كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«رمادي داكن» لطالب الرفاعي
أجواء أليفة تقارب دقات الساعة
لم أقرأ القصة القصيرة من زمن بعيد، ربما لانشغالي بموضوعات نقدية تخص مشروعي النقدي «المكان والنص الجديد»، ولكني فوجئت أن القصة القصيرة، إذا ما أجيد اختيار زاوية الرؤية فيها، يمكنها أن تمد مشروعي النقدي بتصورات جديدة، ربما لكثافتها، وربما لمعايشتها سطح الحياة اليومية، وخلوها من تعقيدات السياسة وصخب الطبقات والأفكار الكبيرة، كما هي قصص الروائي طالب الرفاعي كي لا تحلق بعيدًا من معايشة اليومي والمألوف، وهو ما يعكس طبيعة الحياة اليومية في الكويت، التي لن نجد مثيلًا لها في أي بلد آخر غير الدول الخليجية، وقد نبهتني هذه الملاحظة إلى فكرة عميقة جدًّا، تلك هي أن القصة القصيرة ترتبط بالأمكنة الضيقة والأحياز البيتية الأليفة، أو ما هو مألوف من الأمكنة.
فمعظم القصص تستقر في البيوت ودوائر العمل، أي تنمو بين علاقات الأسرة وانشغالات العمل، وهو مكان كنت قد أفرزت له حيزًا جديدًا في الأمكنة الأليفة، الكيفية التي يصوغ بها المؤلف سرديته فيها، فهي الأخرى من مألوف الكلام، لا تجد كلماته تتجاوز عتبات البيت، وإذا تجاوزتها تصطدم بالجدار أو بأقفال الباب، حيث الخارج يشكل فضاء مغايرًا للأحياز الضيقة، لتجد القصة القصيرة، تتعايش مع الشخصيات المشحونة بقلقها الوجودي، كل توجهاتها إلى دواخلها إلى ما تحت ثيابها، التي تتأثر هفهفتها بأية نسمة إذا ما تغير سياق السرد، شخصيات مشبعة بمحليتها، هادئة لا تتطلب أكثر من راحة ولو بعد حين. إنها جزء من بنية القلق الوجودي لفئة اجتماعية يحركها الرأسمال المتغير ممثلًا بالوظائف والعلاقات الأسرية المرتبكة التي يحركها اضطراب السوق والقيم، والعلاقات، لعل قصص «زجاج أعمى» و«لوحة للهواء» و«قط صغير» و«صورتان» و«حذاء أسود» تلخص أجواء الحال التي وجد طالب الرفاعي فيها محتويات موضوعاته لما يدور في فلك العلاقات البيتية واجتماعياتها المحدودة، بحيث يمكنها أن تخلق دراما تتحرك على سطح الحياة، كما لو كانت الحياة اليومية شاشة تليفزيونية تحلم الشخصيات أن تعرض أفعالها عليها لتراها الناس في لحظات القلق والصفاء، «أنا والصمت والخبر الصغير» ص45. لعل هذا ما يلخص اشتغال الشخصيات. ثمة بنية مألوفة تحرك أجواء السرد: عميد مزور، لص بثياب بنكية، امرأة تدعي ما ليس فيها، عالم خارجي هش، ملامسة عابرة لمشكلات تشير إليها أوضاع البلد، المكياج الذي يبدل اللسان، الحوار الذي لم يكتمل، الخلل في العلاقات الأسرية، ومع ذلك تبدو الشخصيات محملة بمشكلات غير شخصية؛ مشكلات تضغط عليها لتحرفها عن علاقات بيتية متزنة، كأنها وحدها التي تتحمل وزر ما يختل اقتصادها، لا أحد تحدث عن الخلل الاقتصادي للدولة الذي يفرض مثل هذه القيم على بنية الأسرة والموظفين، كأن ذلك يمس مراكز عليا، لا يمكنك السير دائمًا في ظلال الجدران من دون أن تضبط ساعة يدك على مواعيد تتحكم بسياق السرد الذي يشمل البعد السياسي المختفي.
ثمة ما يدفع إلى اليأس
كأن القصة تتحدث عن فواصل بين عمل وآخر، من دون مرجعيات. وفي كل الأحوال ثمة ما يدفع الشخصيات إلى اليأس. مثل هذه الحال الشعبية نادرًا ما تخلق دراما قصصية مشبعة بالمحلية، ولكنها من دون موقف من مراكز القرار تقع في التسطيح والقول العادي إن هي أرجعت كل مشكلاتها لخلافات أسرية وليس لوضع خارجي يضغط على السلوك المادي للشخصيات، لكن القاص ونتيجة خبرته الطويلة في بناء جملته القصصية المكثفة وإجادته تحريك الشخصيات الموضعية، تمكن من أن يختزل الكثير من الإنشاءات اللفظية والتصويرية والوصفية، ويركز على ثيمتين أساسيتين، هما: البعد النفسي عندما تصطدم الشخصيات بعدم تحقيق الرغبات، والبعد الاجتماعي عندما تقتصر القصة على بيئة تفكك الأسرة، «أهرب من وحدتي إليهن: أمي، وإخوتي، وبناتهم، وقريباتنا، معًا نجترّ قصصًا تضحكنا أحيانًا» ص73. ويحيط، أو يحرك الثيمتين الاقتصاد بمعناه السلعي وليس بمعناه العملي؛ إذ الطلبات تتطلب نقودًا، والانتقال من حال إلى أخرى تتطلب تغييرًا في المورد المالي، وتتطلب رؤية أيضًا ترتب بين تحقيقها وتركيبة الأسرة الصغيرة.
ما يجعل فن القصة القصيرة أكثر اضطرابًا هو عدم الهيمنة على الضمائر، كل القصص اختزلت التركيبة الاجتماعية بشخصيتين، وتولى القاص رواية ما يفكر فيه الشخصيات قصة «الثالث»، وكأن المؤلف شخصية ثالثة ترصد وتفعّل المشهد، بحيث لا تشعر بهوية المتكلم إلا من داخل لسان المؤلف، فالمجتمعات التي تنشد التمييز تبدأ فيها الذات بالانشطار، إذ يتكفل الشخص الواحد أمر شخصيات أخرى، فلا تجد زمنًا يحدد ما تقول ولا مكانًا يرتبط بما تقول، كلٌّ يبحث عن ذاته في زمن ومكان يتشكل آنيًا. وربما ثمة من يلتحق بهم اختزالًا للوقت وللسرد من شخصيات ثانوية غير فاعلة، بمعنى أن فن القصة القصيرة لا يزال يتعامل مع كائنات بشرية تشعر في لحظة أنها معزولة تواجه عالمًا من صنع يديها يفلت منها في لحظات وتحاول إعادته إلى وضعه السابق في لحظات لاحقة، وهي ما بين هاتين اللحظتين، يؤكد القاص انفعالاتها والمتغيرات التي تحدث على وضعها المادي. «الترقية ستغير حياتي» ص91، ولكن بعد أن يتغير الكثير من الوضع السابق، هذه النقلة بين زمنين في وقت لا يمكنك أن تفرز فيه الكثير تعود إلى طبيعة النقلات السردية والحوارية السريعة وتداخل الضمائر وإمكانية توصيل الفكرة بإيجاز. من هنا، وفي ضوء ما يحدث، قرأت القصص وأنا أتابع حركات الشخصيات في حيز ضيق جدًّا، إما البيت، أو الوظيفة، أو السيارة، أو الحديقة، أو الحقيبة، أو السوق، ويعطينا الحيز الضيق إمكانية هائلة للتركيز، لعله أكثر الأمكنة قدرة على الاختزال والبوح، بحيث يمكنك أن تدخل إلى باطن الشخصية وتنتقل إلى خارجها من دون أن يتطلب ذلك انتقالة مكانية، وهو ما يعني أنك تتعامل بالرؤية المركزة، حيث الراوية يتخذ بؤرة داخل المشهد.
وهي الرؤية القصدية التي تعني اختيًارا تخييليًّا لما ستؤول إليه مصاير العلاقات. هذا الوضع يجعل المكان يفرض سياقه، وما على المؤلف إلا أن يخضع للمكان الذي تلتئم به سرديات القصة، ومن الغريب أن القصص تنتهي عندما تفكر الشخصيات بذلك، ولا تنتهي نتيجة اكتمال حيثيات الحدث. وهو الأمر الذي يجعل فن السرد عند طالب الرفاعي هو المتحكم بالسياق وليس هناك أي قوة ضاغطة على رسم ما لا تريده الشخصيات. إن القاص يتدخل ويتداخل، وهذا ما يجعله جزءًا من كل الشخصيات وليس شخصية مستقلة بضميرها الصارم الحضور، هذه المرونة إمكانية فنية تتيح للقاص أن يوكل أمر قصصه للأشياء وهي تتكفل قيادة السرد. وقد اتخذ زاوية تبئير في موقع «العتبة» ليس في الداخل كليًّا ولا في الخارج، وهو الأمر الذي مكنه من أن يرى بعينه البانورامية ما يحدث من تغييرات جزئية في المشهد مهما كان المشهد صغيرًا؛ مثل: تشذيب اللحية وتعديل العقال وارتداء الحجاب ولبس الحذاء واحتواء القطة واحتساب النظرة الخاطفة. أو كبيرًا مثل: الدائرة وعلاقاتها الوظيفية.
ما يلفت النظر أن الأمكنة التي تشكل أحياز السرد وتشحن الشخصيات بشحناتها كلها مضيئة بالرغم من حيزها الصغير؛ غرفة ضيقة، ونافذة بزجاج سميك، وحقيبة مغلقة، وذاكرة لا مدى بعيد لها، وشقة معلقة في فضاء الضوء، وسيارة متنقلة، وكأن اختزال الأمكنة يوحي بضيق أفق الحياة، مع العلم أن القصص تكاد تفر من قفصها الضيق لتنطلق في الشوارع، ولكن لا توجد شوارع في مدينة طالب الرفاعي. كما لا توجد حوارات خارج أسيجة الأمكنة الضيقة. كل حواراته وسردياته تتم في الأمكنة الضيقة التي تضغط أحيانًا مسببة ضيق النفس.
لعبة أطفال عنيفة
بدا لي عالم طالب الرفاعي لعبة أطفال عنيفة ولكنها مسلية، ما إن تفتح قشرة اللعبة حتى يتكشف مستوى ثانٍ لها أكثر تعقيدًا، وهكذا يفكك القاص مستويات اللعبة اليومية ليجدها بمستويات سردية مختلفة؛ كي يرى ما في داخلها لينتهي أن لا داخل لها إلا ما يتكرر، وإن اختلفت ألوانها وسطوحها ورسومها وشخصياتها، اللغة القصصية لعبة كما يقول فيتغنشتاين، وعليك أن تجد المختبئ فيها مما يعني أن القصة تتكفل في إضاءة ممرات الطريق وليس من مهمتها أن تعالج مشكلة ما. ضمن هذا الحيز من الحركة والمسافات بين القاص وشخصياته لا نجد سعة مكانية ولا زمانية، وكأن القصص وإن تباعدت تواريخها تنتظم في خيط أسري بيئي شعبي يزيد من ضخامتها بينما لا يقوى الخيط على حملها، ستنفرط حبات السرد ثانية وعلى الشخصية المحورية أن تنتظر كأي موظف في مكتب، ومن خلال شاشة الكمبيوتر، رسالة جديدة تقول له: إن عمله قد انتهى في هذه الوظيفة، ولأنك قد تجاوزت وقت الغداء، فعليك أن تبحث عن وظيفة أخرى، في قصة أخرى، لعل الراتب سيكون فيها أفضل.
ما يلفت النظر في عائلة القصص التي احتوتها المجموعة، أنها تنتمي لأسرة واحدة، كأن عنواناتها متفرعة من عنوان كبير هو «البيت الكويتي» وهذا ينقلنا إلى قضية مكانية مهمة وهي أهمية «المسافة» في بناء السرد، فالملاحظ أن كل الشخصيات على علاقة حميمية بعضها مع بعضها الآخر، وهذا ما يجعلها ضمن نوعين من المسافات كما حددها إدوراد هال في كتابه «البعد الخفي»، وهما: المسافة الحميمية، والمسافة الشخصية، وهما المسافتان اللتان تتعلقان بالحياة اليومية لشخصيات أسرية أو بعلاقات وظيفية، ويكاد هذا النموذج من القصص يركز على المسافة ذات البعد القريب أكثر من الأبعاد الأخرى التي تفرضها المسافة الاجتماعية والمسافة الجماهيرية، فالقصص القصيرة تبني بيتها في مثل هذه المسافات التي يكثر فيها كلام علامات الوجه، والصوت الخافت، والرؤية العينية الموضعية، وأحيانًا الإشارة؛ لأن طرائق التوصيل تتعلق بنوعية التفكير في الأمكنة الحميمية والشخصية، ولم نجد قصة تخرج عن هاتين المسافتين؛ لأن البنية الاجتماعية لرؤية القاص تتحدد بالعلاقات الأسرية والشخصية التي تفرضها الأمكنة والأحياز المشحونة بحضورها وأجسادها.
بقيت نقطة مهمة أخرى، ربما هي التي جعلت مجموعة القصص من النوع المألوف، أن القاص منشغل بتفضية مألوفة الأبعاد الحميمية، ونعني بالتفضية المألوفة إشعارَ القارئ أنه في جو واحد لكل القصص، قد تأتي التفضية من البيئة، أو من اختيار القصة لبقعة مكانية أليفة، ولكن مهمة التفضية الجمالية هي أن تشحن النص بشعور الألفة، وبالتالي المشاركة معه في بنية السياق العام للسرد، بحيث يمكن للقارئ أن يضيف وأن يحذف، فهو مشارك فاعل وجزء من شخصيات الألفة المكانية.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق