يسكنون هذه البلاد، لا أعرف قصصهم، ولم أنجح في مراقبة حياتهم الخفيفة. ليس هناك كلمات جديدة أحصل عليها حتى الآن، بقدر ما صارت كلماتي القديمة تعيش حياتها هنا أيضًا، ولكن بروح قد تبدو مغايرة». يرسم عارف حمزة مشهد عودة السوريين كما يتمنى بصورة شعرية: «أنْ يعودوا في نفس اللحظة إلى داخل البلد البعيد. أنْ يدخل فجأة خمسة ملايين شخص دفعة واحدة؛ لرفع أنقاض هذا البلد الوحيد».


أنظر بشجن إلى البصرة من منفاي الدنماركي البعيد

دنى غالي

روائية عراقية تقيم في الدنمارك

البصرة-٤ليس هناك من خيار على الدوام في القرار. وهي لم تكن هجرة ومصطلح «المغتربين» جاء لاحقًا. حين وجد أبي نفسه مرغمًا على ترك العراق في عام 1979م من ضمن المئات والآلاف الذين لاحقتهم سلطة البعث، ولم تترك للكثير منهم فرصة حتى لتوديع أحبتهم اختار أبي الكويت. إنها على الحدود، قريبًا من مدينته البصرة، المسافة قصيرة، والمشوار لا يتجاوز الساعتين. فكر حينها أن الأمر لن يتعدى ربما شهورًا ويعود، والوعد الذي كان يردده يوميًّا بالنوم على سطح البيت من جديد، دام لأكثر من ثلاثين سنة. طبيعة المناخ في الكويت لا تسمح بتحقق الحلم البسيط، (ولا أظنها تسمح اليوم في العراق كذلك). ولم يكن هناك من خيار في مواصلة الرحلة من مكان إلى آخر حتى الاستقرار في دولة من دول المنفى.

عشرات النصوص والأغاني والجلسات التي جمعت الفنانين والرسامين والأدباء كلها كانت تبكي الوطن. كل ذلك اختلف اليوم فقد وجدنا أنفسنا بحاجة إلى تعريف جديد لأنفسنا. ذلك الحلم البعيد تحقق ولكن ما الذي تغير، ذلك التوق والشعور بالنفي وفكرة الحرمان من الوطن صار محض اختيار الآن ولكن… حدث خلل عظيم في واقع الأمة بغالبها، والتجارب تعددت وتباينت من شخص لآخر، ومن عائلة لأخرى، على اختلاف المنابت والأديان والمذاهب واهتمامات دول العالم الكبرى بنا. ما الوطن؟ ما الانتماء؟ وجلدك هل تسلخه لتتجدد وتنفض عنك ما تكلس وسكن القمل بين حراشفه، أم تحافظ عليه لئلا تفقد توازنك وتتهاوى في مكانك؟

البصرة-١السياسة تسري في عروقنا

اختلفنا فيما بيننا؛ كاتبات وكتّاب، اكتشفنا أن السياسة تسري في عروقنا، وصرنا متخصصي تحليل جغرافي سياسي اجتماعي إثني سيكولوجي. مع دخول الأميركان أو ضده، مع المحور الروسي أو ضده، ولاية الفقيه والتكنوقراط، والتوقيع على عشرات البيانات، والانضمام إلى عشرات المنظمات، والمشاركة في التظاهرات. انفجار في المحطات الفضائية والصحف الإلكترونية، ومن ثم حلّت سيول وسائل التواصل الاجتماعي حتى أغرقتنا تمامًا في وحول التطرف والتخوين والتقسيمات. انتشرت الأمراض، وصرنا بانتظار اكتشاف لقاح يقضي على وباء نشعر بعجز تام عن مقاومته.

رحنا نكتب عشرات الصفحات في تأملنا لتلك البقعة من مكاننا في المنفى، بعضنا تمرد على مرجعياته، والآخر واصل على خطاها. الأدب كان الوعاء الذي احتوى نزفنا، وقيحنا، ودموعنا؛ امتزج كل ذلك بخيوط من مرابع الطفولة ونقائها؛ نخيل، وأنهر، وأسماك، وصديقات، وأصدقاء، وجارات، وجدات. إنها بكل ما فيها بمنزلة لحظات صفاء نادرة، مراجعة وتوثيق إنساني حقيقي لزمن متسارع غريب، لا يمكن اللحاق بإيقاعه مع كل المتغيرات التي تحدث خلاله. الأدب هو المرآة والآلة الصادقة لتسجيل ما مررنا به، وما زلنا نمر به.

البصرة-٢من أنا؟

وأنا ما الذي حاولت قوله في كل ما كتبت؟ أين كنت حين كتبت ما كتبته؟ من أنا؟ الكاتب الروائي العراقي والباحث سلام عبود يرى أني «أنظر إلى المنفى المزمن من بصراي التي لم أفارقها قط»، والكاتب والقاص العراقي محمد خضير يراني «أنظر بشجن إلى البصرة من منفاي الدنماركي البعيد». في المنفى تصدعت الصور، وذهبت بجزء كبير من براءتنا، ولكنها يقظة لا بد منها لنقع على الخلل المشترك الذي نشكو منه. يدٌ تضرب على يد بجسدٍ واحد، أذنٌ تكذب أذنًا في ذات الجسد، عين ترى الجمال، وأخرى ترى الزيف لا غيره، والقلب موزع، يواصل في جسد، ويعلن اعتزاله في آخر. ولكني كما الحياة التي تبدأ بحلم أود أن أختم بحلم، أن أكتب رواية حب خالصة. لست معنية بالتاريخ في ماضيه ولا حاضره، هذا الكره والحقد في العالم، لا أحب مرأى الدم، وشبعت من الأخبار العاجلة السيئة. لن أكتب عن الحرب بعد ذلك، لن أكتب عن المنفى، سأكتب من مكان متخيل حيادي لا جذور لي فيه، ولا هواء مشترك. أن أكتب بقلم قادر على مسح كل المعلومات المدرجة في هويته.


 

 

 

 


 

اللجوء في حياة الفنانين الشباب.. أسئلة الحنين والحريات

صهيب أيوب – صحافي – باريس

احد-اعمال-ايبيإيبي ويوميات الهجرة القسرية

حين غادر المصور والمخرج اليمني إيبي إبراهيم صنعاء، كانت وجهته باريس. قضى ثلاثة أشهر في إقامة فنية داخل مبنى «سيتيه دو آرت». لم يفكر يومها أن يمنه السعيد سيتحول إلى جحيم. كان كل شيء يبدو طبيعيًّا إلى أن حطّ رحاله في برلين، واندلعت الحرب. فكر مليًّا بالعودة، وبصوت عالٍ شارك رفاقه هذا الهم. كانت النصيحة بأن يبقى حيث هو اليوم. بعيدًا من ألم صنعاء، الذي يحمله كهواء ثقيل في يوميات هجرته القسرية.

يتجاوز إيبي بصعوبة مشاعر الحنين والخيبة المباغتة في مدينة باردة. لا تشبه بشيء صنعاء التي عاش فيها طفولته ومراهقته، قبل أن يتعلم في الولايات المتحدة، ويقرر استخدام «فعل الفن» في مكان تنغلق فيه سبل الحياة والتجربة الحرّة بما فيها من آفاق لفنان شاب وثائر. يقول إيبي: إن قرار عدم عودته كان صعبًا، ولم يفكر يومًا في أن يغادر مرسمه الواسع وسط «الحي السياسي» في صنعاء؛ ليتركه منهوبًا لعصابات الحرب والقتلة الجوالين. إلا أن الحرب تفرض مسارات أخرى، وهي على قدر ما تؤلم ناسها، تكون «مضاعفة» على الفنان نفسه. فتشكيل الحياة ويومياتها، والعيش في زمنين ومكانين، يخلق في الفنان عوالم هشة.

يتعامل إيبي مع حياته بشيء من الخفة. كأن يبادر إلى تزيين جدران غرفته بأقمشة يمنية، أو يعدّ طبقًا تقليديًّا، أو يحتسي القهوة العدنية، ويستمع إلى أغنيات فيروز. كل هذا لا يخفف من وطأة الغياب، ولا يؤنس الوقت، إلا أنه يمرر جزءًا من الشوق. لكن ما يدفعه إلى التفاؤل دومًا أنه يمارس هنا فنه بكثير من الحرية. «الحياة تمنحك هنا الحرية الكاملة»، وفق ما يقول في مقابلة مع مجلة «الفيصل». إلا أن هذه الحياة «ناقصة»، وتكبر في الفنان «هوّة» صارخة، بين انتماءات عدّة، ومشاعر صاخبة، تحل في ثيمات أعماله. فالحرب وهولها وهوامشها عوالم حاضرة في أعمال إيبي، الذي يرى أن مشاركتها للعالم عبر أعمال بصرية وتشكيلية وتجريبية أمر في غاية الأهمية. «اليمن حاضر في كل أعمالي. وهو بالنسبة لي ليس وطنًا أو جنسية بل هو صديق. صديق يعاني؛ عليَّ مساعدته بكل الطرق الممكنة والموارد المتاحة». ويضيف أن صعوبات كثيرة واجهته، وتواجهه في مكانه الجديد، إلا أنها تشكل فرصًا، عليه اقتناصها ليتحدى نفسه، «أريد أن أجعل اليمن فخورًا بي، فخورًا بما أنتج عنه. إني أحمل اليمن في كل أعمالي وعروضي».

لج-ف-٢١مغني الهيب هوب

لم تكن رحلة اللجوء بالنسبة لمغني الـ«هيب هوب» السوري خيري البش، المعروف بـ«وتر» شاقة بطبيعة الحال، كما يحصل مع معظم الهاربين من الحرب. هو لا يصنف نفسه هاربًا؛ إنها الوجهة الاضطرارية، التي تحمل معاني القسوة، لكنها ليست هروبًا. كانت بيروت إحدى محطات خيري ومكان تألقه وتجريبه كتابة الأغاني والأداء. يومها كانت بيروت لفنان سوري آتٍ من زمن المذبحة السورية، مكانًا أنيسًا لخوض غمار تجربة في مخاض الـ«أندرغراوند» العربي، قبل استقراره اليوم في فرنسا. تجربة انتقل فيها «وتر» باستعجال بين مسارح وأرصفة تضج بالثورة وأفكارها. يومها كانت الثورة السورية جزءًا من محاكاة جيل شاب، إلا أنها أيضًا غربة من نوع آخر.

أسس خيري فرقة «لتلتة» مع صديقين له، أحدهما ما زال في الفرقة، ويلقب بـ«أبو كلثوم». وبدأت هذه الفرقة تنتشر منذ عام 2011م، وكانت السياسة أهم ثيماتها. «حين بدأنا لم نكن منخرطين، أو نهدف للانخراط في الثورة أو السياسة، لكن الهيب هوب هو في الواقع مجاراة للسياسة وانتقاد واقعها». وحين قرر اللجوء إلى فرنسا، كانت لحظة ثابتة وحتمية. فبيروت والقوانين المجحفة فيها بحق السوريين اللاجئين وعدم تجديد إقاماتهم، سبب رئيسي لهجرة معظم الفنانين السوريين إلى بلاد أوربا. وجهة «وتر» الاضطرارية، لم تتضح مساراتها بعد بالنسبة له؛ «لأني جديد ولم يتعدّ وصولي أشهرًا فقط. لكن ما هو واضح بالنسبة لي هو صعوبة التواصل مع الناس هنا عبر الموسيقا؛ لأن الكلام الذي أكتبه هو عربي لهجة ولحنًا أيضًا. ومغزاه يتناول حكاياتنا وغضبنا نحن، إضافة إلى أن وجودي داخل الحدث السوري وفهمي له وفهم معاناته يختلف تمامًا عن نظر الفرنسيين له ولقصة ثورتنا وقضايانا». أما بالنسبة للجوء، فنظرة خيري تختلف كثيرًا عن معظم الفنانين، الذين يرون أن أثر اللجوء مختلف عليهم. يقول: إن «الفنان هو إنسان عادي. لكن الفرق أن الفنان قادر على التعبير وتوضيح وتفصيل الأمور والتحدث بلسان الناس العاديين. وهذا ما يخلق جمهورًا يستمع إلى الكلام والموسيقا. ولكن الإحساس باللجوء أو الغربة الإجبارية هو شعور واحد ومشترك لدى كل اللاجئين».

انشطار «الأنا» بين «هنا» و«هناك»

يبدو أن تجربة المنفى والعمل الفني والأدبي المرتبط بها، تستدعي الوقوف على حافة اللاحسم، بين أن تحضر «هنا» في الجغرافيات الجديدة وبين الـ«هناك» الماضي والجغرافيات التي تتحول إلى ذاكرة متخيّلة. فبالنسبة للمسرحي والكاتب السوري عمار المأمون، الذي يعدّ كتابًا عن «أنطولوجيا الدكتاتور»، ويعمل على كتابة أعمال مسرحية باللغة العربية، ترتبط صعوبات اللجوء، بـ«المنتج الفني والمسرحي»، وهو ما يستدعي إعادة التفكير بالتجربة الذاتية نفسها، فالـ«أنا» تنشطر بين «هنا» حيث «المركز»، حيث تغيب الخبرة بطبيعة عمل المؤسسة الثقافية والفنية (بغض النظر عن انتمائها)، و«هناك» جغرافيات الصمت والعنف، والأهم ما يرتبط بتلقي المنتج الفني (الأجنبي – المهاجر) بوصفه فانتازيا في الكثير من الأحيان.

عمار-المأمونيقول عمار، الذي انتقل منذ عام تقريبًا إلى باريس: إن المنتج الفني بخصائصه الفنية يتداعى، ويتم تجاهله أمام مفهوم «الشفقة». الرؤية المرتبطة بـ«الغريب» بوصفه مهمّشًا يختزن فانتازيا إلى جانب تراجيديا جبل عليها. لهذا يتم النظر إلى صاحبه بوصفه قادرًا على الإنتاج، بل وإثارة الإعجاب، الموضوع حساس لكنه منتشر بكثرة».

ولا ينكر المأمون، الذي يعدّ من أبرز الأصوات السورية جرأة ونقدًا، ويملك كتابة شابة ومطواعة في المسرح والنقد الأدبي، أن الأبواب والقنوات الجديدة «مفتوحة» أمام المهاجر، لا تقدر بثمن، صحيح أن أنظمة المؤسسات في الـ«هنا» أيضًا خاضعة لسياسات وأجندات، لكن لا يمكن إنكار خبرتها التاريخيّة».

ويوضح المأمون، الذي عاش طوال حياته في دمشق، واشتغل في مسارحها ثم عمل في الصحافة البيروتية كناقد فني وأدبي، وانتقل إلى الصحافة الدولية، ونشرت له مقالات مترجمة في «لا كورييه إنترناسيونال»، أن «المنافي ترتبط أيضًا بحالة من الانعتاق والتحرر من قيود الذاكرة. الانعتاق مما مضى، من الـ«هناك»، هو تجربة تحرر للأقصى، الذاكرة تتحول لمتخيّل، لتجربة سردية. تتلاشى النظرة الرومانسيّة في التعامل مع الماضي؛ لأنها محكومة بالخيال لا بالتجربة الجغرافية».

ويؤكد المأمون، الذي يسكن اليوم في شقة صغيرة في باريس، ويقضي وقته بين الكتابة والاستماع إلى موسيقا «الجاز» و«الأوبرا»، ومتنقلًا بين مسارح المدينة وعروضها، أن «تجربة المنافي والرحيل ترتبط بالجسد، بالتجربة الفيزيائية داخل جغرافيات جديدة، لا ذاكرة سابقة عن المكان، وإعادة تكوين لعلاقات جديدة مع المكان لتكوين الذاكرة، لتكوين حساسيات جديدة، هناك قطيعة لا بد منها مع الماضي، لا بد من انتصابات جديدة، إعادة تكوين لحساسيات مع المكان، لا يعني هذا النسيان، يعني إعادة تكوين حضور جديد».


ربيع بيروت الثقافي يصنعه لاجئون سوريون

رنا نجار – صحافية لبنانية – بيروت

يبتكر اللاجئون السوريون في لبنان حياة جديدة مواجهين الموت والمنفى والتيه، باحثين عن ذات جديدة، وعن عمل جديد، وعن وطن قد يكون مؤقتًا وقد يصبح بديلًا! بيروت ودمشق اللتان طالما تقاسمتا الهموم والمعاناة والقضايا السياسية نفسها (كما طرابلس وبعلبك وصيدا وشتورا وحلب وحمص ومدن الساحل السوري) تواجهان اليوم الموت معًا. لكن للثورة واللجوء السوريين فضل على بيروت اليوم، على عكس ما كانت دمشق وسوريا عامة مدينة لمناخ بيروت الديمقراطي والثقافي الحرّ في رفع صوتها «المخنوق» عمدًا لعقود طويلة.

لبنان الذي يستضيف اليوم، بحسب الأمين العام للأمم المتحدة، أكبر عدد من اللاجئين في العالم بالنسبة إلى الفرد الواحد، فيه اليوم ما يربو على مليون لاجئ مسجّل فقط. وهناك تخمينات تقول: إن في لبنان نحو مليوني سوري، من مقيم وعامل ولاجئ ومقيم مؤقت. وهذه القضية التي تثير مخاوف الدولة اللبنانية وبعض الأحزاب العنصرية، أدت إلى خوف البعض من هذا العدد الهائل من البشر الذي يحتاج إلى مأكل ومشرب ومسكن وطبابة ومدارس في بلد يفتقد فيه مواطنوه أدنى حقوقهم المدنية والصحية والمعيشية عامة. لكن اقتصرت اعتراضاتهم على تعليقات هنا وحركات هناك. فلبنان كان ولا يزال أرضًا خصبة لاستقبال اللاجئين مهما كانت جنسيتهم، وليست تلك العنصرية التي يمارسها البعض على الشعب السوري إلا «حركات صبيانية» يحرّكها أحزاب وسياسيون لمآربهم الخاصة ويستثمرونها لحساباتهم الشخصية.

غلاف-ألبوم-أرض-السمك-لهاني-السواحروح بيروت وفراشاتها

بينما على الصعيد الثقافي، يختلف الأمر تمامًا؛ إذ عرف المثقفون اللبنانيون أن زملاءهم السوريين هم روح بيروت وفراشاتها التي تزيدها رونقًا، فحضنوهم وأسسوا معهم مشاريع ثقافية رائدة. لكن المشكلة تكمن في الدعم الرسمي لهذه النخبة السورية التي تحتاج أيضًا إلى مسكن ومأكل ومشرب وحماية من الموالين للنظام السوري، ولا ننسى أن الفنانين والكتاب كانوا مدعومين من الدولة في سوريا بشكل أو بآخر، أما في لبنان فالثقافة هي مبادرة فردية محض. على الرغم من كل ذلك، وخصوصًا التهديد الأمني للمثقفين السوريين المعارضين، فقد بقيت بيروت ملاذهم المفضل، إلا في حالات معينة. فبيروت باتت مختبرًا رئيسًا لتفاعل ثقافة الشتات السورية؛ إذ احتضنت المسارح، وصالات العرض، والتظاهرات الموسيقية، وشركات الإنتاج الدرامية، والفنانين السوريين الذين أضافوا إلى المشهد الثقافي اللبناني نكهة ذكية تفاعلية، حرّكت الساحة. في البدء لم يتأقلم الفنانون السوريون، وغالبيتهم من الشباب، مع الجو الثقافي اللبناني، لكن سرعان ما اندمجوا فيه، وأغنوا فضاءاته، مفضلين الإقامة في ديار الجار الذي يفهم لغتهم وإن اختلفت أحيانًا وجهات النظر والمواقف السياسية مع بعضهم. وهنا نتحدث عن جيل الثورة الذي أتى حاملًا رؤاه وأساليبه عاكسًا نظرته إلى الواقع، في أعمال تشكيلية لتمام عزام وفادي اليازجي وسبهان آدم وياسر صافي ومحمد عمران على سبيل المثال، وأعمال موسيقية، مثل: مغني الراب هاني السواح، وفرقتي «طنجرة ضغط» و«لتلتة»، وأعمال مسرحية لوائل قدور، ومحمد العطار، وعبدالله الكفري، ويامن محمد، وأسامة حلال، وأمل عمران، وغيرهم كثر.

الدراما اللبنانية ونكبة السوريين

في لبنان جار «الرضا»، خلطت الأزمة السورية الأوراق في الإنتاج الثقافي كما في السياسة. وعلى نقيض الفوضى والتوترات الأمنية والاقتصادية والتهجير والفقر والانقسامات التي تحدثها السياسة، يأتي الإنتاج الثقافي اللبناني- السوري المشترك (مسرح، وتشكيل، وسينما، ودراما، وبرامج تلفزيونية، وموسيقا) بعد الثورة، إيجابيًّا. ومما لا شكّ فيه، أن الدراما اللبنانية التي تعاني أزمات تشرذم عِدّة، منذ سنين طوال، هي الأكثر استفادة من «نكبة» الدراما السورية المتأثرة بالأزمة السياسية والأمنية. فنزوح ممثلين ومخرجين وعاملين في الحقل الدرامي السوري إلى بيروت، أَثرى هذا القطاع الذي كاد يموت قبل ارتفاع أسهمه مع مسلسل «روبي» اللبناني- السوري- المصري المشترك. وهذا الثراء، وإن كان تأثيره محدودًا، استطاع انتشال المسلسلات اللبنانية وردّها إلى حلبة المنافسة مع «لو»، و«الإخوة»، و«لعبة الموت»، و«روبي»، وغيرها.

في عامي 2015 و2016م كان التأثير مضاعفًا مع أعمال مشتركة تحصد جماهيرية عالية، مثل: «تشيللو»، و«24 قيراط»، و«العراب» بنسختيه، و«بنت الشهبندر»، و«درب الياسمين»، و«عين الجوزة»، وأخيرًا «سوا». وبهذه الحالة، بات من غير المنطقي تصنيف غالبية المسلسلات التي تُصوَّر في لبنان، على أنها لبنانية محض أو سورية محض. فمسلسل «غدًا نلتقي» لرامي حنا الذي تربّع على عرش المسلسلات العربية في شهر رمضان الماضي؛ لأنه الأكثر صدقًا وتجسيدًا للتغريبة السورية، يُصوَّر في بيروت مع فريق عمل لبناني- سوري مشترك، وإن كان الممثلون كلهم سوريين. من هنا، تأتي «وحدة المسار والمصير» متلاحمة بين البلدين على الصعيد الدرامي، ولصالح لبنان، ربما، من حيث تحريك سوق الدراما، وإيجاد فرص عمل أكبر للتقنيين والمصورين والمديرين الفنيين، هذا ما عدا استفادة الممثلين اللبنانيين من خبرة السوريين الذين لمع نجم مسلسلاتهم عاليًا.

ولكن، في النهاية لا بدّ من الإشارة إلى أن الفنان أو المثقف أو المناضل يبحث أيضًا عن مستقبل أفضل، وعن الأمن والأمان، وعن المستوى المعيشي المرفّه؛ لذا كان لبنان لهؤلاء صعبًا وقاهرًا، فقرر جزء منهم «مكرهًا» كما يقول المسرحي محمد العطار، ترك لبنان؛ للبحث عن ملجأ آمن يحترم الإنسان وحقوقه ويؤمّن له دعمًا ماديًّا ومعنويًّا لمشاريعه الثقافية. ولا ننسى أن لبنان محطّة مؤقتة لجزء كبير من السوريين، وليس للمثقفين فقط.

هاني-السواحهاني السواح مغنٍّ يستثمر اللجوء

ليست بيروت أفضل مدينة للاجئين، لكنها قد تكون فأل خير، أو قد تعطي مساحة إيجابية لإنتاج مشروع فني أو ثقافي. هاني السواح الذي نزح من سوريا، اختار بيروت لتكون ملجأه بغض النظر عما يعانيه أبناء بلده هنا من عنصرية أو معاناة. هاني السواح (الملقب بالدرويش) هو مغني راب، ومهندس صوت، وشاعر يكتب أغاني وقصائد بالمحكية السورية. صدر له أخيرًا ألبوم بعنوان: «أرض السمك»، كتب عنه النقاد والموسيقيون بإيجابية عالية، ويمكننا القول: إن هذا الألبوم الذي طُبخ وسجّل في شوارع بيروت، رسّخ اسم هاني السواح كفنان موهوب في عالم الراب أو الشعر الشعبي والإيقاع. وهو الألبوم الأول لابن حمص التي استفزت ثورتها موهبته المكبوتة، ونقلته كتابة شعاراتها من طفل غاضب إلى ناضج يعرف كيف ومتى وأين يصرّف هذا الغضب، ليؤلف منه أغنية، ويوصل هواجسه إلى الناس. السواح الذي ترعرع في جوّ عائلي ملمّ بالثقافة والأدب، يلجأ إلى الشعر الشعبي والإيقاع؛ لوصف الأحداث السياسية والاجتماعية السورية المتسارعة، ونقدها بلغة شخصية حميمة، تنطلق من الأنا لتصل مع موسيقا اللبناني مازن السيد (الراس) إلى النحن والهُمْ وكلّنا…

مجلة «الفيصل» التقت السواح بوصفه نموذجًا ناجحًا للاجئ ومثقف سوري لم توقفه الحرب ولم تكبّله بيروت. عن الاندماج يقول: «أنا لا أعتبر نفسي مندمجًا مع المجتمع اللبناني، ولا أعتبر أن «الدمج» هو ما نبحث عنه، فهو ما يحدث عندما ينوي الـ«لاجئ» البقاء في البلد المضيف، وعن نفسي أنتظر الفرصة المناسبة لأعود إلى سوريا في أقرب وقتٍ ممكن». ويضيف: «في بيروت مؤسسات تحاول دعم الفن المستقل بغض النظر عن جنسية الفنان. فإيجابيات الوجود في بيروت هي المساحة التي تمنحها هذه المدينة لمريدي الإنتاج».

يعمل السواح إضافة إلى الفن خبير صوتٍ مستقلًّا للسينما والتلفزيون، وهذا ليس ثابتًا، قد «ألجأ أحيانًا إلى وظيفة ثابتة بأجرٍ ثابت». أما عن الدعم المادي للغناء والكتابة، فهو كما يفيد، «في الأحيان الكثيرة يكون من حسابنا الخاص، وأحيانًا تُقدم مؤسسة دعمها أو مساهمتها كما فعلت «آفاق» مع ألبوم أرض السمك حين ساهمت بالإنتاج».

ولكن هل تعتبر أن بيروت أعطتك شيئًا إيجابيًّا، أو مناخًا ما لتنتج ألبومًا، وتشارك في إنتاجات وأغنيات راب مع غيرك؟ يجيب السواح الوسيم والهادئ: «طبعًا، إيجابيات الوجود في بيروت هي المساحة التي تمنحها للذين يريدون أن يكونوا منتجين وأن يعملوا بجدية». من ناحية، هل يشعر بالحزن من مجرد وجوده هنا في بيروت، وهل يواجه عنصرية؟ بصدق يجيب السواح: «لستُ حزينًا، فالأصدقاء في بيروت أكثر من العنصريين، وتعرّضت فيها للدعم النفسي والمعنوي من أشخاص أكثر مما تعرّضت للعنصرية، لكنني من المحظوظين القلائل، وبرأيي هذا السؤال جوابه بديهي في دولة وزير خارجيتها جبران باسيل يحمل راية الخطاب العنصري ليرميه على أي منبرٍ يقدم له».

جملة هاني السواح الأخيرة كفيلة لتوضح الفرق بين احتواء الشعب اللبناني ومثقفيه للسوريين، وبين السياسة أو بعض السياسيين الذين يستغلون أي قضية لصالحهم الشخصي. لكن بيروت تبقى هنا بالقرب من الشام لتقول: لا للعنصرية، ونعم للحرية وللعودة إلى البلد الأم الذي قد يبدو مشهده أيضًا صعبًا وبعيدًا، إنما نحن محكومون بالأمل.


الرقة..جنازة مؤجلة على ضفاف الفرات

رحب علواني

كاتبة سورية

رحبتسري ببطءٍ مثلَ أمواج الفراتِ جنازةٌ، لا قومَ فيها يحملون النعشَ، بل في النعش أحياءٌ وأمواتٌ معًا، أكفانهم سوداءُ كالحةٌ كإعتام الدجى والنعشُ يجري سابحًا وكأنه طيفٌ على متنِ السحابْ. نعشٌ بحجمِ مدينةٍ برمٌ بثقلِ حمولتهْ.. مَرآه يعصِرُ قلبكَ المكلومَ عصرًا، يستبيحُ الفائتَ المَنسيَّ يوقظُه ويخطو فوقَ أوتارِ المُسجّى بالغيابْ. في النعش رأسٌ يستغيثُ بصوتِ نايٍ مختنق، يرنو إلى أشباهِهِ، يستنهضُ الأنغام من نومٍ عميقٍ يستفيقُ الدفُّ يضربُ لا صدى يأتي ولا لحنٌ يجيب.. وربابةٌ من جلدِ ظبيٍ تنتحبْ، تتوسلُ القوسَ الضريرَ لينفضَ الحزن المغشى من غبار الوقت أو ليعانق الأوتار والصوتَ الغريب.

ترنيمةٌ بدويةٌ ثكلى تناجي الليلَ يا ليلَ الفراتِ ألا استجبْ! جسرُ الرشيدِ هناك في أقصى اليسارِ تقطّعت أوصاله و«الزّلُّ» يغفو تحته سكرانَ معقوفَ النهاية ينحني ليغازل الماء المعكّر تحته من ضربِ أقدامٍ فتيّة.. يبدو وحيدًا خارج السربِ الحزين كأنه لم يدر أن الموت قد ترك الجناةَ الجاثمين على صدورِ الحقّ واغتصبَ الضحيّة.

في مركز النعش المُسجّى ساعةٌ قد أعلنت إضرابها عن رصد دقات الزمنْ.. إذ أدركت أن الوجوه تبدلت وغزاة هذي الأرض قد جمعوا ليغتالوا الفرات وبنتَهُ، فتسمّرت في قلبِ ساحتها معاندةً جحافل حقدهم، مختارةً وجه السماء كشاهدٍ يأبى الرضوخ لسلطة السيف الملطخ بالدماء.

وأنا هنا وحدي على ذاتي أصلي يا أبي.. فجنازتي لا إنسَ فيها، مثلَ نعش مدينتي، والصورةُ اكتملت بلا ملحٍ وماء..

شيخوخةٌ تجتاحُ عشرينيّةً في حجرةٍ حُبلى بألفِ قصيدةٍ، وكأنّها ضربت سنينَ العمرِ قبلَ ولادةٍ وهميّةِ الأطوار والأبعادِ لم تمنح لصاحبِها سوى شَرَف الهويّة! لا عُودَ يَضربُ لي ترانيم الشّقاء ولا كمنجةَ ههنا.. والعتمُ يطرقُ بابَ هذي الدّارِ مخسوفَ الجبينِ كأنّه ساعي بريدٍ مثقلٌ برسائلِ النّكباتِ والآهات والخُطبِ الغبيّةْ. وأنا أُربّي وحدتي وحدي وأجمعُ سائرَ الخيباتِ في جيبي ببطءٍ كاملٍ متكاملٍ، وأصارعُ الشكوى على مترينِ من سجّادةٍ منقوشةٍ بالأحمر القاني تُذكّرني بحفلٍ راقصٍ أو بركةٍ لدماء طفلٍ لم ينله من الحكايةِ كلِّها دورٌ سوى دورِ الضّحية.

العتمُ خلفَ النافذة! وأنا وطيفي يا أبي نبتاعُ من ريحِ الحياةِ كُسيرةً تضفي على هذا الفضاء الضيقِ الموبوء بالمعنى قليلًا من دعائكْ!

ﻻ شيءَ في هذي البلادِ يهزني، فسوادُها كبياضِها متآلفُ الأركانِ أضيقُ من رثاءِ قصيدةٍ لأبٍ يغادرُ باكرًا قبلَ الثلاثين الطريّة. لا شيء حولي يطربُ الأحزانَ يرويها، يطوّعُها يربّيها، فينسج من أغانيها كتابًا مدرسيًّا. لا بائعًا متجولًا يغزو الصباحَ بصوته ويرمّمُ الأسفلتَ مبتكرًا طلاءً من رنين الحنجرة، ويلمّع السّاعاتِ والعتباتِ والجدرانَ مبتسمًا ويسقي ظلّها الظمآنَ ماءً من دعاءٍ أو تحيّة! لا شيء يشبه بلدتي لا زينةُ الجدرانِ تشبهها ولا جهة المرورِ ولا الحروف الأبجدية..

فهنا يدور الكون حولَ عقاربِ الساعات منتظِمًا عنيدًا ثابتًا والوقتُ ليسَ بـآبه بالجوّ أو بحوادث الطرقاتِ أو بجريمةٍ عبثيّةٍ حدثت ببغداد الصغيرةِ ما وراء البحرِ في الشقِّ البعيد من الخريطة.. الكلُّ يجري ههنا وفقَ الخطوطِ المسبقة! لا وقتَ للتفكيرِ للتبريرِ للتحويرِ للماضي ولا للحاضرِ القاصي ولا للطارئات أوِ الأمور الثانوية! لا طائراتٍ فوق هذا الوقتِ تربكُه وتغزو نَظمَه أو يستبيح هديرها وسن الرضيعِ المستريح على ذراعِ صبيّةٍ ثقبَ الصّراخُ فقاعةَ الصبر الأخيرةَ في خبايا صدرها فاهتزت الذكرى أمام عيونِها سكرى وتاهت وسطَ أضغاثِ الرؤى في المسرحيّة.

النعش يجري يا أبي..

ورُفاتُ رقّتنا هناك تصارع الموت اللعين.. فلتمسكِ الوقتَ المرير بقبضتك، أرجوكَ أسرعْ!

فالمساجدُ موحشات.. والمآذن ساهِمات..

هل تُدفن الذكرى بعيدًا تحت أكوامِ التراب بلا صلاة؟

 

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *