كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الثورات العربية: الدروس والتحديات
بعد المآلات البائسة للثورات العربية حَسِبَ الكثيرون أن الأمر قد قُضِيَ، وأن ما سمي «الربيع العربي»، قد أصبح وراءنا، لأنه لم يكن سوى حركات مشبوهة استهدفت إسقاط الأنظمة القومية التي تقاوم وتمانع أشكال القهر والهيمنة. ولكن ها هي الأحداث في السودان، ثم في الجزائر، تفاجئ العرب والعالم بما لم يكن متوقعًا: موجات جديدة من الانتفاضات تقول بأن الثورات العربية هي أمامنا. فقد انفجر في كلا البلدين، مع اختلاف الأسلوب والظرف، حراك شعبي هائل، عفوي، سلمي، مدني، بدأ بطرح المطالب المتعلقة بالحريات وتحسين الأوضاع المعيشية، وانتهى بالمطالبة بإسقاط النظام القائم وتغييره بصورة جذرية.
واللافت في الثورتين، وعلى خلاف ما جرى في الموجة الأولى من الثورات العربية، مشاركة تجمع الهيئات المهنية من محامين ومهندسين وأطباء وقضاة وأساتذة جامعيين. وهو الأمر الذي أكسب الحراك الشعبي تماسكه ووزنه. ثمة أمر آخر لافت هو أنه في كلتا الثورتين لم تطرح شعارات إسلامية. فكان الحراك ذا طابع وطني، وذا توجه ديمقراطي ليبرالي. هذه الفاعلية الإيجابية، السلمية، المدنية، الناعمة، هو ما حملني، منذ انفجار الحدث، على أن أقرأ هذا التحول، بوصفه تراجعًا للمدِّ الأصولي، الذي هيمن على المشهد منذ ثمانينيات القرن الماضي، لمصلحة الكتلة الحداثية، بمكوناتها المدنية والعلمانية والليبرالية.
الميدان والبرلمان
لا شك أن الثورة، في الجزائر كما في السودان، تواجه تحديات كبيرة، أُشير إلى ثلاثة منها: التحدي الأول: هو أن الثورة، كلحظة استثنائية، قد خلقت وضعًا تتضارب فيه الصلاحيات وتتصارع المشروعيات، بين شرعية الميدان وشرعية البرلمان، بين شرعية الحراك الشعبي وشرعية المؤسسات الدستورية القائمة. وفي اللحظات الاستثنائية تكون الأولوية للشعب، أي للديمقراطية المباشرة في الميدان. والسؤال: كيف سيُترجَم الحراك الشعبي، قبل أن ينفد أو يخرب، إلى شرعية جديدة تتكفّل بوضع دستور جديد على أساسه تتمّ أعمال الإصلاح والتغيير؟
التحدي الثاني: هو عسكرة الحراك المدني، بتحويله إلى ميليشيات مسلحة تخرب الثورات، كما جرى في اليمن وسوريا وليبيا، بفعل تدخل الحكومات أو الحركات الإسلامية ومنظماتها الإهاربية، سواء من جانب الجهاديين من أهل الخلافة أو المجاهدين من أهل الولاية، وكلاهما وجهان لعملة واحدة. فماذا يفعل أهل الحراك للخروج من هذا المأزق، إن في الجزائر أو في السودان، كي لا تتحول الثورة نحو التطرف والعنف، بعد أن قرر الجيش الإمساك بالسلطة؟ بالطبع تحضر هنا تونس بوصفها استثناءً بين الثورات العربية، حيث الجيش وقف على الحياد، وحيث الكتلة الحداثية والهيئات المدنية استجمعت قواها وفرضت تراجع حزب النهضة الإسلامي الذي حاول القبض على السلطة واحتكار الثورة وربما تخريبها.
التحدي الثالث: يمثله الجيش كلاعب فاعل له دوره وأثره، وبخاصة في الدول العربية، التي هي في معظمها دول عسكرية أمنية. لا شك أن الجيش في كلا البلدين اعترف بمشروعية الحراك وأيد مطالبه، أقله تحت ضغط الشارع. والحصيلة في الجزائر تراجع الرئيس بوتفليقة عن ترشحه لولاية خامسة وإجباره على الاستقالة. أما في السودان فإن الجيش، وبعد تردد، قد استجاب لمطالب قوى الحرية والتغيير، فأطاح بالرئيس عمر البشير ووعد بنقل السلطة للهيئات المدنية. وما زال الأمر في كلا البلدين محل أخذ وردّ؛ إذ من الصعب على الجيوش أن تسلم السلطة للهيئات المدنية. من هنا فإن المرحلة الانتقالية ستشكل مختبرًا لكل اللاعبين على المسرح، وسيبقى مصير الحراك متوقفًا على ما يمكن أن تتمخض عنه الصراعات والمناقشات التي تضع قوى التغيير على المحك، من حيث قدرتها على نقل المجتمع من عصر إلى عصر، ومن طور إلى طور. لم يعد يكفي طرح الشعارات الجاهزة. فالتحول الديمقراطي ليس مجرد نموذج يطبق، إنما هو خبرة وجودية تسفر عن تجديد مفهوم الديمقراطية وتطوير مجالات عملها وآليات ممارستها. من هنا لا بد من إعادة ابتكار الشعارات، على ضوء التحولات، كما على وقع الإخفاقات والأزمات، سواء تعلق الأمر بالديمقراطية أو بالحرية أو بحقوق الإنسان. في أي حال، لا عودة إلى الوراء. وإذا كانت الانتفاضات، التي اندلعت عام 2011م، قد أسقطت غير حاكم مستبدّ أو فاشل، فإنه بات من المستحيل استمرار الوضع القائم، الذي تتصارع فيه الأنظمة الدكتاتورية والحركات الأصولية ويتواطأ بعضها مع بعض، إلا على سبيل الاستبداد والإرهاب أو الفساد والخراب، وهو الأمر الذي يخلق المجال لولادة انتفاضات جديدة.
مقتل الثورات
إن الحدث الجاري مفتوح على ممكناته، أيًّا كانت الإجابات والاحتمالات. وما بإمكاننا قوله الآن هو الكلام على الدروس التي يمكن استخلاصها من التجارب الناجحة والفاشلة، فيما يخص الثورات عامةً، والثورات العربية السالفة والجارية، بصفة خاصة. الدرس الأول هو أن الثورة ليست عرسًا ولا فردوسًا كما يخالها الثوار. ونحن ننسى أن هيغل الذي كان مؤيدًا للثورة الفرنسية الكبرى (1789م) قد عرّف الثورة بأنها الإرهاب. والثورة تتحول إلى عمل إرهابي يمارس أهله العنف الأعمى والفاحش، عندما تُعامَل القضايا والشعارات، فيما يخصّ الفصل بين الحقيقة والخطأ أو الحرية والاستبداد أو الخير والشر، بوصفها حقائق مطلقة أو أيقونات مقدّسة أو حلول قصوى ونهائية. وهو الأمر الذي يفخّخ المطالب ويجعل الثورة تُفاجئ المنخرطين فيها، بكونها تنتهك شعاراتها وتأكل أبناءها.
والخروج من هذا المأزق، بدايته ومفتاحه المراجعة النقدية للمفاهيم المتعلقة بالحقوق والحريات، إذ هي تحتاج دومًا، لكونها تستهلك أو تنتهك، إلى إعادة النظر والبناء، على سبيل التعويم والترميم أو التعزيز والتفعيل أو التطوير والتجديد. وهذه مهمة المثقفين والعاملين في ميادين المعرفة، الذين تفاجئهم الأحداث دومًا، لتكشف عن سذاجتهم الثورية وتهويماتهم النضالية ومزاعمهم الطوباوية. ولذا لم يعد بوسع أحد أن يدّعي عشقًا للحرية أو تماهيًا مع العدالة أو احتكارًا للحقيقة. فما ينتظر من المثقف هو العمل على قراءة المجريات وتشخيص الواقع، بابتكار ما يحتاج إليه ذلك من اللغات المفهومية والصيغ العقلانية التي يمكن أن تترجم إلى إستراتيجيات فعّالة وبناءة. فنحن ننجح في تغيير الواقع بقدر ما نحسن قراءته.
دولة القوانين
الدرس الثاني مفاده أن ما يخرب الثورات هو تصرف قادتها وصُنّاعها بعقلية الثأر والانتقام، كما تجسد ذلك في المحاكمات الاعتباطية، وعلى ما كان من أمر الثورات المشهورة، من الثورة الفرنسية إلى الثورة الروسية، وصولًا إلى ثورات التحرر الوطني والسياسي. نحن نمجد هذه الثورات ورموزها مع أنها كانت ثورات المقاصل والإعدامات ومعسكرات الاعتقال وأقبية التعذيب أو التصفية بالحرق والأسيد. ولذا يؤمل من الانتفاضات التي تسعى إلى التغيير بالوسائل السلمية والقوة الناعمة، التأسيس لشرعية جديدة، من حيث قيمها ومعاييرها وقوانينها، ننتقل معها من الدولة الأمنية المخابراتية إلى دولة القوانين والمؤسسات، بحيث يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات من غير تمييز على أساس خصوصيتهم الثقافية أو المجتمعية، حيث لا أحد يعلو فوق سلطة القانون، كما لا أحد يُتّهم من دون سند قانوني. والعمل بهذه القواعد يضع حدًّا لمافيات الفساد والنهب للمال العام، كما يضع حدًّا للسلطات والأجهزة الأمنية التي تلفق التهم ضد المعارضة لمصادرة حرية التعبير والتنظيم التي تكفلها القوانين وشرعة حقوق الإنسان. فلا معنى للثورات ولبرامج الإصلاح والتغيير، إذا لم ننجح في بناء دولة المواطنة والقانون والحقوق والعدالة، وعلى نحو يُنهي عهد الزعماء الذين يتعاملون من بلدانهم ومقدراتها بوصفها ملكهم الذي يتصرفون فيه كما يشاؤون.
الأمر الذي يقتضي كسر المنطق الأحادي السلطوي أو الشمولي، للعمل بمنطق تداولي يتجسد في الانفتاح على المختلف والمعارض في الرأي والموقف أو الخط والبرنامج، وبفكر مركب يستطيع أصحابه قراءة الواقع المعقد في مختلف أبعاده وجوانبه. فالحلول للمشكلات هي تركيب وتأليف أكثر مما هي حسم اتجاه ضد آخر.
نموذج جديد
وما دام لا أحد يملك الحقيقة، فما نقتنع به أو نطرحه هو مجرد رهان، لا أكثر. والرهان أن تطوي الثورات المشتعلة صفحة النموذج الثوري العربي التحرري، الذي اتّسم بالصلف والتكبّر، والذي كان يعتقد أصحابه بأنهم يمتلكون الحقيقة ويصنعون التاريخ، فإذا بهم يدمرون الحاضر ويلغمون المستقبل. ومما يبعث على التفاؤل أن نشهد في الجزائر نموذجًا جديدًا للثائر المتواضع، الذي يبتسم ويرقص ويغني، والذي يهتم بتنظيف الشارع بعد المسيرة، بقدر ما يتفنّن ويبتكر شعارات طريفة أو رسومًا جميلة أو أساليب جديدة في الحوار والتواصل مع الناس. وكان لافتًا في السودان أن تقف المغنية والثائرة آلاء صالح وسط الحشود، لتقول: جننونا، حرقونا، حقرونا، قتلونا باسم الدين! مثل هذا النموذج هو الذي يصنع المستقبل. لقد أُتخمنا تكفيرًا وتخوينًا وإدانةً، لكي نحصد كل هذه البربرية.
كيف نتغير؟
الدرس الأخير مفاده أن الثورات الساعية إلى تغيير الأنظمة السياسية والأمنية، لا تنجح ما لم تسع إلى تغيير البنى الثقافية والمجتمعية المتجذرة والراسخة، والمنتجة لكل هذا العنف والتوحش. فسقوط رئيس أو انهيار نظام يشكل فرصة لتغيير العقليات والمفاهيم، لتجديد أنماط التفكير ووسائل التدبير أو صيغ العيش وقواعد التداول. لا يعني ذلك أن نحكم على الثورات بالفشل، بالقول: إنها أسقطت الرؤساء ولم تغير البنى العميقة للمجتمعات العربية. مثل هذا القول يشهد ضد أصحابه لأن مبناه أنهم فشلوا، بعد عقود من طرح مشاريعهم للتغير، من إجراء تحويل ثقافي وفكري في مجتمعاتهم. فلا نلومنّ إذا الحشود التي خرجت إلى الساحات بعد فشل المثقفين، سواء في تصوراتهم للواقع أو في خططهم لتغييره. والرهان هو إعادة النظر في مفهوم التغيير بالذات، في ضوء ما يجري من التحولات الهائلة التي تشهدها المجتمعات البشرية مع الدخول في عصر العولمة والمعلومة والشبكة.
نحن ندخل اليوم في المجتمع التداولي، ومعه تتغير بنية المجتمع وخريطته، بمعنيين: الأول أن كل فرد بات له، مع مواقع التواصل الاجتماعي، علاقة بالحقيقة والمعرفة أو بالقدرة والفاعلية. والثاني هو أن المجتمع لم يعد مجتمع نخبة وجمهور، وإنما هو قطاعاته المنتجة وقواه الفاعلة، بقدر ما هو شبكة تأثيراته المتبادلة وصيرورة تحولاته المتواصلة. في ضوء هذه المقاربة تتغير إستراتيجية التغيير نفسها، فلم يعد يكفي أن نملك برنامجًا أو نموذجًا، أي لم يعد يكفي محتوى الخطط والبرامج. فسواء كنا من دعاة الثورة أو الإصلاح، وسواء كنا من أصحاب المذهب الاشتراكي أو الرأسمالي، القومي أو الإسلامي أو الوسطي، فقد بات من المهم أن نعرف كيف نغير ونتغير. أشير إلى ثلاثة مجالات مستبعدة يطولها التغيير:
الأول: هو أن التغيير لا يتحقق ما لم يصبح كل مواطن فاعلًا ومشاركًا في أعمال البناء. والذي لا تتاح له اليوم الفرصة للعمل الإيجابي والبنّاء، وللمشاركة السياسية الفاعلة، إنما يعمل بصورة سلبية. هذا ما تشهد به حركة «السترات الصفر» التي كان أحد أسباب ولادتها هو تهميش شريحة واسعة من الفرنسيين والحؤول بينهم وبين المشاركة في صنع ذواتهم ومجتمعهم ومصيرهم.
الثاني: أن التغيير لا يتم وفقًا لخطة معدة مسبقًا من جانب فرد أو نخبة، كما كانت تجري الأمور في العصر الصناعي وفي ظل هيمنة أيديولوجيات التقدم. مثل هذه النظرية لم تعد تصلح اليوم. فمن يعتقد أنه يتقدم وفقًا لهدف مرسوم سلفًا، قد يحصد التأخر. ذلك أن التغيير لم يعد يقتصر على الوسائل والأدوات في هذا الزمن السيال والمتسارع، بل يطول أيضًا الأهداف والغايات التي يجري تكييفها أو تعديلها باستمرار، تمامًا كما أن الاستثمار لا يشمل فقط المجالات المعروفة، بل يتحقق بخلق مجالات جديدة.
الثالث: كسر ثنائية النخبة والجمهور وما شابهها. فلا أحد يعرف مصالح الناس أكثر منهم، ولا أحد يدافع عن الحقوق أفضل من أصحابها. هذه أوهام سقطت مع إخفاق المشاريع النخبوية ووصولها إلى نهاياتها البائسة: عبادة الشخصية، تأليه الزعماء، تأبيد السلطات بتحويل الجمهوريات إلى ملكيات. من هنا لم يعد التغيير أيًّا كان محتواه، يتوقف على رئيس متمركز حول سلطته، أو على نخبة غارقة في أوهامها أو تتستر على فضائحها.
ربما تكون الجماهير والحشود مفيدة في اللحظات الاستثنائية، عند إسقاط الطغاة أو قلب الأنظمة. ولكن تغيير نظام اجتماعي ليس عملًا جماهريًّا، ولم يعُد عملًا نخبويًّا، على ما كان الاعتقاد السائد لدى القدماء والمحدثين، سواء في العصر اللاهوتي والعبودي، أو في العصر الحديث والصناعي.
إن التغيير هو مسار متواصل، متعدد ومركب، بقدر ما هو شأن مشترك يساهم فيه الجميع، كل من موقعه وبأدوات اختصاصه، بعقلية المسؤولية المتبادلة وقواعد المداولة والشراكة. إنه تجربة فذة خارقة، بقدر ما هو صيرورة يتحول معها المجتمع بكليته إلى ورشة من التفكير الحي والعمل المثمر. بالطول والعرض، وعلى مختلف الصعد والمستويات وفي مختلف الحقول والقطاعات. والمجتمع الذي ينمو على هذا النحو لا يحتاج أساسًا إلى ثورة عنيفة تأكل أبناءها أو ترتد على شعاراتها. بل هو يتغير وينمو ويتقدم بصورة سلمية، مدنية، بطيئة ومتدرجة. ومن حظّ الناس أن يتغير بلدهم على هذه الشاكلة، من دون أن يدفعوا أثمانًا باهظة، دماءً ودمارًا. ولعل بريطانيا هي البلد الوحيد في العالم، الذي لم يعرف ثورات دموية منذ قرون؛ لأن الشؤون تدار بالمشاورة والمداولة والشراكة والاقتراع العام.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق