المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

أحمد ماطر: ماذا غير البهجة تندفع داخل حصون الأعمال الفنية

وهي تستجيب لذلك الشغف المحاط بالتربص والتحيّن والانتظار

بواسطة | يوليو 1, 2019 | تشكيل

أحمد ماطر فنان مفاهيمي استطاع أن يبلور تجربة فنية خاصة، من محيطه وأسئلته الآتية من ‏جوهر مكونه الثقافي، وهو ابن قرية جنوبية من السعودية نشأ فيها قبل الالتحاق ‏بكلية الطب في جامعة الملك خالد في منطقة عسير. اشتغل على تخوم ‏ذاكرة ذلك الطفل القادم بدهشته الأولى، ثم الفتى والشاب المملوء بمعارف جديدة ‏ليتماس مع حدود استفهامات الآخر في الطرف البعيد من العالم، ذلك الآخر الذي ‏يبحث في حاجته للتعرف إلى تلك الثقافة العربية والإسلامية القادمة من أرض ‏الجزيرة العربية تحديدًا. ‏شارك ماطر في لجان مختلفة كقيّم فني وعارض أوّل، كما أسهم في بناء مشاريع ‏ومؤسسات كان من شأنها النهوض بالحركة الفنية ودعم الفنانين على مختلف ‏المستويات، ونقل تجاربهم في الفنون المعاصرة، والتعريف بالمشهد العربي ‏الحديث داخل الأوساط الغربية. ولماطر من المؤلفات «عسير من السماء»، و«مجسمات القرن العشرين وتاريخ الفضاء ‏العام»، و«صحراء فاران التغيرات الحضرية في العمارة الإسلامية.‏ وعُين كأول رئيس تنفيذي لمعهد مسك للفنون 2017م الذي أُنشِئَ تحت ‏مظلّة مؤسسة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان «مسك الخيرية».

«الفيصل» التقته وحاورته حول تجربته وموضوعات أخرى.

● بدأتَ تجربتَكَ الإبداعية مع الرسم والتصوير من قرية المفتاحة التي كانت ملهمتك بتجارب مفيدة ممن يعمل في مراسمها ومن الزوار، ثم انطلقت إلى العالمية. قرية المفتاحة التي كانت منارة للفنانين عام 2005م، وكانت نَشِطة فنيًّا وثقافيًّا لم تعاود أنشطتها السابقة. من وجهة نظرك ما الذي تحتاج إليه هذه القرية لتعاود طاقاتها الفنية؟

أيّ مؤسسة لها علاقة بالفن وفي مجتمعنا لا بدّ أن تقودها إرادة وأن تكون ذات أولوية عند المهتمين، وهذا ما نحققه اليوم في «معهد مسك للفنون». بالحديث عن قرية المفتاح ودورها التنويري فنيًّا وثقافيًّا في عام 2005، فنحن نتحدث عن مرحلة يُراد لها اليوم أن تعود وأن تمتد. لا يعني هذا أنّها توقفت أو انطفأت شعلتها بتوقف مرتاديها أو أنشطتها، ولكن طال هذه القرية الفنية الكثير من العمل البيروقراطي في وقت ما؛ وهو ما جعلها في عقبة وصعوبة محاكاة تجارب المراكز الثقافية الأخرى. ما أعلمه جيدًا أنها ستكون منارة مهمة في الوقت القريب وستكون مركزًا فاعلًا لا على المستوى المحلي وحسب، بل على المستوى الإقليمي والدولي.

● كانت والدتك رسامة للبيوت التقليدية العسيرية. هل سبق أن رافقتها وهي ترسم على جدران البيوت؟ وما الحوارات التي كانت تدور بينكما آنذاك؟ وحول ماذا يا ترى؟

لا بد لكل مبدع قصة مع امرأة كانت ظلال طفولته. هذا ما يحدث معنا كجنوبيين في البيت والحقل والوادي والجبل. أولى أبجديات الحياة نتعلمها من تلك المرأة الخالدة في ذاكرتنا. وأول خطوة في تلك التضاريس المتعددة المظاهر كانت بصناعة تلك المرأة، وفي تجربتي كانت الأم. فانطلاقًا من دور المرأة الفاعل في الحياة اليومية، ولكون الأم مدبرة البيت وقائدة مقومات الحياة داخله ومشاركة منذ البداية في بنائه ثم تزيينه. لم تكن تلك الأولان الحاضرة حتى اليوم وليدة مصادفة أو ابتكار شخصي بل كانت إرثًا تاريخيًّا طويلًا من العمل في تزيين البيوت وهي ثقافة وليدة النسيج الاجتماعي. كانت أمي متشربة تلك الجماليات ممن سبقوها من أجداد وأهل، فكانت الانتقال طبيعيًّا، ومن البديهي أن أستقي أول مزاوجات بين الألوان من يدي أمي. وهذا الحوار الصامت هو الأهم بينما التعليمات تأتي بشكل مباشر من الشغف اليومي بهذا الفن.

● بمرافقة صور الأشعة السينية المعتمة التي تحمل إليك كطبيب كثيرًا من المفاجآت المرضية، ربما استطعت أن تفلت من تلك الحالة المرضية المأساوية لتخلق لوحاتٍ فنيةً تشفي الناظر إليها. بإضافة كثير من النصوص الإبداعية العميقة، ترى إلى أيّ حدٍّ يمكن أن يُصلِح الفنان خَلَلَ الواقع بين حالتين متناقضتين من المرض والشفاء في علاقة مغايرة بين الروح والجسد؟

الفنان يُنجز. كل شيء يقوم على قدرات الجمالية والمعرفية. لم يكن الطب عائقًا عن اهتماماتي، وكان هو الآخر علمًا يحقق لي ركيزة لشفائي من تبلور الأفكار لتخرج. تلك الأفكار التي استندت إلى إحدى المعارف في مجال الطب وهي الأشعة السينية. الضوء كان حافزًا لأن تولد من تلك العتمة الشفيفة ما ينقل الخوف إلى البياض. بل ما يجعل من حدود المرض تخومَ فنٍّ يُمكن أن تساعد الإنسان العليل على اكتشاف ما لم يتصوره، وهو أنّ الفن عميق في الحياة وفي سواها. هذا ما حاولت أن أقوله من تلك التجربة وتلك الأيام البواكير.

لوحة «طريق الحرير»

كل لوحة تجسد حالة وهن

● في مجموعتك «إضاءات»، استخدمت الأشعة السينية مع إضافة الخط العربي الذي دعم الفكرة بشكل عميق جدًّا. فما الذي ساعدك على تكوين تصوراتك الفنية المتخيلة عن تلك الأعمال؟

الإنسان بكل ضعفه وفي أحلك حالات الجسد ماذا يمكن أن يقوله. كل لوحة كانت تجسد حالة الوهن عبر الأشعة السينية واعتمد أول إدراك يتبادر للمشاهد. أول ما يمكن أن يراه هو النهاية التي لا تترك أثرًا كبيرًا لكونها تقدم في قالب جديد. واستخدام الأشعة السينية مع مزاوجة بنصوص مقدسة تجعل الأمر أكثر قربًا وقابلية. إنّ التماس مع الجسد المريض بشكل يومي يكسب قدرة مذهلة على تجاوز الحصار والاستسلام لآثار الهزيمة أمام الضعف والخوف. كان ذلك من دوافع إنجازي لتلك المجموعة وبناء تصورات أخرى نشطت وخرجت بتلك الوسائل في محيط المشافي والمراكز الاستشفائية.

● تملك مكتبة كبيرة، نعرف من خلالها حُبَّك القراءة.. حدِّثْنا كيف تأثرت بقراءاتك في أعمالك الفنية من معرض إلى آخر، وما أهمية القراءة للفنان؟

تشكل المكتبة الرافد الأول من ناحية المعرفة والاطلاع وقراءة الآخر سواء كان في كتاب أدبي أو فني أو حتى مراجع متخصصة. لقد صنعت المكتبة من الإشراقات ما يكاد يتساوى مع صنيع المعارض الفنية إقليميًّا ودوليًّا، فما تحمله الكتب من دهشة منقولة لا تقل في إضافاتها ما يمكن استقاؤه أو تلقيه ندوة أو حوار مباشر حول الفن وآفاقه. لا شك أن المكتبة هي المخزون الأقرب لي ولا يُمكن أن أتصور ابتعادي عنها وبخاصة أثناء بحثي وتحوير الأفكار وتقليب أشكالها وإخراجها، فالمعرفة وإن كانت ضابطًا غير صادق في كثير من أوجه الفن، حيث لا يمكن أن تحكم أي عمل فني بنظريات معرفية بحتة، لكن تلك المعرفة تجعلك على دراية بالتجارب السابقة وتدفع موهبتك الداخلية لتجتاز الرؤى المطروقة من قبل. لذلك لا يمكن لأي فنان أن يتقدّم أو يسعى في تجربة فريدة ومختلفة من دون أن يكون ملمًّا بمستوى مناسب من المعرفة وعلى قدر من الاطلاع والوعي الحصيف بالقراءة والبحث الجادّ.

● يلاحظ جرأتك الفنية والبصرية بل اللغوية في تسمية بعض أعمالك مثل بقرة صفراء ومثل طلسم. ألا تخشى نقد التطرف والرقيب؟ ألا يعوق ذلك الأمر تفكيرك في أثناء تجهيز عملك ذاك؟ أم إن تعاملك مع الكلمات يختلف عن تعاملك مع أدواتك الفنية؟

لم يكن الرقيب يومًا في محمل الصورة أو في حسابات العمل الجمالي؛ لأنّه في حقيقة الأمر من خارج هذا العالم المفتوح على الأفق والمنخرط في سحاباته العالية جدًّا. بالمختصر لا وجود للرقيب سوى نداء المسؤولية الذي يحرك الفنان والمثقف، ولا يُمكن لأيّ فن طليق وحرّ أن يخضع لرقابة خارجة عن اشتراطاته التي تحقق للإنسان إرادته وتفك القيد عن تعبيره.

● عبرت لوحاتك المعارض العالمية بأفكارها وأساليبها المختلفة، المرتبطة بالهوية الإسلاميّة والثقافة العربية.. كيف تقرأ لنا هذه التجربة؟!

هذا العبور إلى المعارض العالمية مديح يأتي في سؤالكم ولا يأتي على لساني. ما أستطيع تأكيده هو أنّ كلّ عمل يُقدّم حكايته بسهولة وبطريقة مباشرة هو القادر على مخاطبة الجميع مهما كانت المسافة الجغرافية تفصل بينه وبين المشاهد في الجغرافيا الأخرى. طالما كان الهاجس هو الاختلاف والتنوع وعدم مغادرة الهوية بمكتسبات خارجية بمحاكاة الآخر وإنجاز أعمال هجينة، فذلك ما يجعل للتجربة تميزًا واستقلالًا ومغايرة تتجاوز بها مستوى المحيط. وهناك أسماء كثيرة في تاريخ الفنون السعودية استطاعت أن تتجاوز الحدود، وأن تكون علامة فارقة في المشهد الإقليمي. وعندما انطلقت في تجربتي كان الهدف أن يكون العمل معبرًا عن الرؤية التي لم أترك لها حاجزًا أو سقفًا، وعوني في ذلك المكون الثقافي للمكان ولقراءاتي الخاصة ومشاهداتي المستمرة للمحيط وخارجه. هذه الصبغة التي تصطحبني في الإنجاز هي الفاعلة في تقديري الشخصي، وهي التي أعطت هذا الحضور المساحة الكبرى، وتحقق لي القليل للوصول.

حكاية جديدة

● قدَّمَ معرضك «رحلات مكة» الذي أقيم بـ«متحف بروكلين» في مدينة نيويورك نظرةً متمايزة للتغيرات المتعاقبة في مدينة مكة المكرمة سجّلت معالم الزمان والمكان. وكانت شاهد عيان على أعمال الهدم والبناء الحديث في مكة المكرمة. من خلال تشغيل فيديو «الشبح»، وفي فِلم «الأوراق تتساقط في كل الفصول» (2011م)، كما تضمن معــرضك صورًا شاملة للمدينة، وأهلها وسكانها، مظهرة تنوع الأعراق والجنسيات والثقافات. وستة مقاطع فيديو تركز على الحركة الثقافيّة السائدة في مكة المكرمة اليوم، وعملًا نحتيًّا «مغناطيسية» (2009م)، وآخر تركيبيًّا «نوافذ مكة المكرّمة» (2013– مستمر)، وهو ما يوحي بأنها تجسيد واقعي للحالة الثقافية للمجتمع السعودي المعاصر وتحولاته الطبيعية. معرضك الذي استمر أربعة أشهر، وهو المعرض الأول لفنان عربي في بروكلين. فما الذي خرجت به من نتائج من ذلك المعرض؟ ولماذا اخترت بروكلين ولم تختر مدينة إسلامية أخرى لهذا المعرض ذي النكهة الإسلامية؟

إنّ هذا العمل أخذ رحلته الكافية عبر العديد من التغيرات التي نالت من ذلك المكان المقدس. كنت مع الكاميرا في ركض يومي وحافل بصور لا يمكن أن تخذل الحقيقة التي كنت أراها وأسجلها عبر أيام وشهور تلك السنوات الخمس في ذلك المكان المقدس والعريق في تاريخ البشرية. وهذا ما انعكس على التجربة بروحانية خاصة لكنها على شكل آخر من التعاطي الفني لهذا المكان تحديدًا؛ وهو ما يعني وجود حكاية جديدة ومختلفة عمّا ينتظره جمهور دولة إسلامية. لذلك كانت الفعالية تقام في مركز حاضري وهامّ على مستوى العالم وهو «متحف بروكلين» الذي وجد مسؤولوه في العمل ما يحفز المشاهد الآخر على هذه الوجهة في قلوب المسلمين على الأرض، وما القصص القادمة من هناك وكيف جرى قولبتها إلى أسئلة أو إجابات تظهر في الأعمال المشاركة. وكان الهاجس أن تتقلص تلك المسافة الشاسعة بين المكان كقبلة أزلية وبين أدوات العصر التي تقتحمه بمقترحات العمران الحديثة والتطور المتسارع. ومن جانب كنت أستفسرُ عن واقع الإنسان في هذا المكان، سواء المقيم أو العامل في البنايات الشاهقة والآلات الضخمة والمنخرط في مكينة يومية من العمل والحديد والخرسانة. إنها محاولة صغيرة منِّي لأرى بعيون التصوير تلك الحياة وأستنتج الأسباب الوجيهة لهذا التغير العصري، وأيضًا أنقُلُ ما يستحدث في المكان إلى حدود أخرى وقراءة مغايرة؛ لذلك فإنّ هذا ما يدفع بالمعرض ليكون في متحف «بروكلين» كوجهة جديدة ومهمة للتجربة.

● لديك أعمالك المعروضة ضمن مجموعة المقتنيات الدائمة لمتحف غوغنهايم أبوظبي، تحت عنوان: «المدينة من صحراء فاران»، التي تبرز التطور الحضري لمدينة مكة المكرمة. واسم هذه السلسلة مستوحى من الاسم القديم لمدينة مكة، أو الأحراش والجبال المحيطة بها، التي توثق التطوير السريع الذي شهدته مكة المكرمة. وقدمت من خلال المعرض كتابك المهم «صحراء فاران.. تواريخ غير رسمية حول التوسع الشامل في مكة المكرمة»، الصادر عن دار لارس مولر للنشر 2016م، الذي رصد سنوات طويلة من الترحال لأصوات وتجارب ونشاطات سكان وحجاج مكة المكرمة في منظور جديد؛ ماذا أراد أن ينقل إلى متلقيه؟

بكل بساطة أراد العمل أن ينقل المشاهد والمتتبع إلى أرضية أخرى تتمظهر في استعادة اسمها الأول «صحراء فاران»، وبذلك يأتي دور هذه المدنية العريقة في الوجدان الإنساني والتاريخي، وتشرح القليل من امتداد البشر عبر أزمنة وحِقَب كثيرة لم يتوقف بحداثة النهضة مقارنة بما مَرَّ كحدث وبقي الأثر. لم تكن الأعمال تستوعب التساؤلات والاستنباطات فقط بل كان عليها أن تحث المشاهد على المزيد من المعرفة الجديدة وإماطة اللثام عن معنى الضوء وهو يتجول على أرض محفوف بكثير من التحفظ وبخاصة من جانب الآخر.

● في معرضك الفردي تحت عنوان: «المدن الرمزية» الذي أقيم في متحف ساكلر أحد متاحف سميثونيان في العاصمة واشنطن؛ المؤسسة البحثية الكبرى في العالم تحدث معرضك الذي حمل اسم «المدن الرمزية» عن فكرة المدينة السعودية المعاصرة مستوحيًا حكايات تاريخية موازية مع حكايات متخيلة تناولت التحولات التي عاشتها المملكة العربية السعودية منذ أوائل القرن الـ20 ومدى تأثير هذه التغيرات في الحياة في المملكة مستخدمًا التصوير الفوتوغرافي، لماذا اخترت لمعرضك عنوان «المدن الرمزية»؟ وكيف تعكس هذه التسمية الحياة المدنية المعاصرة في السعودية؟ وماذا تقدم لنا من خلاله؟

عادة العمل الفني هو الذي يفرض التسمية، وتأتي غالبًا تلك التسميات من خلال المطبوعات المصاحبة للمعرض المقام، وهي تأخذ طابع المعنى الأول وتشخص الأعمال في قالب واحد وكامل، وهذا لا يعكس في واقع الحال مكنونات تلك الأعمال التي تأخذ عادة أكثر من وجه، وتسعى إلى طرح أكثر من حديث قابل للتوسع بعين الفن وجمالياته؛ لذلك لا أستطيع أن أؤكد معنى «المدن الرمزية» بقدر ما أؤكد عينَ المشاهد لتقرر هي ما تريد من عنوان أمثل يروق لها. هذا لا ينفي أن المعرض كان يذهب في منحى التساؤل عن تلك الحياة القادمة من مدن جديدة أو من معالم برزت لسنوات في حيواتنا وتفاصيلها.

● هل تولي اهتمامًا بعنصر البهجة في معارضك الفنية الإسلامية بشكل خاص؟ ولماذا؟ وما الفارق بين مفهومي البهجة والدهشة من خلال رؤيتك كفنان؟

ماذا غير البهجة تندفع داخل حصون الأعمال الفنية وهي تستجيب لذلك الشغف المحاط بالتربص والتحيّن والانتظار. تلك عناصر من مستجيبات كثيرة يخلق منها العمل الفني. الدهشة تأتي لاحقًا من المتلقي، لكنها ليست كائنًا داخليًّا لحظة الاشتغال. أعتقد أن التفرد معنيٌّ بهذه العلاقة المعقدة بين البهجة التي تغتصب مكانها بالعمل، وبين الدهشة التي تظهر عند المتلقي.

معرض : «رحلات مكة» في متحف بروكلين بمدينة نيويورك

الهم الثقافي

● تُشكّل «إيدج أوف أرابيا» مرآة ناصعة للساحة الفنية الحداثية؛ إذ يبرز دور الفنانين الجدد للنهوض، وتطوير الساحة الفنية السعودية، وتشجيع المواهب المحلية؛ فما الذي يجعلها فعالة وبيئة مناسبة للفنانين الشباب؟ وما إضافاتها التي أكسبتها تلك الثقة الفنية الإبداعية؟

في سبيل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من إيضاحٍ حول «الهمّ الثقافي». إنّ هذا الهمّ لا يتوقف عند النشر الخاص بك أو المشاركة في المحافل الفنية أو استطالة اسمك على واجهات المعارض؛ بل يمتدُّ إلى أكثر من ذلك وهو الإخلاص للفنون ولأشكالها ولاستحداث مذاهبها، وتقدير عدم ارتهانها لعبور الزمن أو لمعيار الثبات. إنّ مؤسسة «حافة الجزيرة العربية» قامت بمبادرة مع فنانيْنِ لهما الهمّ ذاته وهما الفنان البريطاني ستيفن ستابلتون والفنان السعودي عبدالناصر غارم، وجاء هذا التأسيس من لقاء جمعنا على جبال عسير في مارس عام 2003م، فانطلقت لتُشكل مصافحة كبرى بين الشرق الأوسط وبين الغرب. وقد عملت هذه المؤسسة غير الربحية على نقل الحوار إلى منطقة أخرى وأعتاب جديدة. فقد سعت إلى نقل الحركة الفنية المعاصرة في الوطن العربي إلى العالم المتجدد في بلدان ومدن الغرب والوصول إلى جمهور لم يعتد كثيرًا على أعمال غير تلك الأعمال العريقة والكلاسيكية التي تأتي من الشرق، الشرق بحمولته العربية ثقافيًّا وجغرافيًّا. واليوم نتحدث عن مئات الأعمال لفانين عرب توزعوا حول العالم بجماليات الدهشة التي أخذت إليها أبصار المشاهد خارج حدودهم، واستطاعت هذه المؤسسة في سنوات معدودة أن تكون رائدة في رعاية الفنون المعاصرة القادمة من الوطن العربي تحديدًا. أستطيع أن أقول: إنّ التحدّي قد استطاعته كلّ الأسماء الشابة التي اخترقت حُجبَ المحليَّ والإقليميَّ، ومن المبهج كثيرًا أن تكون مؤسسة «حافة الجزيرة العربية» هي التي كانت تمسك بالدّفة وتُقدم تلك الوجوه الجديدة والمتحمسة إلى نقلة متميزة أمام عيون الآخر المتعطش للغة ورؤى هذا الفن القادم من الشرق الأوسط.

● إلى جانب الفنانين الذين يدخلون الساحة الدولية؛ من وجهة نظرك على مَن تَقَعُ نهضة الساحة الفنية السعودية عالميًّا ومحليًّا؟

لا أحد يُنكر دور المؤسسة في دفع أي حركة ثقافية ومواصلة الدعم من جانب تلك المؤسسة أيًّا كان نشاطها. العمل في مرحلة ما لا يتوقف فقط على اجتهادات الفنان المنفردة، وإن كانت فرص وصوله إلى العالمية بسبب علاقاته أو حتى أعماله السابقة، لكن لا بدّ من إنجازات تتسم بالعمل المؤسسي ومحاكاة المؤسسات الدولية في بلدان كبرى اشتهرت بمراكزها الثقافية والفنية. لا أُخفيكِ أن الفنان السعودي يواجه صعوبات لا تحصى في كثير من الحالات التي تستدعي مؤسسة حكومية ينطوي تحتها للمشاركة في الخارج. كما أنّ الكثير من المؤسسات في وقت ما لا تستطيع أن تقدم لهذا الفنان أي نافذة يقتحم منها بمُنجَزهِ ورسالته، فضلًا عن افتقار تلك المؤسسات لروح المسؤولية وللأفراد الذين لديهم الهم الثقافي الحقيقي. لا يخفى على أحد أننا قطعنا سنوات طويلة بمؤسسات مفرغة من دورها اللازم تجاه الثقافة والفن، ولم يكن لديها سوى موظفين لا مبدعين أو على الأقل لديهم القليل من الوعي بدور الفنان وبوجوب قراءة أفقه وتطلعاته ومساعدته على تجاوز القائم والمتاح. أقول هذا عن مرحلة مضت، والحقيقة أن الخسارة كانت ماثلة في المشهد العالمي الذي كاد ينعدم وجود الفنان السعودي فيه، أما اليوم فنحن نعيش مفصلًا مهمًّا على جميع الأصعدة، ويعني هنا اتساع المساحة أمام الفنون والإبداع والحراك الكبير المتمثل في التوعية بدور الثقافة والفن في المجتمع بوصفهما صورًا من صور الحوار العالي مع الآخر. لقد لاحظنا كيف أن جميع المؤسسات الحديثة منها والقديمة تواكب رؤية المملكة 2030 وتسعى إلى تحقيق المبادرات التي من شأنها تحقيق أهداف الرؤية. والمقام ليس لتعداد تلك المؤسسات ولكن للاستبشار بأدوارها التي سوف تنهض بدور الفنون وستنقلها إلى العالمية على النحو المنشود.

● لوحتك «طريق الحرير» التي قدمها وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الرئيس الصيني في زيارته الأخيرة للصين والتي كانت عبارة عن وجهين تحمل علاقة الفكر الثقافي بين الصين والجزيرة العربية منذ أمد بعيد، كانت محل اهتمام الصحافة الصينية والعالمية. فكيف تختصر الفنون مسافات كثيرة لنقل ثقافات الشعوب من وجهة نظرك؟

الفن يسبق اللقاءات والحوارات، فزمنه لا ينتظر ولا يتخلّى عن الفكرة التي تجد نفسها عالمية الحضور قبل صاحبها. الفن بشكل عام لا يلتزم بحدود أو جغرافيا محصورة وهذا ما يدفع ببعض الأعمال للشهرة والتجاوز من المحلي إلى الدولي متى كانت قائمة على نقطة الالتقاء بين مكونين ثقافيين لكل واحد تضاريسه المستقلّة. لقد حاولت من هذا المنطلق أن أوجد في لوحة «طريق الحرير» ذلك الحوار، وأنا أعود لذلك التماس التاريخي بين أرض الجزيرة العربية وبلاد الصين، وأجمع تلك الصورة المتماثلة بالمأثور في مكوننا الثقافي عن الصين والعلم من جانب، ولتطلعات المستقبل اليوم من جانب آخر.

معهد مسك للفنون

● عُيّنت مديرًا تنفيذيًّا في «معهد مسك للفنون» التابع لـ«مؤسسة مسك الخيرية» التي أسسها وليُّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وذلك عام 2017م. وأقمت حينذاك شراكة ثقافية طموحة بين معهد مسك للفنون ومتحف نيويورك للفن الحديث، وهذا المشروع يشكل خطوة واعدة نحو تعزيز وإثراء التبادل الفني والعلمي عبر مختلف التقاليد والثقافات، فما أهمية هذا التعاون ومثيله لإطلاق «رؤية معهد مسك للفنون»؟ وما الدور المنتظر من المعهد ليكون «منصة مفتوحة يقودها جيل جديد من الفنانين والمصممين والمفكرين السعوديين مستقبلًا؟

في عالم الثقافة والفنون لا يمكن التحرك من دون شركاء ينهضون بالقيمة التي تتقاسمها معهم، وهذا ما يحدث لأيّ مؤسسة أو مشروع فردي متى وجد الجدية في التحرك والوصول. لقد استطاع «معهد مسك للفنون»، وهو الناشئ حديثًا، أن يكون مرجعًا مهمًّا للعمل المؤسسي في مجالي الثقافة والفنون، وفي مدة وجيزة، وهو ما يجب أن يستمر لينقل هذين المجالين من صورتهما الأولى إلى موقعهما الرئد في المجتمع السعودي. ويعمل اليوم المعهد على أن يكون ركيزة أساسية للعملية الإبداعية ولصانعيها ومتذوقيها لما يضطلع به من إنتاج أوجه الأعمال الفنية المعاصرة منها وغيرها، وتقديمها للجمهور ونشرها محليًّا ودوليًّا، مع فتح الفرص لكلّ المواهب القادرة على التنويع ومواصلة التميز. وبذلك فإن معهد مسك للفنون «يسعى إلى تكوين مجموعة متنوعة الاتجاهات وفاعلة في التأثير داخل الأوساط تُمثل أوجه التعددية الثقافية وتُقدم صورها المختلفة في صناعة الإبداع والخطاب المشترك. هذا فضلًا عن رؤيته في قيادة اقتصاد المعرفة والإبداع عبر الفنون والابتكار وتحت رعاية كريمة من مؤسسة مسك الخيرية التي أسسها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز عام 2013م، وهي بلا شك مؤسسة فاعلة في صناعة الأجيال وبرؤية عصرية تتوق إلى التقدم ومواكبة العالم المتجدد.

● الملاحظ على أعمالك الفنية ذات الطابع الإسلامي خاصة، أنك أعدت تطويع الفن الإسلامي بأساليبك التعبيرية ورؤيتك الفنية الخاصة، ولم تُعِدِ ابتكار الفن الإسلامي كما هي الحال مع كثير من الأعمال الفنية المعاصرة. ترى ما أهمية أن تكون أعمال الفنان صورة لرؤيته وتفكيره فيما حوله؟

لا يُمكن لأيّ مثقف أو فنان أن ينبت عن مكوناته الأساسية التي تشربها في مراحل تقدمه وتلك التي صقلها بطبيعة الحال، وهو ما يعني أنه لا يُمكن أن تختفي آثار تلك المكونات المهمة في المسيرة الشخصية أولًا ثم الفنية. وتطويع التجارب بفنون من ثقافات قائمة هي نتيجة الاستجابة التلقائية للحياة ولمعنى أن تكون مؤثرًا ومتأثرًا، أن تكون فاعلًا بالنقل ولكن بصور مختلفة وبقوالب تعكس تصوراتك وطريقة وعيك بما هو قائم ومحاكمة ما هو في المتناول وغيره. وتأتي الأهمية من دور الأعمال في نقل الرؤية والتفكير هو أنّها الوسيلة الوحيدة لاستنطاق رسالتك المكنونة. إنّ الفن هو كل الإجابات غير المتوقعة. هذا ما أستطيع أن أقوله.

● سبق أن ذكرت أنّ هناك مجموعةً متنوعة من المعارض، والعروض السينمائية، وعروض الأداء، والبرامج التعليمية، وأعمال التكليف الفنية العامة، والمحاضرات، إضافة إلى ندوات حوارية للفنانين، وأن عددًا من المؤسسات ستتعاون مع معهد مسك للفنون لإقامة تلك المعارض والبرامج، وستستضيف مشروعات خاصة كجزء من برامج القيّمين المستمرة ضمن «مهرجان نيويورك للفنون والأفلام العربية»؛ إلام تهدف هذه التظاهرة الفنية الزاخرة بالبرامج الفنية؟ وما أهمية مثل هذه التظاهرة مستقبلًا؟

نعم لقد وُضِعَ البرنامج الدولي لعام 2018م، وقد نفذ فريق العمل جميع الخطة الثقافية المُعلن عنها بنهاية عام 2017م، وبالتالي فنحن اليوم نقف على بداية لبرنامج جديد قد استشرف الحاجات والغايات اللازمة في عام 2019. والجميع شاهَدَ مشاركات المعهد المحلية والدولية، ومنها فعاليات مسك الفنون 2018م المنتهية بتكريم بعض الرواد السعوديين في الفنون التشكيلية ثم المشاركة بمعرض «بريس» في منتدى مسك العالمي المنعقد في نوفمبر 2018م بالرياض. وكان قبل ذلك تنظيم أول جناح للمملكة العربية السعودية في معرض «بينالي البندقية للعمارة»، وتنفيذ رحلات للفنانين الشباب إلى ولاية كاليفورنيا الأميركية من خلال برنامج التبادل التعليمي «اصنعْ وألْهِمْ»، إضافة إلى «مهرجان نيويورك للفنون والأفلام العربية» 2018م، وكذلك المشاركة في معرض «دبي آرت»، والفعاليات المتعدد والمتنوعة التي صاحبت جولة سمو ولي العهد في كل من فرنسا وأميركا. هذا وقد أقام المعهد الكثير من الشراكات الدولية التي من شأنها تطوير العمل والارتقاء بالمسؤوليات داخل منظومة المعهد. وغنيّ عن القول أنّ كل هذه التظاهرات المشرفة تهدف إلى نقل الصورة المثلى لنشر ثقافتنا وفنوننا السعودية وما تعنيه من حوار عالمي لا يرتهن لمرحلة، بل هو مستمر ومتقدم.

● أواخر خريف عام 2018م، غادر 10 فنانين شباب المملكة متجهين إلى ولاية كاليفورنيا الأميركية، حيث سيكتسبون خبرة عملية من خلال دورة تدريبية في أبرز الشركات التكنولوجية الرائدة، والشركات الناشئة، وداخل أستوديوهات الفنانين، كما سيمهد هذا البرنامج لرحلة متبادلة يقوم بها فنانون شباب من الولايات المتحدة إلى المملكة في عام 2019م. برأيك ما النتائج المستهدفة من مثل هذه الزيارات الإبداعية المتبادلة؟ هل سيشارك فيها أدباء سعوديون؟ وإذا لم تكن هناك مشاركة من جانب الأدباء في مثل هذه التظاهرة أرجو توضيح الأسباب، وبخاصة أن كثيرًا من الأسابيع الأدبية يحضرها فنانون وتشكيليون ويشاركون فيها إلى جانب الأدباء؟

هناك شراكة منعقدة بين معهد مسك للفنون ومؤسسة «كروسواي» لصناعة برنامج «اصنعْ وأَلْهِمْ»، يعمل في إطار تنافسي متاح لجميع الفنانين في السعودية، من مواطنين ومقيمين على حد سواء. ومن شأن هذا البرنامج أن يقدم المعرفة وخوض التجربة من خلال دورة تدريبية تشرف عليها أبرز شركات التكنولوجيا المتطورة عالميًّا، وكذلك بعض الشركات الحديثة، وداخل أستوديوهات الفنانين. وسيقدم أيضًا هذا البرنامج الرائد في فكرته على المستوى الإقليمي رحلة متبادلة يقوم بها فنانون شباب من الولايات المتحدة إلى المملكة عام 2019م. ومثل هذه البرامج وغيرها تقوم على مبدأ الحوار والتبادل المعرفي والثقافي الذي يُعد إحدى المحاولات المهمة في العمل وبناء الخطط داخل منظومة المعهد ككل.

● تقدمتَ بدعوى قضائية ضد مجموعة «سواتش»، الشركة الأم لماركة الساعات الشهيرة «أوميغا»؛ بسبب إعلان ترويجي لأحد منتجاتها، استغلت فيه عملك الفني الشهير «مغناطيسية» في الترويج لأحد منتجاتها. ما دور الفنان والرأي العام في الحدّ من تفشِّي مثل هذه السرقات الفنية والإبداعية التي ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي بتقنياتها على انتشارها؟ وما الدور الذي ينبغي للمسؤولين عن حقوق الملكية الفكرية القيام به لمساندة المبدعين في هذا الجانب؟

إنّ الوعي بقيمة الفن تفرض علينا الكثير من المسؤوليات، ليس فقط من جانب الفنان أو المبدع؛ بل من جانب أطياف المجتمع. إننا نسعى بأعمالنا والإخلاص لرسالتها لأنْ تكون هناك الأمانة الفنية أولًا، ثم صيانة هذه الأمانة والحق المكتسب لأي عمل فني أو نتاج ثقافي، وهو ما يجب أن ينتشر الوعي به على الأصعدة كافة، وعلى جميع المؤسسات أن تقوم بدورها في هذا الشأن المهم حمايةً للفنون ولتنامي حركتها والحفاظ على امتداد أسمائها من مبدعين وموهوبين. إن الحفاظ على الملكية الفكرية لهو مؤشر لافت على تقدم المجتمع وعلى تنامي تقديره للفنون والثقافة، وهذا ما يجب أن نكون عليه.

● تقود معظم الدول الإسلامية الحراك ضد الإرهاب، الذي يطلّ اليوم بأشكال مختلفة. وانطلاقًا من كون الفنان والفن شريكًا ومؤثرًا في الرأي الاجتماعي والسياسي، ويحمل مسؤولية تجاه المجتمع، فـكيف يمكن خلق حوار حضاري للنقاش بلغة إنسانية تكافح الإرهاب؟

نعود إلى مفهوم الهمّ، ولا أزيد إذا قلت: إنّ الإنسان هو محور الأعمال التي تجمع مخاوفه وآماله، انكساراته وانتصاراته، قلاعه وحطامه، عشقه وخيباته. فكل ذلك تحيط به أعمال الفنان المهموم بجراحات الإنسان وتطلعاته ولا يمكن أن يكون بعيدًا من الأخطار المحدقة بالإنسانية والهادمة لجسور الحوار واللقاء تحت ظُلَّةِ التعايش والسلم.

● تحتاج الحركة الفنية في الخليج إلى الاعتراف بها عالميًّا. من خلال بناء منظومة متكاملة من الوعي الثقافي والحركة النقدية. كيف يتسنى لها تحقيق تلك المنظومة على أرض الواقع؟

نحن تأخرنا في بناء تلك المؤسسات القادرة على فعل الكثير في مجال التعريف بالحركة الفنية. القياس اليوم ليس مجديًا فهنا تجارب إقليمية وضعت لها قدمًا واثقة في المنظومة الدولية، وأمامنا كثير من العمل لنواكب مراكز ومتاحف عالمية أثرت في الحراك الفني الدولي. نحن نراهن كثيرًا على أن تقوم المؤسسات بدورها مع أفراد معروفين أثروا الحركة الفنية في الخليج، وأسهموا في نقلها للعالمية بتجاربهم الشخصية.

● صُنّفت كواحد من أفضل مئة شخصية عربية الأقوى تأثيرًا. فما دور الفنان السعودي اليوم؟ وما مسؤولياته إزاء مثل هذه الثقة العالمية والوطنية خاصة؟

هذه التصنيفات ليست هدفًا وليست مرجعًا لاصطفاف المثقف في طابور الشخصيات المؤثرة من عدمه؛ بل نتاجك هو الفاعل الأول وهو القادر على ترسيخ مسؤوليتك تجاه قضايا مجتمعك وإنسانه الذي هو امتداد الإنسان الآخر. والشعور بالمسؤولية لا تقرّه تلك التصنيفات، ولكن تزيدك بعض الإشارات لمكانتك وتميز قدراتك الثقة والإصرار على مواصلة العمل. إن مخزوننا الثقافي يحتم علينا استجابة كبيرة لاستعادة الماضي بتطويعه في سياق الحاضر واستشراف المستقبل، وهذا يجعلنا أمام مسؤولية النهوض بكلّ القدرات لنكون على أهبة النهوض بالتحولات المحمودة في بنية المجتمع والتمسك بهويّة ثابتة طبيعتها قيم الإنسان ومفاهيمه.

● بعض أعمالك عبارة عن سلسلة متماسكة بحيث لا تنفصل قطعة فنية عن الأخرى، بينما يأتي بعضها كعمل يتيم؟ هل يمكن أن نقول بأنّ الفن المتسلسل يحتمل القصّ ونفس الحكاية المسرودة فنيًّا؟

إنّ العمل الإبداعي بشكل عام في داخله يلتزم بعمود فقريّ خفيّ مهما تداعت الصورة وتفاصيلها إلى تشعبات كثيفة، وعادة ما تتشكل تلك الاستقامة بوَحْدة فنية لأعمال مختلفة نتيجة البنية الواحدة لفكرة العمل، وإن أتت على أكثر من نمط، وبذلك يتكون لدينا قصٌّ بمظهر واحد أو سيرة متسلسلة لحدث يأتي بوعاء فني. إذن كل الخيارات متوافرة أمام المبدع متى استطاع أن يخلق فكرته الجديدة.

● متى تقرر اختيار عنوان لعملك أو معرضك؟ وهل يحدث ذلك قبل اكتمال عملك الفني أو في أثنائه أو بعده؟ وهل تتعمّد أن تأتي تسمياتك الفنية غريبةً وطريفةً؟

لا وقت للقرار في الفن. العملية الإبداعية لعمل واحد هي نتيجة مراحل صغيرة مركبة ومتلاحقة حتى تصل لمستواها الأخير. عندما يتم الاجتهاد على النحو المرضي للعمل تولد التسمية إن أُرِيدَ لها أن تكون أصلًا.

● من أين تلتقط فكرتك الفنية بالضبط؟ ما مصادرك؟

لا تُوجد جدارة لشيء أكثر ما للحياة في توفير الأفكار ونشر اللحظات الخاطفة لبناء عمل يُثير الدهشة.

● ماذا أفادتك دراستك للطب فنيًّا؟ وما تأثيرها في أعمالك على المستوى الإنساني؟

تُعدّ دراستي للطب أولى معارفي في الحياة، فقد كانت الدروس العلمية البحتة ذات أثر بالغ في البدايات. عندما تنخرط بشكل يومي في آلام البشر الجسدية وبشكل مباشر ستجد ذاتك في مواجهة مع المرض والوهن الإنساني، وهو ما أوجدني أمام لحظات حاسمة في تجربتي. لقد دفعتني دراسة الطب إلى مواجهة التحدي بالصورة وأشكالها الفنية القادرة على التعبير عن همّ وإدراك متنامي يمسّ الإنسان أولًا. إنّي مدين لتلك التجربة العلمية الصارمة في مرحلة مهمة من مراحل أعمالي التي تستقي اليوم من تلك المعارف وبرؤية متجددة.

● قدّمت كثيرًا من المحاضرات المتخصصة في موضوعات معارضك الفنية ومضامينها. في رأيك، كيف يُمكن خلق النقاش حول التاريخ والثقافة الإسلامية من زوايا فنية وجمالية؟

بشكل عام تكون اشتغالات المهتم بالفنون والجمال منطلقة من جذره الثقافي، وليس بعيدًا من ذلك كل المكونات المحيطة بالفنان أو المبدع، تلك المكونات التي تشكل مداركه وإمكانياته وتصقل تجاربه. ومتى استقامت الموهبة الجادة والقوة الفنية مع مقومات المعرفة والجديد من علوم الفن، استطاع الفنان أن يُسهم في الحوار وأن يقدم الصورة المشرقة للقيم المشتركة، وهذا ما يدفع به إلى خلق تلك المساحة الصالحة للحياة حيث يكون. إذن العناصر الثقافية التي يملكها أي فنان تحتاج إلى القدرة على الإنجاز والإصرار على توصيل رسالتها، وبصفتي ابن المكان الذي شهد ميلاد الإسلام كرسالة وقيم إنسانية كان عليَّ أن أُزاوِج بين تلك المعرفة القادمة من الآخر وبين مكوني الثقافي على هذه الجغرافيا، وهذا في اعتقادي ما يحقق القيمة العليا للفن والثقافة خارج الحدود.

● استغرق عدد من الفنانين السعوديين في إشباع فنونهم بالطابع الرقمي، وهو ما أفقدَ أعمالهم الطابع الإبداعي الحقيقي ورسالة الفن. فكيف يمكن للفنان الناشئ تجاوز تلك الحواجز التقنية في رأسه والاتجاه نحو صياغة فكرته بكثير من التخيل الذي يربطه بواقعه ولا يبعده منه؟

الفنان الحقيقي سينقذ نفسه من تلك الزواحف الإلكترونية. أُسمِّيها زواحف إلكترونية؛ لأنها لا تنقرض وتسمِّم باستمرار القيمة الفنية العالية. الفنان الحاذق هو من يستطيع ترويض كل وسيلة حديثة لمنجزاته وإبداعه. تبقى أسئلة الفنان هي المحرك الأساسي في عملية حواره مع واقعه ومدى استعداده لتطوير أدواته فضلًا عن حجم تخيله الذي يصقله الزمن عطفًا على التجارب والمثابرة. أمّا الارتكان إلى الطابع الرقمي الذي يوفر عليه الكثير من الوقت ولكن بقيمة مبخوسة، فذلك سجن يسور حديقة لا فائدة منها.

المنشورات ذات الصلة

التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة

التشكيلية السعودية غادة الحسن:

تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة

تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *