كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الردّ على المزاعم حول دوافع المملكة وسياستها في سوق النفط
عقد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية حلقتي نقاش في إبريل الماضي، تتعلقان بالطاقة والنفط، بحضور عدد من كبار الاقتصاديين واختصاصيي نفط محليين، وعدد من رؤساء شركات النفط، إضافة إلى سفراء كل من الصين واليابان وروسيا، ورئيس مركز دراسات الطاقة في جامعة كولومبيا في نيويورك الدكتور جيسون بوردوف.
وهذا المقال هو ورقة تقدمت بها الباحثة إلى إدارة البحوث في المركز، وأعد بناء على معطيات السوق النفطية في شهر أكتوبر من عام 2015م، وتضمن تفنيدًا للمزاعم حول دور المملكة العربية السعودية في ارتفاع أو هبوط أسعار النفط، ولأن بحثًا كهذا يكتسي أهمية مضاعفة في ضوء ما تشهده سوق النفط حاليًا من جدال اقتصادي وسياسي؛ فإن الفيصل تنشره كاملًا:
ازدادت التنبّؤات بشأن قرارات المملكة العربية السعودية في سوق النفط منذ انخفاض أسعار النفط في خريف عام 2014م؛ فالمملكة يُنظر إليها عادةً على أنها المنقذ لسوق النفط؛ فقد تحمّلت عبء اضطرابات سوق النفط وتقلّبات الأسعار منذ ازدهار صناعة النفط فيها، وهو ما اتّضح بجلاء في السنوات التي تلت حظر النفط العربي في سبعينيات القرن الماضي. وتغيّر هذا التوجّه خلال العام الماضي؛ إذ تخلّت المملكة العربية السعودية عن دورها المعتاد، المتمثّل في العمل على استقرار السوق، رافضةً أن تتحمّل وحدها عبء حماية الأسعار. وقد أثارت هذه الخطوة غير المسوّغة ضجةً حول احتمال اندلاع حرب نفطية عالمية، واتّهاماتٍ بأن المملكة ضالعة في إستراتيجيات تسعير مضرّة، وشكوكًا حول نيّتها استخدام النفط سلاحًا سياسيًّا للضغط على الحكومات الأخرى كي تذعن لها.
في الواقع، ما حدث هو تحوّل كبير في أسواق النفط العالمية؛ إذ تغيّرت الأدوار التقليدية، فدخلت دول منتجة جديدة في السوق، وتحوّلت بعض الدول المستوردة للنفط إلى دول مصدّرة، وما زال المصدّرون التقليديون الذين يعملون في بيئات سياسية وأمنية حسّاسة مستمرّين في تحدّي التوقعات، وإثبات مرونة صناعات النفط لديهم من خلال زيادة حجم الإنتاج.
وبينما كان الهبوط في أسعار النفط أمرًا مفاجئًا وغير متوقّع كان زخم الإنتاج يتصاعد بجلاء حسب تأرجح مستويات الإنتاج، واستجابة المنتجين لذلك؛ فقد أدّى الانحسار المؤقت للإمدادات في الشرق الأوسط وشرق إفريقيا ووسطها، الذي قُوبل بزيادة المعروض من النفط الصخري في أميركا الشمالية، إلى إيجاد بيئة أسعار مستقرة لم تتّضح معالمها آنذاك، وأدّى هذا الوضع المبهم إلى تراكم كميات النفط في السوق شيئًا فشيئًا، وأصبح السوق متخمًا بالنفط في نهاية المطاف، وأصبح أقلّ استجابةً للتهديدات الإقليمية وتعطّل الإمدادات.
وعندما أصبح الوضع جليًّا، وبدأت الأسباب تعبّر عن نفسها، بدأ منتجو النفط يدعون إلى (إصلاحات) تقليدية لمواجهة هذه المشكلة، وتحوّلت جميع الأنظار إلى السعودية مترقّبةً أن تخفّض إنتاجها. لم يكن مستغربًا –إذًا- أن يكون قرار المملكة الحفاظ على مستويات إنتاجها خلال اجتماع أوبك في نوفمبر عام 2014م خطوةً تهدف إلى الحفاظ على حصتها في السوق تقودها خبرة وتجربة أذهلت العالم في ظروف مماثلة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي؛ فقد قادت إستراتيجية «دَعْه يعمل.. دَعْه يمرّ»، التي اتّخذها جميع المنتجين، ولم تكن مقتصرةً على السعودية، أسعار النفط إلى مزيدٍ من السقوط الحر.
إن أهم تغيير في السوق كان الصعود غير المحسوب لكميات إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة الأميركية، الذي أصبح ممكنًا بفضل التقدّم التكنولوجي والظروف الاقتصادية المواتية، التي دفعت إمدادات النفط في السوق إلى زيادات جديدة، وجعلت التدفّقات النفطية في السوق في حالة تغيير مستمر. ومن المثير للاهتمام أنه على الرغم من أن الطفرة النفطية الأميركية الواضحة منحت الولايات المتحدة الفرصة لاستعادة دورها التاريخي بأن تكون (المُنتِج البديل أو المرجّح) بحكم وجود كميات جديدة متاحة اقتصاديًّا، إضافةً إلى الخصائص الفريدة لإنتاج النفط الصخري الذي يسمح لها بتدفّق إنتاجها ووقفه بسهولة، إلا أن كثيرًا من العاملين في ميدان الطاقة وغيرهم من المراقبين لا يزالون يرون السعودية الكيان الرئيس الذي يقع على كاهله تصحيح مسار الأسعار.
حرب النفط
بدأ ترويج الدعاية والتنبّؤات على نطاق واسع بشأن برنامج العمل السعودي الأميركي للضغط على روسيا في إطار الاهتمامات المشتركة والفردية (مثل: ضمّ شبه جزيرة القرم، والأنشطة الروسية في سوريا)، والمزاعم المتعلّقة بجهود المملكة المتعمّدة لإخراج النفط الصخري الذي تنتجه الولايات المتحدة الأميركية من السوق، وهو ما أطلقت عليه وسائل الإعلام «حرب النفط».
وعلى الرغم مما سبق فإنه من باب تسطيح الأمور أن نحكم على النوايا، وأن نرى أن مثل هذه الوسائل تعود بفوائد خالصة، أو تحقّق النتائج المرغوبة؛ فقد استمرّ المنتجون في الولايات المتحدة في استخراج النفط على الرغم من انخفاض مستوى الإنتاج وصناعة المعدات، وهي ظروف تُعزى من دون شكٍّ إلى قوى السوق التي تعمل وفق ما تُمليه عليها مصالحها. كما تواصل السعودية السحب من احتياطياتها المالية الإستراتيجية؛ إذ تناضل من أجل زيادة حصّتها في السوق، ويواصل الانفصاليون في شبه جزيرة القرم القتال تحت رعاية روسيا، وبوتين مستمر في دعم حكومة الأسد في سوريا.
ترسم هذه الأمور صورةً واضحةً لسوق متطوّرة؛ إذ لا يوجد فاعل واحد، أو (اتحاد احتكاري للمنتجين- كارتل)، لديه القدرة على التحكّم بشكل انفرادي في أسعار النفط، أو في استقرار السوق، أو الرغبة في ذلك، بل العمل بالأحرى في ميدان يعمل فيه الفاعلون في ظلّ شروط وظروف سوق حرة حيث المنافسة هي التي تحدّد السلوك. ويتّضح هذا الموقف أيضًا في قرار المملكة عدم خفض الإنتاج من جانب واحد؛ لمنع تراجع أسعار النفط.
إن انخفاض تكلفة الإنتاج لدى شركة أرامكو السعودية، والاحتياطيات الأجنبية الكبيرة في المملكة؛ جعلا المملكة تتّخذ قرارها السليم بعد التحليل بتبنّي موقف يمكّنها من تحمّل إنتاج تلك الكميات من النفط في ظلّ ظروف انخفاض السعر الحالي من دون أن يشلَّ اقتصادها بشكل كبير، ومع ذلك فإن مدى استمرار المملكة على هذا النحو له حدود.
وبعد أقلّ من عام من بدء التنبّؤات الأوّلية عاود الخطاب ذاته الظهور اليوم حول النفط السعودي الذي يُشحن إلى بولندا؛ فالبيانات والتصريحات القوية التي تسلّط الضوء على مصطلحات مثل: «الإغراق» في قضية بيع النفط لبولندا، و«حرب النفط»، ظهرت مرةً أخرى في وسائل الإعلام، ومثل هذا الخطاب يتناقض مع المبادئ الأساسية لعمليات السوق التي يهيمن فيها التنافس المحموم على المشهد.
في الواقع، كان بيع النفط السعودي لبولندا قرارًا ثنائيًّا، على أساس الهدف الجيوإستراتيجي للاتحاد الأوربي؛ للحدّ من اعتماده على الطاقة الروسية من جهة، ورغبة السعودية في توسيع حصّتها في السوق من جهة أخرى. وكان الاتحاد الأوربي قد اتّخذ تدابير للتخفيف من حدّة الاضطرابات، وتعزيز مرونة قطاع الطاقة لديه، حتى قبل انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا؛ ردًّا على إساءة استخدام روسيا الغاز كأداة ضغط لإجباره على إبرام اتفاق سياسي أو اقتصادي من خلال وقف الصادرات الروسية.
وكانت خطوة الاتحاد الأوربي تنطلق في الأساس من حاجته الماسة إلى تقليل اعتماده على الغاز الروسي، وصعّد المجلس الأوربي أيضًا من تدابيره الرامية إلى الابتعاد من الاعتماد على النفط الروسي ضمن غيرها من التدابير والاهتمامات المتعلّقة بالطاقة؛ ففي فبراير عام 2015م اقترح رئيس الوزراء البولندي -رئيس المجلس الأوربي الآن- إطارًا لتعزيز مرونة الطاقة لدى الاتحاد الأوربي في مواجهة انعدام أمن الطاقة الناتج من تعطّل الاستيراد والفجوات في سوق الطاقة. وشدّد الإطار على تعزيز تدابير الكفاءة، وتكامل الأسواق، والمضيّ قدمًا في الجهود الرامية إلى خفض نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وعرض خيار الاستفادة من بيئة انخفاض السعر حاليًا فيما أُطلق عليه (الفرصة التاريخية).
في عام 2014م كانت ألمانيا وهولندا وبولندا تحتلّ المراكز الثلاثة الأولى في قائمة مستوردي النفط الروسي في الاتحاد الأوربي. وبسبب هذه الظروف فإن لدى هذه الدول كلّ الحوافز للتنويع؛ فبولندا التي تنتج القليل من النفط محليًّا كانت تستورد معظم احتياجاتها من النفط عبر خط أنابيب من روسيا، بمعدل 424 برميلًا في اليوم عام 2014م، وهو ما يمثّل نحو 90٪ من طاقة التكرير، وأكثر من 80٪ من الطلب في البلاد. إذًا، فالانتقال إلى التنويع ليس بمستغربٍ عليها.
وهناك جانب آخر مهم يُؤخذ في الحسبان، وهو أن أعمالًا من هذا القبيل ليست من جانب واحد؛ فروسيا أيضًا زادت شحنات التصدير إلى بلدان آسيا؛ إذ تسعى إلى ضمان وصولها إلى الأسواق الكبرى في الشرق، وتعويض الأسواق التي فقدتها في الأميركيتين، والحدّ في نهاية المطاف من اعتمادها على السوق الأوربية، التي تصدّر إليها حاليًا أكثر من 70٪ من إجمالي صادراتها النفطية. وبين عامي 2013 و2014م زادت الصادرات الروسية إلى الصين واليابان بنسبة 5٪ و3٪ على الترتيب، وتراجعت صادراتها إلى أوكرانيا إلى النصف، وانخفضت صادراتها إلى بولندا كذلك بنسبة 1%.
تأمين الطاقة
ولأن هناك آراء مختلفةً بشأن السلوك السعودي في سوق النفط فمن الأهمية بمكانٍ أخذ بعض النقاط الأساسية الآتية في الحسبان:
أولًا- دافع سياسة الطاقة السعودية عامةً هو الحاجة الأساسية إلى تأمين الطاقة، وضمان المصالح الاقتصادية لمواطنيها على المدى البعيد. وفي الوضع الحالي، فإن تأمين النسبة التي ترغب فيها المملكة من حصتها في السوق تفوق بكثير المنافع المحتملة على المدى القصير من دفاعها عن أسعار النفط.
ثانيًا- تعمل أرامكو السعودية، وهي شركة النفط الحكومية، في ظلّ ظروف عمل صارمة تتّضح في ممارساتها المهنية، ومعاملاتها التجارية. وتسترشد الشركة في اتّخاذ قراراتها لإنتاج النفط وتسويقه وبيعه بتوجيهات حكومية صارمة، ومخصّصات معدّة لمواجهة متغيّرات السوق، تدفعها قيمها الأساسية، والمنافسة، وزيادة أرباح القيمة المضافة لمصلحة مساهميها؛ لأن الهدف الإستراتيجي للشركة -كما هو موضّح على موقعها على شبكة الإنترنت- هو أن تصبح بحلول عام 2020م «شركة الطاقة والمواد الكيميائية المتكاملة الرائدة في العالم، مركّزةً في تعظيم الدخل، وتسهيل سُبُل التوسّع المستديم والمتنوّع لاقتصاد المملكة، وتمكين قطاع الطاقة السعودي النابض بالحياة من المنافسة عالميًّا».
ثالثًا- فروق الأسعار هي التي تحدّد إستراتيجية التسعير لدى أرامكو السعودية، وهي تتيح لها خيار تقديم نفطها بأسعار مخفّضة مقارنةً مع مورّدين آخرين، وتستند بشكل رئيس إلى تكلفة الشحن، وجودة الخام (النوعية، ومحتوى الكبريت)، ضمن أمور أخرى. وتسمح هذه الإستراتيجية للشركة ببيع نفطها الخام إلى مصافي التكرير بأسعار تنافسية (صافي الدخل المرجّع).
رابعًا- أثبتت التجارب السابقة أن السعودية لا يمكنها السيطرة على أسعار النفط؛ لأن القرارات التي تعود بأرباح صافية على المدى القصير تشهد غالبًا انتكاسات على المدى الطويل. وقد دفعت تجربة السعودية في ثمانينيات القرن الماضي -بوصفها أحد الأمثلة الدقيقة- إلى اتّخاذ مزيدٍ من الخطوات المتعقّلة اليوم؛ إذ أدّت زيادة المعروض، وتراجع الطلب في المقام الأول، إلى انخفاض تدريجي تلاه انهيار للأسعار في ثمانينيات القرن الماضي، قُوبل بخفض كبير لإنتاج المملكة بوصفه وسيلةً لتحقيق التوازن في السوق. ولأن تلك الإستراتيجية استمرّت في السنوات التالية، فقد شهدت المملكة، التي عملت وحدها منتجًا بديلًا، انخفاضًا في حصتها في سوق النفط العالمية، وتعرّضت لضائقة اقتصادية؛ إذ استمرّت الأسعار تهوي مع دوامة الانهيار، فغيّرت المملكة مسارها في أواخر عام 1985م. ومع أن المملكة سعت خلال الأشهر اللاحقة إلى استعادة حصتها التي فقدتها في السوق، على الرغم من احتدام المنافسة بين المورّدين لزيادة الإنتاج، فإنه لاحت في الأفق بوادر انهيار للأسعار من جرّاء ذلك، حتى وصلت الأسعار إلى أدنى مستوياتها، فراوحت بين تسعة دولارات أميركية وعشرة للبرميل بحلول عام 1986م، وهو انخفاض وصل إلى 29٪ من سعر الذروة في عام 1980م.
المنشورات ذات الصلة
الوضع في اليمن.. حلقتا نقاش في موسكو ولندن
شارك مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في حلقة نقاش بعنوان: «التحديات الأمنية وآفاق التسوية السياسية في...
الأزمة اليمنية.. صياغة رد أوربي
وتداول باحثون ومسؤولون يمنيون وعرب وغربيون جملة ملفات سياسية وإنسانية واقتصادية واجتماعية، خلال حلقة نقاش عقدت في...
أمن الشرق الأوسط والمسارات الممكنة لعلاقات سلمية
عقد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في أكتوبر الماضي، حلقة نقاش متخصصة بعنوان: «أمن الشرق الأوسط والمسارات...
0 تعليق