كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
ونستون تشرشل.. «أفضلُ بريطانيّ» في التاريخ أم مُجرم حربٍ؟
ترك رئيس الوزراء البريطانيّ الرّاحل ونستون تشرشل السّلطة منذ أكثر من سبعين عامًا، وغادر عالمنا عام 1965م، لكن «تشرشل- الأسطورة» لا يزال حاضرًا بشدة في قلبِ الجدلِ المعاصرِ حول مكانة بريطانيا اليوم، وجزءًا لا يتجزأ من وعي الطبقة السياسيّة فيها، وسببٌ آخر من أسباب أزمة العلاقة مع أوربا (أو ما يعرف بـ«بريكست») التي أعادت تقسيم شعب الإمبراطوريّة المتقاعدة إلى أمتين متناحرتين. ربّما قد حان الوقت، لمراجعة تاريخيّة واقعيّة تضع الرّجل في إطاره الزمني، وتعفي الأجيال الجديدة من ثمن تعلّق سياسييهم بأوهام التفوّق والاستثنائية التي تدفع باتجاه العداء مع البرّ الأوربيّ.
مذ أعلنت نتائج الاستفتاء الشعبيّ في بريطانيا ليلة 23 يونيو 2016م بشأن العلاقة بالاتحاد الأوربيّ (بريكست)، وثمّة استعادة غير مسبوقة لشخصيّة رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل (1874 – 1965م) إلى قلب الجدل السياسيّ والثقافيّ المعاصر: كتبًا، وأفلامًا سينمائيّة ضخمة، ومقالات في الصحف والمجلات، ونقاشات حادّة داخل البرلمان وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ولا سيّما بعد أن تحدث أحد زعماء المعارضة عنه بوصفه شخصيّة شريرة أمرت عام (1910م إبّان توليه منصب وزارة الدّاخليّة) بإرسال قوات الشرطة البريطانيّة إلى (تونيباندي) –جنوب شرق ويلز– لقمع إضرابات العمّال بالقوّة فتصرفوا حينها كما لو كانوا جيش احتلال، ولم تغفر له تلك المنطقة قطّ.
السياسي البريطانيّ المحنّك كان قاد الدّولة البريطانيّة خلال مرحلة الحرب العالميّة الثانيّة (1939– 1945م)، وارتبط اسمه وفق البروباغاندا الرّسميّة بانتصار الحلفاء على دول المحور، وحماية استقلال بريطانيا في وجه الأطماع الألمانيّة، بل تخليص العالم الحرّ من وحش النازيّة. بل حتى عندما كانت لندن تتعرض لقصف ألمانيّ مكثّف، فإن تشرشل كان قادرًا أن يجيّش وطنيّة المواطنين البريطانيين وأن يلهمهم للصمود والعناد. بريطانيا وقتها كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة كإمبراطوريّة إمبرياليّة، وكانت تفتقد بشدّة إلى ضوء يقودها في زمن التراجع، ولذا فإن الجميع تعلّق بتشرشل قائد آخر معاركها الكبرى رغم ما ألمّ بهم من نكبات خلال سنوات الحرب الأولى، وعدّوها أعظم انتصاراتهم التاريخيّة على الإطلاق، وتحوّل بفضل الإعلام المؤدلج والتعليم الموجّه إلى ما يشبه صنمًا مقدسًا لا يكاد يجرؤ أحد على المساس به. وقد انعكس هذا التّكوين الأسطوريّ الطابع في نتيجة استفتاء أجرته هيئة الإذاعة البريطانيّة مؤخرًا، إذ صوّتت أغلبيّة ساحقة من البريطانيين على أن تشرشل كان «أفضل بريطانيّ على الإطلاق» منذ تكوّن الهويّة البريطانيّة قبل عدة مئات من السنوات. وتقاطر ملايين منهم لمشاهدة أفلام سينمائيّة دعائيّة الطابع تروّج للصورة المختلقة ذاتها عن بطولات السياسيّ الرّاحل كما في (تشرشل – 2017م للمخرج جوناثان تيبليتسكي) و(أحلك الساعات – 2017م للمخرج جو رايت) و(دنكرك – 2017م للمخرج كريستوفر نولان) وغيرها.
لكنّ هذي الصورة بدأت مؤخرًا تتعرّض لنقد شديد من مؤرخين مهمين محليًّا وعالميًّا، وبدأت معها تفاصيل قائمة طويلة من الجرائم بحق الإنسانيّة المنسوبة لتشرشل التي تفوق في دمويتها أكثر بكثير قراره بشأن عمّال (تونيباندي) والتي رغم قسوتها، فإنها انتهت بمقتل ويلزي واحد فقط. فاليساريّون يسجّلون أنّه عندما كان وزيرًا للماليّة دفع باتجاه إنزال الجيش البريطاني إلى الشوارع لإنهاء إضراب عام 1926م بالقوّة، كما كان وراء قرار تحويل هيئة الإذاعة البريطانيّة إلى ذراع دعاية للحكومة البريطانيّة رغم أنها ممولة من جيوب المواطنين بغرض تقديم إعلام غير منحاز.
المؤرخون العسكريون يرون أنه تسبب لعناده وعدم استماعه للعسكريين في مأساة غاليبولي عام 1915م التي كانت بمنزلة صفعة للقوات البريطانيّة عندما حاولت القيام بإنزال عسكري في تركيا في أثناء معارك الحرب الأولى لكنها خسرت أكثر من 5000 قتيل بلا طائل. وهو بدا كمن لم يتعلّم شيئًا من تلك الخسارة الفادحة فتسبب في فوضى الإنزال بالنرويج خلال الحرب الثانية.
عنصرية ألهمت النازيين
أما الإيرلنديّون فيذكرونه لدوره في تأسيس ميليشيات فاشيّة داخل بلادهم، مارست أبشع أعمال العنف والقتل والعقاب الجماعيّ والتخريب والاغتصاب بحق مواطنيهم طوال المدة من 1920م إلى 1922م لدرجة أن الجنرال فرانك كروزيير -وكان أحد أكبر ضبّاط الجيش البريطانيّ- تقدّم باستقالته من الجيش وقتها احتجاجًا على إطلاق لندن ليد تلك الميليشيات تعيث خرابًا وفسادًا من دون رقيب. كما يذكره خبراء علم الاجتماع البريطانيون بكراهيته الشديدة للنساء وللمثليين كما لموقفه و«حلم حياته» في تحسين النسل البريطاني عبر اقتراحه عام 1910م –وكان حينها وزيرًا للداخليّة– فكرة تعقيم مئة ألف من المواطنين المعتوهين، والمجانين والمنحرفين أخلاقيًّا لمنعهم من الإنجاب، ومن ثمّ حبسهم داخل معسكرات عمل –على نسق فكرة الغولاغ الروسيّ– سعيًا لـ«وقف انحدار العرق البريطاني» على حد تعبيره، وهي فكرة عنصريّة لا شك كانت مصدر إلهام للنازيين الألمان في وقت لاحق. والمعروف أن تشرشل كان من كبار المعجبين بقوانين أقرّت في ولاية إنديانا بالولايات المتحدة عام 1907م، فرضت التعقيم الإجباري لكل من تصنفه الولاية مختلًّا عقليًّا وتمنعهم من الزّواج، وطبّق بالفعل على أكثر من 65 ألف شخص قبل أن يُعدَّل. وقد أصيب تشرشل عام 1913م بكآبة شديدة عندما رُفضت فكرتُه تلك لدى عرضها على البرلمان، واستعيض عنها بحجز أمثال هؤلاء في مصحات عقليّة فحسب.
بعض المؤرخين أيضًا شكُّوا في دوافعه للتسرع في إعلان الحرب على ألمانيا الهتلريّة عام 1939م، رغم أن قطاعات واسعة من النخبة البريطانيّة كانت متعاطفة مع السياسات العرقيّة النازيّة والفاشيّة بمن فيهم تشرشل نفسه الذي كال قناطير من مديح لبينيتو موسوليني وأدولف هتلر، ورحّب بحرارة بصعودهما إلى السلطة في إيطاليا وألمانيا كأفضل سلاح لمحاربة انتشار الشيوعيّة السوفييتيّة، لكنّه انقلب عليهما فقط بعد انكشاف طموحاتهما التوسعيّة التي تتعدى بكثير حدود بلادهما، وأنهما بذلك قد يزيحان بريطانيا عن مكانتها كقوّة مهيمنة في أوربا والعالم. وللحقيقة فإن هناك بالفعل سجلًّا لخطاب ألقاه تشرشل أمام منسوبي الحزب الفاشيّ بروما عام 1927م، قال فيه: «لو كنت إيطاليًّا، لانضممت إلى صفوفكم من البداية إلى النهاية في مسيرتكم المظفّرة للقضاء على أحلام الشيوعيّة»، كما توجد عدّة مقالات دبجها في أوقات مختلفة يمتدح فيها ألمانيا التي «أنجبت مثل هذا الرّجل –مشيرًا إلى هتلر– ليقود تلك المعركة الطويلة المنهكة للفوز بقلب ألمانيا».
وتسجل مصادر متقاطعة عنه أنّه كان فيكتوريّ النّزعة رجعيًّا في نظرته إلى اليهود، وطالما عدّهم إما مجرد رأسماليين يتغذون على دماء البشر كما تفعل الطفيليّات أو هم شيوعيون بلاشفة أوغاد، وقد عاب دائمًا على اليسار أن قادته باستثناء لينين كانوا يهودًا من كارل ماركس إلى ليون تروتسكي، ومن روزا لوكسمبورغ إلى إيما غولدمان. وهو تبنى دعم الحركة الصهيونيّة بعدما قرأ هجوم تروتسكي العنيف عليها ووجد أنها خير سمّ للقضاء على الشيوعيّة، وأداة عبقريّة لجمع يهود العالم تحت راية الإمبراطوريّة، لكن بعيدًا هناك في فلسطين المحتلّة.
الألمان بدورهم يذكرونه لقراره خلال الحرب العالميّة الثانية تدمير مدينة دريسدن من دون حاجة عسكريّة تذكر وبعد انكفاء الجيش النازيّ. وقد أسفرت حملة القصف الجويّ الكثيف عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين الألمان المحاصرين داخل المدينة الحزينة.
الرّوس أيضًا يجعلونه مسؤولًا عن متاعب الحرب الأهليّة التي اندلعت بدعم ماديّ وسياسيّ وعسكريّ مباشر من لندن عشيّة إسقاط حكم القياصرة عام 1917م. ويميل البعض هناك لتحميله مسؤوليّة دفع البلاشفة حكام روسيا الجدد إلى تبني العنف منهجًا بعد سلسلة واسعة من الأعمال المعادية لهم، ساندها تشرشل بحماس منقطع النّظير، وهو ما مهّد لاحقًا لمرحلة الرّعب الأحمر التي قادها ستالين بعد وفاة لينين عام 1924م، وتسببت في مقتل الملايين بمن فيهم خيرة كوادر الحزب البلشفي نفسه.
سياساته تسببت في تجويع الملايين
لكن أكبر الجرائم المسجلّة باسم تشرشل من حيث عدد الضحايا بعد مذبحة الحرب العالميّة الثانية -التي استهلكت ملايين البشر وكان تشرشل طرفًا رئيسًا في إشعالها- فقد حصلت في أثناء ذات الحرب في البنغال الهنديّة عام 1943م عندما تسببت سياساته في مأساة تجويع مريعة، التي كان يعتقد أنها أودت بحياة مليونين على الأقل من الهنود، بينما كانت الإمدادات التموينيّة تشحن لإطعام الجزيرة البريطانيّة في أثناء الحرب. لكن التقديرات بشأن أعداد الضحايا تصل الآن إلى خمسة ملايين ونصف المليون من الضحايا، بعدما كشفت مؤرخة بريطانيّة مرموقة –من أصول هنديّة– عن وثائق تشير إلى أن التقديرات الأولية لأعداد من فقدوا أرواحهم جرّاء المجاعة المفتعلة كانت حذرة وشديدة التّحفظ.
ومع ذلك كلّه فإن الرّجل بكل المقاييس لا شكّ كان عبقريًّا سياسيًّا، ونجح في أوقات حرجة في جمع معظم البريطانيين مواطنين وسياسيين من الأحزاب المختلفة حوله في منازلة مؤلمة مع ألمانيا الجبارة التي أخضعت معظم أوربا في وقت قصير، ووظف فنون التأثير والدعاية والدّهاء لإقناع الأميركيين بإرسال قواتهم لحسم الحرب في مراحلها الأخيرة، وتسبب للألمان والسوفييت كليهما بخسائر فادحة دمّرت اقتصاد البلدين على مدى طويل لمصلحة بريطانيا وحلفائها.
هذه الصورة الشديدة التعقيد عن تشرشل يجب أن تقرأ أساسًا ودائمًا في إطار المرحلة الزّمنيّة التي عاشها الرجل، وتصورات جيله عن شكل العالم وقتها والسّياقات المحدّدة التي اتخذت فيها القرارات التي تركت آثارًا لا تجفّ من الدماء وأكوامًا من الجثث يصعب إحصاؤها. بل إن تشرشل نفسه –في مذكراته- لم يكن متأكدًا كيف سيتذكره العالم، وإن كان على يقين تامٍّ في أنّ من يدوّن التاريخ يمتلك حظوظًا أفضل ممن لم يفعلوا للحصول على سمعة حسنة بغض النظر عن الوقائع الحقيقيّة. ولذلك فإن المحاولات المستجدّة لاستعادة الرّجل إلى قلب الجدل السياسيّ المعاصر اليوم من خلال الصيغة الأسطوريّة الساطعة غير مدركة لذلك كلّه، وهي تتسبب للمجتمع البريطاني عامة، ولطبقته السياسية خاصة في نوع من العقم الفكريّ، تمنعهما التوافق حول بناء تصوُّر جديد لإدارة واقع المملكة المتحدة خارج أوهام التفوّق والاستثنائية المريضة والعداء للجيران، سواء أولئك الخاضعين لحكم لندن كما في أسكتلندا وإيرلندا الشماليّة وويلز وجبل طارق، أو أولئك الساكنين على الجانب الآخر من القنال الإنجليزيّ. كما أن وضع تشرشل في مكانة النموذج لرئيس الوزراء القويّ دفعت رؤساء الحكومات البريطانيّة المتعاقبة إلى محاولة لعب أدوار صقوريّة لا حاجة للمجتمع الحالي بها وخداع للذات تسبب بحروب وكوارث عدّة في الفولكلاند (مارغريت تاتشر)، وأفغانستان والعراق (توني بلير)، وحاليًّا في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربيّ –بريكست– (تيريزا ماي).
تمامًا كما لا يمكن تعليب شخصيّة هاملت الشكسبيريّة الخياليّة بالاقتصار على ما كتب عنه في سطور المسرحيّة الشهيرة فحسب، أو محاولة فهمها من دون معرفة عميقة بالمرحلة التاريخيّة التي ينتمي إليها، فإنه يستحيل لنا أن نعلّب شخصيّة أكبر من الحياة مثل تشرشل في إطار أدائه خلال الحرب العالميّة الثانية فحسب، أو أن نحاكم سياساته وقراراته بمعزل عن المنظومة التي كان يقودها. ولذا يحسن بالعقلاء في بريطانيا المعاصرة أن يدعوا الرجل يرقد بهدوء في صفحات التاريخ وينصرفوا عن محاولة ترميم «تشرشل- الأسطورة» بعد أن بليت أو كادت، وليلتفتوا من فورهم إلى حقائق الراهن وتحدياته قبل أن تنتهي الإمبراطوريّة المتقاعدة إلى مجرد جزيرة صغيرة بين فرنسا وإيرلندا يقطنها متعاطو أوهام وخداع ذات.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق