المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

أولغا إيفينسكايا… عشيقة باسترناك ومصدر إلهامه

اعتُقلت وعاشت مهانة بسببه وصودرت رسائلها ومخطوطاتها

بواسطة | يوليو 1, 2019 | ثقافات

قلّما نجد في تأريخ الأدب العالمي أديبًا عظيمًا حظي بحب امرأة قريبة من عالمه الروحي، وتدخل البهجة إلى حياته في زمن عصيب وكئيب. وكان بوريس باسترناك محظوظًا حقًّا في السنوات الأربع عشرة الأخيرة من حياته، حين التقى وأحب بعمق امرأة فاتنة الجمال، راجحة العقل، بادلته حبه العظيم، ووقفت إلى جانبه في أحلكِ الظروف، وألهمته خيرة أعماله الشعرية والنثرية، وهذه المرأة هي أولغا إيفينسكايا، التي ضحت من أجله كثيرًا، واعتُقلت بسببه مرتين، وقضت سنوات طويلة في معتقلات العمل الإجباري، فقدت خلالها حملها. المرأة التي أصبحت نموذجًا لـ(لارا) بطلة رواية «دكتور زيفاغو»، وقصة الحب بين لارا ودكتور زيفاغو، في الكثير من جوانبها، تجسيدٌ لقصة حب أولغا وباسترناك. العديد من قصائد يوري زيفاغو في نهاية الرواية، هي قصائد باسترناك عن حبه لأولغا.

كانت أولغا فخورة لأنها تحب شاعرًا عظيمًا يبادلها الحب. وقد أدى لقاؤهما إلى تغيير حياتهما، وإلى إحساسهما بسعادة غامرة، رغم المخاطر التي رافقت علاقتهما، والتي واجهاها معًا بكل رباطة جأش وشجاعة. التقى بوريس باسترناك أولغا إيفينسكايا في صبيحة يوم جليدي في أكتوبر عام 1946م، في مجلة «نوفي مير» الأدبية حيث كانت تعمل. رأته فجأة واقفًا أمام طاولتها. لم تصدق من فورها أن الشاعر الذي حلمت به منذ مدة طويلة، وتحفظ بعض قصائده عن ظهر قلب، يقف أمامها مأخوذًا بجمالها. وفيما بعد وصفت أولغا هذا اللقاء الأول بينهما، بعيون أنثوية:«كانت نظرته الأولى، نظرة تقييم متفحصة، من المستحيل أن تخطئها العين. جاء الرجل الذي كنت أحلم به دائمًا، وبحاجة إليه حقًّا. وهذه معجزة مذهلة».

حدثها الشاعر الكبير عن مشاريعه الإبداعية ووعدها بتقديم نسخة من دواوينه الشعرية لها. وقد وفَّي بوعده في زيارته اللاحقة لمكتب المجلة.

أولغا كانت خريجة المعهد الأدبي، ولها محاولات في الشعر، وتحرص دائمًا على حضور لقاءات باسترناك الشعرية في موسكو. وكانت عند لقائهما قد ترملت مرتين، وتبلغ من العمر 34 عامًا، وتعايش أمها مع ابنتها إيرينا، وابنها ديمتري، في شقة صغيرة. في حين كان بوريس باسترناك في السادسة والخمسين، ويعيش مع أسرته (زوجته الثانية زينائيدا وابنيه يفغيني من زوجته الأولى، وليونيد من زوجته الثانية) في منزله ببلدة الأدباء «بيريديلكينو» قرب موسكو.
ولأن كليهما كانت لديه أسرة فقد كانا يلتقيان في وسط المدينة ويتجولان لساعات عديدة في شوارعها، وينشغلان في كل مرة في حديث لا ينتهي. وفي نهاية كل لقاء كان يوصلها إلى مسكنها في زقاق بوتابوفسكي.

في أحد لقاءاتهما المبكرة في ميدان بوشكين -عندما كانت أولغا، لا تصدّق اعترافه الغامض بحبه لها خلال كلامه السريع المخنوق- قال لها: أنت لا تصدقينني ولكنني كنت -كما ترينني الآن عجوزًا، غير وسيم، بذقن بارز- سببًا في الكثير من الدموع النسائية.

لم تفصح أولغا عن حبها له، ولكنها حين عادت مساءً إلى بيتها كانت قلقة، ولم يغمض لها جفن، فجلست لتكتب له عشرات الصفحات عن ماضيها الصعب. وكان لديها الكثير لتكتب عنه. تحدثت عن المصير التراجيدي لزوجها الأول الذي مات منتحرًا، وعن زوجها الثاني الذي وشى بأمها، ماريا نيكولايفنا، لدى أجهزة الأمن، فحكم عليها بالسجن ثلاث سنوات بتهمة الدعاية المعادية للسوفييت، وهو ما جعل حياة أولغا الزوجية معه مستحيلة، فانفصلت عنه، ليموت كمدًا وقهرًا.

وفي لقائها التالي بباسترناك، عندما قدمت إليه الدفتر الذي كتبت فيه اعترافاتها، تأثر كثيرًا لسذاجتها. لارا في الجزء الثاني من رواية «دكتور زيفاغو» مدينة بالكثير لهذا الدفتر. وفي تلك الليلة نفسها، بعد أن قرأ باسترناك ما كتبته أولغا، قال لها على الهاتف: «أنا أحبك، وأنت الآن حياتي كلها». إلا أنه لم يفكر في الطلاق من زوجته زينائيدا، رغم أنهما لم يعودا يعيشان كزوجين. كانت زينائيدا تفتقر إلى الرومانسية والرقة والجاذبية. ولا تحاول فهم عالمه الروحي، ولا تهتم بما يفكر فيه أو يكتب عنه، ومختلفة تمامًا عن أولغا الرقيقة، المُحِبّة للأدب، ذات الجاذبية الطاغية.

كان باسترناك يدرك بوضوح ما تنطوي عليه علاقته بأولغا، من تداعيات سلبية على حياتهما. ربما لهذا السبب في 3 إبريل 1947م، حاول قطع العلاقة معها. وفي وقت لاحق كتبت أولغا تقول: «قال ليونيد: إنه ليس لديه الحق في الحب، فكل الأشياء الجيدة ليست له الآن، إنه رجل مسؤول، ولا ينبغي أن أشغله عن مسار حياته وعمله. ولكنه سيعتني بي دائمًا. وكان الفراق حزينًا ومؤلمًا».

ومع ذلك، في فجر اليوم التالي بعد «الانفصال» وفي الساعة السادسة صباحًا، رنَّ الجرس في شقة أولغا. خلف الباب كان يقف بوريس باسترناك. تعانقا وضمها إلى صدره في صمت. الآن أصبحت لقاءاتهما دائمة. كانت أولغا تستقبل حبيبها برداء علوي من الحرير الأزرق، وهو الرداء الذي خلَّده الشاعر في وقت لاحق في قصائد الدكتور زيفاغو: «حين تعانقينني في رداء علوي من الحرير». ويقول باسترناك في متن الرواية: «آه، كان هذا حبًّا فريدًا لم يسبق له مثيل، ولا يشبه أي شيء آخر. كانا يحبان بعضهما؛ لأنّ كلّ ما حولهما أراد ذلك: الأرض تحت أقدامهما، والسماء فوقهما، السحب والأشجار. حبهما كان يروق لمن يقابلهما في الطريق، أكثر مما يروق لهما».

مؤشر الساعة الناعس الكسول

يتباطأ في الدوران

واليوم يدوم أكثر من قرن

ولا نهاية للعناق

لم يكن بوسع الحبيبين إخفاء قصة الحب التي شاع أمرها بين الأقارب والأصدقاء. ولم يحاول باسترناك إنكار علاقته بأولغا. وتذكر الفنانة التشكيلية أولغا بوبوفا -وكانت صديقة مشتركة لهما- في مذكراتها: «ذات مرة ركع باسترناك على ركبتيه أمام أولغا في بولفار غوغل، فشعرت بالحرج الشديد، وطلبت منه الكف عن هذه التصرفات الغريبة». فقال لها: «دعيهم يعتقدون أن هذا مشهد في فِلْم سينمائي» لم يكن ينتابه أي إحساس بالخجل من مشاعره، ولا يخشى أن يبدو مضحكا، أو ضعيفًا.

بداية المتاعب

ذات مرة عندما كانت زينائيدا، زوجة الشاعر، تقوم بتنظيف مكتب زوجها، عثرت على رسالة من أولغا. وكتبت زينائيدا في مذكراتها لاحقًا، أنها أدركت أن زوجها يهيم حبًّا بأولغا. واعترفت بأنها مذنبة في كل شيء: «بعد وفاة ابني من زوجي الأول، التي هزتني، كنت منهمكة بالعمل الاجتماعي، وانشغلت عن زوجي، وتخلَّيت عن مسؤولياتي كرَبَّة بيت وزوجة».

المقربون من الشاعر انهالوا على أولغا باللوم والتأنيب، واتهموها بالغدر والخبث، ومارسوا الضغط على باسترناك، وطالبوه، بوضع حد لهذه العلاقة (المشينة). ولكن باسترناك اعترف لأحد أصدقائه: «أنا بكُلِّيّتي، بروحي، وعملي، ملك لأوليوشا (اسم التحبب لأولغا). أما زينائيدا زوجتي، فليس لديها سوى العلاقة الشكلية، لا بد أن يبقى لها شيء؛ لأنني مَدين لها أيضًا». لكنّ زينائيدا لم تفكر بالاستسلام. وكتبت في مذكراتها «شعر بوريس بالخجل وطلب المغفرة. وجلس من فوره إلى مكتبه، وكتب رسالة إلى هذه السيدة، قائلًا: إن من الضروري إنهاء علاقتهما، وعدم اللقاء مجددًا. أعطاني الرسالة لنقلها إليها. وهذا ما فعلته بسرور».

وكتبت أولغا بوبوفا – التي كانت في هذا الوقت حاضرة في شقة أولغا إيفينسكايا – تقول في مذكراتها: «كانت زينائيدا لا ترحم منافستها. طلبت من إيفينسكايا التوقف عن ملاحقة زوجها، قائلة: إنها ستقاتل من أجل أسرتها وسعادتها. وردت عليها أولغا: إن زوجك لا يحبك، بل يحبني، وهو ينوء بعبء الزواج منذ مدة طويلة». لكن زينائيدا كانت مصرَّة على موقفها وبعد رحيلها، أخذت أولغا عدة أقراص مهدئة دفعة واحدة فتردت صحتها ونُقلت إلى المستشفى، وقيل: إنها حاولت الانتحار.

ولكن العلاقة لم تنقطع بين باسترناك وأولغا رغم ما أحاط بهما من متاعب. لم تكن الحياة سهلة لهما، وبخاصة أولغا، التي كانت تعيش مع طفليها وأمها في شقة صغيرة من غرفتين. وكانت أمها تدين علاقة ابنتها برجل متزوج يكبرها بنحو ثلاثة وعشرين عامًا، وترى هذه العلاقة غير معقولة وطائشة. وكانت أولغا غالبًا ما تجهش بالبكاء
في الليل بغرفتها.

تعذيب باسترناك باعتقال حبيبته

كانت السنوات الخمس التي سبقت وفاة ستالين صعبة في الاتحاد السوفييتي، وكان خطر الاعتقال والسجن حتى التصفية الجسدية محدقًا بكل من له أقارب في الخارج، وعلى اتصال معهم، ومن ضمنهم باسترناك الذي كان له اتصال وثيق بشقيقتيه (جوزفين وليديا) اللتين تعيشان في أكسفورد بإنجلترا، ولهذا كان تحت المراقبة السرية الدائمة من جانب الأجهزة الأمنية. وذات مرة عندما كان باسترناك وأولغا جالسين على إحدى المصاطب في حديقة عامة لاحظت أولغا رجلًا يراقبهما عن قرب.

في السادس من أكتوبر عام 1949م، أُلقِي القبض على أولغا بسبب علاقتها بباسترناك المشتبه باتصاله بالإنجليز، ووُجِّهت إليها تهمة التخطيط للهرب مع باسترناك إلى الخارج، وأن عشيقها على اتصال بالمخابرات البريطانية، كما أن الرواية التي يكتبها معادية للسوفييت، وطلبوا منها في أثناء التحقيق أن تعترف يذلك. قضت أولغا عدة أشهر في زنزانة باردة ورطبة، وكان يُحَقَّق معها يوميًّا تحت التهديد والوعيد -رغم أنها كانت حاملًا من باسترناك وفي شهرها السادس- من أجل انتزاع اعترافات منها تدين باسترناك. وأدى التحقيق الخشن إلى إسقاط الجنين، إلا أنها صمدت، ورفضت أن تدلي بأي شيء قد يدين باسترناك أو يسيء إليه.

أولغا إيفينسكايا

وفيما بعد كتبت أولغا تقول: «وجاء اليوم الذي أبلغني فيه ملازم مفوه بصدور الحكم عليَّ بخمس سنوات أقضيها في معسكرات الاعتقال والعمل الإجباري؛ لأنني قريبة من الأشخاص المشتبه في قيامهم بالتجسس». أُرسِلت أولغا إلى معتقل بوتما في جمهورية موردوفيا، حيث قضت ثلاث سنوات ونصف السنة، وكانت تتلقى أحيانًا رسائل من باسترناك. وقالت: إن مجرد توقع هذه الرسائل ساعدها  على الصمود، في خضم الإذلال والتعامل غير الإنساني. بذل الشاعر جهودًا حثيثة لدى الجهات المختصة لإطلاق سراح حبيبته لكن دون جدوى. الشيء الوحيد الذي كان بمقدوره أن يفعله لمساعدة أولغا هو الاعتناء بطفليها وأمها ماريا نيكولايفنا طوال سنوات سجنها، وكان يقدم لهم مبالغ نقدية لتأمين متطلبات الحياة. كتبت إيرينا إميليانوفا -ابنة أولغا من زوجها الأول- تقول: «إننا مدينون لباسترناك لأن طفولتنا رغم المصاعب كانت إنسانية بفضل مساعداته المالية ورعايته لنا».

أُفرِج عن أولغا في عام 1953م بعد قضاء نحو أربع سنوات في السجن وشمولها بالعفو العام -الذي صدر عقب وفاة ستالين ببضعة أشهر- عن الذين تقل أحكامهم عن خمس سنوات. وعادت مرة أخرى إلى باسترناك، الذي كان قد أصيب بأول جلطة في القلب، وكان يبدو أنه قد شاخ لسنوات. ولكن حبه لأولغا أصبح أقوى من ذي قبل، وعلاقته بها تبدو أكثر حنانًا ورِقَّة. وجاء في رسالة مؤرخة في الأول من نوفمبر عام 1957م، كتبها باسترناك بالإنجليزية إلى شقيقته ليديا في إنجلترا: «يجب أن أقول عن الدور الذي لعبته أولغا إيفينسكايا في حياتي على مدى السنوات العشر الماضية. إنها (لارا) روايتي. وهي الإنسانة الوحيدة، التي أناقش معها عبء الزمن، وما ينبغي القيام به والتفكير فيه وكتابته».

وفي رسالته المؤرخة في مايو عام 1958م، إلى صديقته رينات شوايزر في ألمانيا كتب يقول: «بعد الحرب الثانية التقيت امرأة شابة – أولغا إيفينسكايا. إنها (لارا) روايتي التي بدأت كتابتها في ذلك الوقت. إنها تجسيد للبهجة والتضحية، ولا يبدو عليها ما عانته في حياتها وهي على علم بحياتي الروحية، وبكل شيء عني». وأبدى باسترناك إعجابه بشجاعة أولغا في لقاء مع صحافية أجنبية: «لقد سُجِنتْ بسببي كأقرب شخص لي، لكي تعترف من خلال استجوابات مؤلمة تحت التهديد، وتكون لديهم أسباب كافية لمحاكمتي. وقد أنقذتني ببطولتها وصمودها، وأنا مدين لها بحياتي. ويعود لها الفضل في بقائي طليقًا في تلك السنوات». ثم أضاف: «لارا حبي المحفور في قلبي بدمها وسنوات سجنها».

استأجرت أولغا في قرية أسمالكوفا -القريبة من بلدة الأدباء (بريديلكينو) حيث يسكن باسترناك- غرفة صغيرة تطل على شرفة في منزل يعود إلى أحد سكان القرية. وكان باسترناك يقطع المسافة غالبًا من منزله إلى أسمالكوفا مشيًا على الأقدام. وكانت أولغا وابنتها إيرينا يتعرفان إليه من بعيد لدى قدومه. فقد كان يأتي دائمًا وهو يعتمر قلنسوة، ويرتدي حذاءً مطاطيًّا، ومعطفًا خشنًا. في هذه الغرفة البسيطة كانت أولغا تطبع مخطوطة رواية «دكتور زيفاغو» على آلة طابعة رديئة من طراز «موسكفا».

في نهاية إبريل عام 1960م، تدهورت صحة باسترناك، وكاد يفقد وعيه، واضطر أن يلازم الفراش، وأدرك أن أيامه معدودة، وطلب عدم السماح لأولغا بزيارته تحاشيًا لأي مشاجرة بينها وبين زينائيدا، ولجأ إلى كتابة رسائل قصيرة إلى حبيبته. وكتب في إحدى هذه الرسائل قبيل وفاته بمدة وجيزة: «عزيزتي أوليوشا، لقد كتبت اليوم إليكِ وها أنا أكتب إليك مرة أخرى، أنا معك طوال اليوم. أشعر أنك جزء مني، وكأننا كائن واحد، وأبعث رسائل لنفسي. أكتب وأموت من الحنين إليكِ». وقال في رسالة أخرى: «جميلتي الذهبية، رسالتك هدية ثمينة. إنها وحدها التي يمكن أن تشفي، وتلهم، وتبعث الحياة في كياني».

على الرغم من التوقعات المتفائلة للأطباء، تردت حالة الشاعر الصحية بسرعة. كان يردد وهو طريح الفراش، أن السبب في تدهور صحته ليس مرض القلب، بل مرض خبيث ورهيب، ولكن الأطباء استمروا في معالجة قلبه. وكان تشخيص باسترناك لمرضه صائبًا، وتأكد ذلك حين قام الأطباء بعد عدة أيام بإجراء فحوصات له بالأشعة السينية وتبيَّن أنه مصاب بسرطان الرئة. عندما علمت أولغا، أن حالة حبيبها تتدهور بسرعة، حاولت زيارته، ولكن زينائيدا منعتها من دخول المنزل، فجلست على مصطبة قريبة وأجهشت بالبكاء، غير أنها لم تكن تستطيع أن تقول له وداعًا.

قبيل وفاته، أخبر الكاتب أقاربه أنه يسره أن يموت؛ لأنه لم يعد بوسعه أن يرى خِسّة البشر، وأنه يرحل من دون أن يتصالح مع الحياة. تُوفِّي باسترناك في 30 مايو 1960م. وكان وقعُ وفاته شديدًا على أولغا ومؤلمًا لها جدًّا، فاستسلمت إلى الهمّ بعد فجيعتها في حبيبها. الأصدقاء المقربون منها -الذين كانوا يتوددون إليها خلال حياة الشاعر– لم يكتفوا بالإعراض عنها وتركها وحيدة، بل أخذوا بالتشهير بها، وفَبْركة الأكاذيب حولها. أما أقرباء الشاعر فقد وصفوها بأكثر النعوت ابتذالًا. وأخذوا يشيعون عنها روايات مفبركة، ومع ذلك فإن الأسوأ ما كان ينتظرها في قابل الأيام.

الدولة لا تعترف بوصية باسترناك

أوصى باسترناك بأن تقسّم حصته من أرباح نشر مؤلفاته في الخارج مناصفة بين زوجته زينائيدا وحبيبته أولغا. وعندما أرسل الناشر الإيطالي -الذي يحتفظ بموجب عقد مع باسترناك بحقوق نشر «دكتور زيفاغو» في خارج الاتحاد السوفييتي، أول دفعة مالية من حصة أولغا إلى موسكو عن طريق مبعوث خاص في صيف عام 1960م. أرسلت أولغا ابنتها إيرينا لاستلام النقود أمام بناية البريد المركزي في شارع غوركي بموسكو، وبعد عدة ساعات اقتحمت مجموعة مسلحة من الأمن السري شقة أولغا وصادروا، ليس الأموال فقط، بل كل رسائل الشاعر إليها، ومخطوطة أحدث أعماله غير المكتملة «الحسناء العمياء»، وكل مخطوطات أولغا نفسها، وأُلقِيَ القبض على أولغا وابنتها إيرينا، بتهمة تسلُّم أموال مهربة. وحُكم على أولغا بالسجن ثماني سنوات مع الأشغال الشاقة، وأُرسلت إلى أحد المعتقلات في موردوفيا، كما حُكم على ابنتها إيرينا بالسجن أربع سنوات وأُرسلت إلى معتقل آخر. وبعد مطالبة الأوساط الثقافية الأجنبية بالإفراج عنهما قامت الإذاعة السوفييتية الموجهة إلى الخارج بالتشهير بهما.

أُطلِق سراح أولغا وابنتها في عام 1962م قبل انتهاء مُدَّتَيْ حُكميهما. وعلى الرغم من إعادة الاعتبار إليهما في عام 1988م فلم تستردّ أولغا رسائل باسترناك التي صُودرت عند اقتحام شقتها. عندما تُوفي باسترناك كانت أولغا في الثامنة والأربعين من عمرها، ولم تزل جميلة وجذّابة، لكنها لم تتزوج، ولم تعقد أي علاقة عاطفية مع أي رجل آخر قط؛ لأن الحب فَقَدَ بالنسبة إليها معناه بعد حبيبها العظيم.

في أوائل التسعينيات، كتبت أولغا تقول: «أبلغُ من العمر 82 عامًا، وأتعرض إلى موجة من القذف والافتراء، ولا أريد أن أغادر الحياة وأنا مهانة ومظلومة». لذا سعت إلى نشر مذكراتها في وطنها لإطلاع الجميع على خبايا الحب الحقيقي والكبير والنادر بينها وبين باسترناك.

مذكرات أولغا

بين عامي 1972- 1974م كتبت أولغا إيفينسكايا مذكراتها تحت عنوان: «في أَسْر الزمن. سنوات مع بوريس باسترناك». تحدثت فيها عن الزمن السوفييتي العصيب، وعن شخصية الشاعر وعن شعره ورسائله إليها، وعن حياتهما المعذَّبة وحبِّهما العظيم، وعن الأحداث المأساوية المتعلقة بتأليف رواية «دكتور زيفاغو» ونشرها؛ العمل
الأدبي الرئيس في حياة باسترناك، وعن الضجة التي أُثيرت حول فوزه بجائزة نوبل، وإرغامه على رفضها، وعن رسالة باسترناك إلى نيكيتا خروشوف وجريدة «برافدا».

كان من الواضح أن هذه المذكرات لن تنشر في الاتحاد السوفييتي. وقد قام الشاعر يفغيني يفتوشينكو –الذي كان يكنُّ احترامًا كبيرًا لباسترناك ولأولغا إيفينسكايا– بتهريب المذكرات، إلى فرنسا حيث نُشرت في باريس عام 1979م، وسرعان ما تُرجِمت إلى أكثر من عشرين لغةً أجنبية. لا توجد في هذه المذكرات أي نرجسية، ولا أي محاولة لتلميع صورتها، أو مبالغة في تصوير عِشق باسترناك لها. ربما ثمة بعض الدَّلَال الأُنثوي الخفيف لا أكثر وهذا أمر مفهوم ومسوَّغ من امرأة كانت محطَّ أنظار الرجال لجمالها وأناقتها ولباقتها.

أولغا كانت تدرك المسافة بينها كمحررة ومترجمة وشاعرة متواضعة الموهبة، وبين شاعر وروائي عالمي. وكتبت بوضوح وعمق عن معاناة باسترناك وتمزقه الرُّوحيّ في ظروف بالغة التعقيد. واختتمت مذكراتها بالقول: «حبيبي! ها أنا أُنهِي كتابة مذكراتي عنك وحياتي معك. اغفر لي؛ لأنني لم أتمكن ولن أتمكن أبدًا من الكتابة على المستوى الذي تستحقه. عندما التقينا أولَ مرةٍ في «نوفي مير» كنت بالكاد أبلغ من العمر أربعة وثلاثين عامًا. لقد كرَّستُ معظم حياتي الواعية لك، وسأُكرِّس لك أيضًا ما تبقى منها. أنت تعلم -أن الحياة لم تكن رحيمةً بي، ولكنني لا أشتكي، فقد أعطتني سعادة عظيمة في الحب والعلاقة معك. ولن أنسى ما حييت وصيَّتك: لا يجب عليكِ أبدًا، في أي حال من الأحوال، أن تشعري باليأس. فالأمل المقرون بالعمل هو واجبنا في التعاسة».

تُوفِّيت أولغا في الثامن من سبتمبر عام 1995م عن عمر يناهز 83 عامًا. ونشرت عدة صحف وقنوات تلفزة خبر وفاتها، كما لو كانت نجمة سينمائية أو مغنية شهيرة.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *