كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
3 مسارات 3 أدباء… لوغاريتم الوجوه، متتالية الخطى
كنت طفلًا لم أبلغ الثامنة من العمر حينما جيء بأبي دياب لاقتفاء أثر الذئب الذي قتل نصف دزينةٍ من غنم بيت «سليم» قبل أذان فجر جمعة ثلجية؛ في ليلة ثلجها زمهريرٌ لا يقدّم وسْمًا ولا رسْمًا للمارين من دوابَّ أو سيّارة. إلا أن أبا دياب عاد عصر اليوم وبيده «الديب» قائلًا لرؤوسنا: «قصصنا الجبَل معتمدين هذه المرة على النيّات لا على الأثر، يبدو أن نياتنا بيضاء ونية هذا الديب سوداء»! قضيت بعد هذه الحادثة عمرًا أقتفي آثار الذئاب والحكايا معتمدًا على النية، على النية فقط! من دمشق إلى بغداد والنجف، ومن باريس إلى لشبونة وأزينهاغا. بعد طنجة وتطوان وجزر الكناري ثم دمشق مرةً أخرى في رحلات متلاحقة محمومة متتبعًا آثار ثلاثة من الذئاب لا يجمع بينهم نسقٌ ولا منهجٌ ولا رابط بينهم سوى هذا «المجد» الطفيف كندبةٍ في جبهة الاعتيادية والمدسوس في جيوب المنسي وما أكثره؛ وأنا بقيافتي وزجري.. ونيتي!
محمد مهدي الجواهري، محمد شكري، وجوزيه ساراماغو، ثلاثة أدباء شكلوا لدي عوالم لا حدّ لها فتتبّعت عوالمهم حتى تعبت..
المسار 1
قبعةٌ السنارة التي لاحقتها عمرًا
«لقد أسرى بيَ الأَجلُ و طُولُ مَسيرةٍ مَلَلُ
وطُولُ مَسيرةٍ من دون غايٍ مَطمحٌ خَجِلُ»
الجواهري
بدأ هذا المسار من دون أن أكون واعيًا له، بدأ هذا المسار ولم ينته ولا أظنه سيفعل؛ كنت غرًّا مراهقًا حينما رأيته أول مرةٍ بطاقيته «المعووجة» وعروق يديه النافرتين يقف على رصيفٍ في ساحة المرجة بدمشق ثمانينيات القرن الماضي قبل أن يستقر بشكل دائم في دمشق لاحقًا. كنت قد رأيته قبل ذلك في التلفاز مرةً ولكن لم أفهم وقتها لماذا كل هذا الهياج الشعبي والتنادي: «الجواهري.. الجواهري»، لم يكن وقتها موبايل ولا «سيلفيات»! كان ثمة مصور فوري «بلورايد» في المكان يصوّر الناس مع عمود المرجة واليمام. رأيت الناس تقبّل رأسه ويديه وتحضنه وتبكي، أصابتني رعدةٌ لا توصف جراء ذلك الأمر الذي جعلني أركض في الطريق وأركض وما زالت راكضًا، ألهث حتى كتابة هذا المقال.
بدأ المسار إذًا من هيبة الجواهري وحب الشعب واحترامه لهذه القامة، ومن حفظي الكثير من جواهره، كنا نسمّع قصائده لبعض، أنا وصديقٌ لي متيمٌ به نجلس في ذات المقهى «العربي» أو «الهافانا» ننظر إليه دون أن نجرؤ على محادثته حتى يخرج فنتسابق لنجلس على كرسيه «القش» لعل شاردة من شوارد الشعر تعلق بنا. لاحقًا أيضًا سأتجرأ وأحاوره في أسوأ حوار صحافي لي وله على حدٍّ سواء، والذي نشر منه ثلثه في جريدة الشرق الأوسط منتصف التسعينيات. كما سأكرهه من كل قلبي بعد أن أضع بين يديه قصيدةً لي على البحر البسيط «من أتفه ما يكون» فقرأها ولم يلتفت إليّ ولو جبر خاطر، بل دفع حساب الطاولة وذهب دون كلمة واحدة!
لاحقًا أيضًا سأكتشف أن هذا التصرف غيّر مساري الشعري الذي كنت أقوده إلى الهاوية نحو هاويةٍ أخرى، أجمل وأشهى. مات الجواهري في يوليو 1997م في دمشق كأي كائن حيّ! مات وأنا خارج دمشق لتصيبني لوثة ملاحقة آثاره وتعود لي العادة القديمة..
لا بأس.. بدأت مسار الجواهري من النجف، مسقط رأسه، وإذ قال لي الشاعر مهدي النهيري: إن دار الجواهري القديمة هُدِّمت فيما تهدم من أحياء النجف القديمة، قلت: لا بد لي أن أتنفس رائحة تراب المكان وأتشبع بمخزون بصري يكفيني. في محلّة المشراق رأيت بأم عيني النجف التي كنت أتخيّلها كما كانت أيام الجواهري فيها، عمارةً وزيًّا وحركةً ولهجةً موغلةً في عراقيتها، كان يومًا طويلًا طول أزقتها أنهيته في سوق الكتب، كما زرت سوق حويش ومقبرة دار السلام المصنفة كأكبر مقبرة في العالم، وسألت نفسي ذات السؤال الذي أسأله دومًا: لماذا علي أن أزور مقابر كل مدينة أطؤها من أستوكهولم إلى جنوب إفريقيا، ومن كوريا حتى كوبا؟ لم أجد لهذا سببًا!
بعد الفاتحة، اتجهت مساءً إلى بغداد متتبعًا مسار الجواهري فيها من كل حدب وصوب، بغداد معشوقة الجواهري وحبيبته، مدحها وهجاها وكتب عنها ما لا يحصى من الشعر، وإن كان لا بد من زيارة المقهى الأشهر فيها «حسن عجمي» حيث كان يجلس الجواهري، ومنزله في القادسية الذي يشهد أثناء كتابة هذه السطور تحولًا كبيرًا بتحويله إلى مركز ثقافي ومتحف للجواهري تحت إشراف أمانة بغداد التي استملكته وأنقذته من الهلاك وإدارة بان الجواهري حفيدة الشاعر حسبما ذكرت الصحافة.
إلى دمشق مرة أخرى، دمشق التي قال فيها:
إني شآميٌّ إذا ذكر الهوى وإذا نسبت لموطني فعراقي
بدأ الأمر من مقهى العربي الذي لم أجده مكانه! ومنه نحو الهافانا الذي فقد بريقه أيضًا بتغير نسق المثقفين الجدد ممن يفضلون المقاهي الحديثة و«الفرانشايز» العالمي.
في الطائرة إلى براغ، منفى الجواهري ثلاثين عامًا، من أول الستينيات إلى أول التسعينيات، حدثت نفسي، سأقسم الرحلة نصفين، نصفًا أتابع فيه مسار الجواهري بين مركز الجواهري الثقافي ومقهاه الأثير، والآخر لتتبع مسار رحلة «جرجس الدمشقي» الذي عرّف براغ بالقهوة الدمشقية 1705م، وسأزور مقهاه «الأفعى الذهبية» أو مقهى الجسر كما يسمى اليوم في شارع كارلوفا في ساحة «مالا سترانا»، الوثيقة الوحيدة التي تؤكد أن جرجس العربي كان يبيع القهوة في شوارع براغ بثوب عربي. صباحًا تركت الخال «أنس رشيد» يصوّر عند الجسر وذهبت في التاكسي إلى مركز الجواهري الثقافي في شارع كونيفوفا الذي تأسس عام 2002م على يد راوية الشاعر وابن أخته «رواء الجصاني» وهو أديبٌ أريبٌ حفظ إرث الجواهري من الضياع وقام بدور هائل في التعريف بآثار الراحل ومقتنياته خلال مدة إقامته في براغ، من صور و«طاقيات» ومخطوطات. إنني أقف في العراق مجددًا وأنا في قلب براغ، الجواهري نقل سفارة كاملة لبلاده هنا يزورها التشيكيون والسواح والعرب على حد سواء.
في مقهى «سلافيا» قبالة المسرح الوطني والمطل على نهر «فلتفافا» الساحر وقلعة براغ الكبرى في العالم، ومن طاولتي تلك؛ فهمت تمامًا كيف كتب الجواهري من هذا المقهى «حييت سفحك عن بعدٍ فحييني.. يا دجلة الخير يا أم البساتين» إن بغداد وبراغ تشتركان بأكثر من الأحرف.. إنه النهر الذي يقسم الدور والبيوتات والشعر إلى شطرين!
اختتمت هذا المسار جنوب دمشق، حيث سيدفن الجواهري حسبما أوصى الدكتور صابر فلحوط صديقه بقوله: «أتمنى، وتلك وصيتي، أن يضمني تراب دمشق أينما حلّت منيتي» ووري الثرى -رحمه الله- أواخر يوليو 1997م في ضاحية «الست زينب» قرب زوجته وابنة عمه «أمونة» في «مقبرة الغرباء» كما أسماها العراقيون. تلك المقبرة التي يرقد فيها إلى جانب الكثير من كبار مفكري العراق مثل هادي علوي ويوسف الصائغ ومصطفى جمال الدين، تاركًا لأهله وذويه ما توقع لهم، كل شيء إلا المال:
وعللت أطفالي بشرّ تعلّةٍ خلود أبيهم في بطون المجامع
المسار 2
«الخبز الحافي» عارٌ على «الشطّار»!
«صباح الخير يا طنجة، ها أنذا أعود لأجوس كالسائر نائمًا عبر الأزقة والذكريات، لقد علمتني الحياة أن أنتظر، أن أعيَ لعبة الزمن بدون أن أتنازل عن عمق ما استحصدته، قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتمًا طريقها».
محمد شكري
نحو محمد شكري في مسارٍ عبره العشرات من الكتّاب قبلي، إلا أنني كنت مصرًّا على معرفة المهمل والمنسي من العناوين العريضة لحياة شكري والأماكن التي ارتادها. وصلنا طنجة من كازابلانكا متأخرين ليلًا، أديب الأديب وأنا في سيارة استأجرناها من مطار الدار البيضاء لنقطع مسافة تزيد على الـ350 كيلومترًا كنت نائمًا فيها كقتيلٍ جراء صخب كازابلانكا المستمر وتحسبًا لما أعد له في طنجة التي أزورها وفي يدي خريطةٌ معقدةٌ ويومان إلا ربعًا!
لم يتسنَّ لي أن أبدأ من قرية بني شيكر أو «آيث شيشار» بالأمازيغية، حيث وُلد شكري؛ وذلك لأنها تبعد أكثر من 400 كيلومتر شرقًا وهو ما لا نستطيعه لضيق الوقت، هذا التفصيل يهمني جدًّا رغم قول محمد شكري «أنا طنجة»، فأنا مولعٌ بمسقط الرأس ويهمني أن أرى أين انقطعت «سرّة» هذا الذئب الكتابي المخيف. لكن لا بأس من جديد..
طنجة، شارع موسى بن نصير، لزيارة مطعم «اللونغو ستينو» الذي كان مستقرًّا لمحمد شكري آخر أيامه لقربه من شقته، ذلك المطعم الذي كان ضمن أملاك فندق صغير اسمه «الريتز» يعود لصديق شكري المدعو «محمد كناد» أو «حمودة» كما يلقبه من يعرفه والذي مات في حادث مؤسف وغريب للغاية، إذ قيل: إن أحد عمال الفندق أشعل النار في نفسه وحينما اقترب منه كناد في محاولة لإنقاذه تشبَّث به العامل حتى ماتا معًا! قيل أيضًا: إن هذا العامل ابن خال كناد وإن الحادث كان مدبّرًا -كما يبدو- لخلافات قديمة، ليتحول اللونغو بعد هذا إلى مطعم «الخبز الحافي» ويصبح فضاءً ثقافيًّا حقيقيًّا تستقبلك فيه صورة محمد شكري على الباب وفي كل تفاصيل المطعم من الداخل؛ إذ بإمكاني أن أطلق عليه «متحف محمد شكري» وذلك لما فيه من وثائق وصور.
سكنت في فندق لطيف على الكورنيش في تلك المدينة الآسرة، «طنجة» التي لها مجاذيب ومريدون من الأدباء العالميين مثل: تينسي ويليامس، وترومان كابوتيه، وفرانسيس بايكون، وصموئيل بيكيت، وجان جينيه، ورولان بارت، وويليام بوروز الروائي الأميركي الذي عاش حياة تشبه حياة محمد شكري في أزقتها. إلى جانب باول بولز الذي كان يقيم فيها بشكل دائم، بولز صديق شكري الحميم الذي كتب بالإنجليزية ما أملاه عليه شكري بالإسبانية لتكون «الخبز الحافي» السيرة الذاتية التي ستسري مثل النار في الهشيم، تلك الرواية التي أحبها العالم وكرهها المغاربة لما فيها من وصف لعالم طنجة السفلي، حتى يقال: إن الحسن الثاني كان يكره طنجة ولم يزرها ولو لمرة واحدة في حياته على أهميتها؛ بسبب الخبز الحافي وشكري!
مع خيوط الفجر في طنجة تتكشّف المدينة عن حقيقة أخرى غير ليلها، إنها حقًّا «كتف أوربا» والمعبر الأول للمهاجرين غير الشرعيين الذين يختلطون بالسائحين من كل حدب وصوب وسكان المدينة متعددي الأعراق حتى لتشعر أنك في مهرجان بشري بصري لا ينتهي، مفاجئ دومًا ومستمر. عبرت كل الشوارع بشغف المريد، «رأس المنارة» و«مالاباطا» إلى «مغارة هرقل» و«المريسة»، كل ميناء لها رأس منارة ومريسة، بيروت كذلك الأمر؛ حدثت نفسي..
«السوق الداخلي» مقصدي، هذا المكان الأمثل لأَشْتَمّ منه رائحة حبر محمد شكري الذي أفرد لهذا الحي من أحياء طنجة روايةً كاملة من دون غيره، في سردٍ يشرح المكان بإسهاب، ويوضح مفردات طنجة التي تختبئ خلف أحيائها الراقية وقصورها الفارهة، رواية قاسية ككل كتابات محمد شكري، زرت المكان هذا تحديدًا لتفكيك تكوينه اللفظي المعتم والبيئة القاسية التي صنعت هذه السكين اللغوية البالغة الحدة. ورغم أن المكان كان أنيقًا عكس ما توقعت إلا أن أول صوت بائعٍ أسمعه في السوق الداخلي ما همسه أحدهم في أذني «هيرويين»؟ ساقتني تلك الكلمة من أعصابي وذاكرتي وحولتني إلى كائن متوجّس ونصف عنيف، كلمةٌ واحدةٌ فقط رماها أحد بائعي المخدرات في لمح البصر، فكيف بمن عاش عمرًا هنا؟ محمد شكري أو «الشحرور الأبيض» كما يعرفه أهل سوق الداخل إلى اليوم، المراهق الذي وصل طنجة مرهقًا مباشرةً إلى هذه المحلة، سيحمل حكاياتها بقضها وقضيضها إلى آخر عمر دون أدنى شك.
من الداخل إلى مقبرة سيدي «بوعراقية» مكان ما دُفن أخو شكري طفلًا، وحيث ستصبح «بوعراقية» مكانه الأثير كلما ضاقت عليه الدنيا ليعود إليها ويزور أخاه. وجدنا تلك المقبرة غابةً غريبةً وغير تقليدية؛ إذ إنها ليست مستوية كمقابر الشرق، ربما لطبيعة طنجة الجبلية. لكنها ما زالت إلى اليوم مأوى للمتشردين والمطلوبين مثلها مثل مقابر المدن الكبرى.
«كافيه دي باريس» قبالة القنصلية الفرنسية هو أحد أهم معالم طنجة ومكونات يوميات محمد شكري لاحقًا. وهو من مقاهي العالم النادرة المسجلة بقائمة اليونسكو، إن الجلوس على هذا المقهى ساعة، تصنع لك صياغة دقيقة وبليغة لعلاقتك مع طنجة، إنه عدّاد حركة المهاجرين والبحارة والسياح والعيّارين، ومترجم للحركة العميقة والشارع المدني، فهو يشرف على ساحة «المعاكيز» أو الكسالى ويقصده فنانو المدينة بذات الوقت. فنجان قهوة «كحلا» يشرح لك لماذا صنّف هذا المقهى ضمن أعظم خمسين مقهى حول العالم. ولِمَ يعدّ كافيه دي باريس «لوكيشن» مفضلًا لهولييود وأفلامها.
من مقهى باريس إلى مقهى الحافة الشهير الذي يطالع مضيق جبل طارق بوجهه بينما يتكئ بظهره إلى جبل طنجة الساحر، هنا حيث استُقبل مشاهير كثر وهنا حيث كتب محمد شكري روايته الخبز الحافي. هنا أيضًا: مرت أسماء كبيرة «بزاف»! كوفي عنان كان هنا منذ أيام كما قيل لنا، ومر عليها عظماء مثل: ألبرتو مورافيا، ولوركا، وجاك كرواك، وجان جينيه، وشون كونري، وبول بولز، وفرقة البيتلز، والطاهر بن جلون، إلى جانب ونستون تشرشل الذي كان يتأمل المضيق من هذا المكان.
في الصيف الماضي، هدمت الدولة مقهى الحافة وسط عاصفة من الغضب الشعبي رغم تصريح صاحب المقهى أن الأمر لتجديد المقهى فقط وليس هدمًا نهائيًّا. ولعل هذا الأمر عجَّل بكتابة هذا التحقيق، فمقهى الحافة أكثر من زاوية للاسترخاء بحق، إنه فكرة التاريخ والتقفّي ومناولة الأحداث من جيل لجيل، وأحيل القارئ إلى رواية الطاهر بن جلون «أن ترحل» التي كتبها في هذا المقهى عن رجل كان يرى أضواء إسبانيا من هذا المكان المرتفع ويحلم بالهجرة، ويهاجر بالفعل إلا أنه يعجز عن نسيان طنجة والحافة والذكريات فيعود.
وكالعادة، إلى مقبرة مرشان، حيث قبر محمد شكري الذي كتب عليه: ازداد سنة 1935م، وتوفي يوم السبت 15 نوفمبر 2003م. قبره يشبهه، متواضعٌ ووحيدٌ ومهجور…
عدنا، مررنا على تطوان، شربنا قهوة في حي «الطرنكات» حيث كانت أم شكري تبيع الخضار، وعرجنا على حيّ «عين الخباز» مكان ما كان بيت شكري، إلى باب الكبيبات وساحة إسبانيا؛ كلها أجمل مما كنا نتخيل! كان مقررًا أن نزور العرائش حيث دخل محمد شكري مدرسة ليمحو أميته بصحبة الشاعر المغربي «إدريس علوش» وهو أحد مقتفي آثار شكري الكبار، إلا أن علوشًا كان مسافرًا كعادته. قفلنا راجعين إلى كازابلانكا مع الكثير من المخزون البصري الهائل والحكايا المتوارية في خراطة اجتماعية وبشرية معقدة للغاية، إلى كازابلانكا ومنها إلى «الكناري» جزيرة لانزاروت تحديدًا حيث عاش ومات ساراماغوا..
المسار 3
«الفجل البري» الذي طال أكثر من نخلة!
«لا أعرف ما الخطوات التي سأمشيها، لا أعرف ما نوع الحقيقة التي أبحث عنها، أعرف فقط أن عدم معرفتها أمرٌ لا يحتمل بالنسبة لي».
ساراماغو
لانزاروتي التي سميت على اسم بحار إيطالي من جنوة أصبحت جزيرة ساراماغو كما يفضل زائروها أن يسموها، من دوار «شجرة» ساراماغو إلى بيته «كازا جوزيه ساراماغو» تشعر أن تلك الجزيرة ملكية خاصة لهذا الكاتب المثير للجدل، إنه حقًّا كما وصفه جوزيه: «بيت من الكتب»! ذلك البيت الذي أمضى فيه آخر 18 عامًا من حياته مبررًا ذلك بقوله: «لانزروتي ليست وطني ولكن هذه الأرض هي بيتي». يعد Casa Jose Saramago معجمًا وصفيًّا للسنوات الأخيرة لساراماغو التي عاشها في جزر الكناري، إنها زيارة مبهجة وفيها الكثير من المفردات عكس بقية الجزيرة الموغلة في الصمت والهدوء.
أعطانا المرشد مترجمًا سمعيًّا لمرافق المكان، إضافةً إلى سرده الشعري والممتع ليضيف إلى تلك الزيارة الكثير من المعلومات المهملة التي أبحث عنها، ومن ذلك أن ساراماغو كان يحب زوجته لدرجة أنه قرر إيقاف كل الساعات في منزله على الساعة 4:00 مساء، مثبتًا الزمن عند أول مرة يرى فيها زوجته الصحافية الإسبانية «بيلار ديل روي» التي لا تزال تحيا في المكان، لهذا فإن آخر موعد تغلق فيه أبواب المتحف عند الساعة الواحدة ظهرًا. ومن تقاليد تلك الزيارة أيضًا دعوة زائريه لتناول القهوة البرتغالية في مطبخه كما كان يفعل ساراماغو وهو حي، تلك القهوة التي لن أنسى في زيارتي للشبونة أن أجلب منها 3 كيلو!
عليّ أن أذكر أن ثمة فندق على حدود الإسبانية البرتغالية في منطقة Monsaraz بالقرب من إيفورا استثمر مجد ساراماغو وثيماته وسمَّى الفندق باسمه، ولم يتسنَّ لنا زيارته بعد.. لا بأس مجددًا. استرحت عامين بين تلك الزيارة وزيارة البرتغال متتبعًا «ساراماغو» التي تعني الفجل في البرتغالية، عاميْن قرأته فيهما بشكل أكثر وأعمق مما عجّل في زيارتي لمنابعه الأولى.
في الطائرة من باريس إلى لشبونة سألني مجاوري الفرنسي: لماذا ساراماغو وليس «بيسوا» طالما أنك شاعر؟ كان سؤاله وطريقة نظراته تقول في طياتها ولماذا هذه الشخصية البغيضة التي دعت إلى انفصال البرتغال عن أوربا العنصرية وهي تقول إن حدودها تنتهي عند جبال البرنس؟ فأجبته بجواب لما أضمره: «لأنه وصف الوضع في فلسطين بأنه محرقة نازية يمارسها الجيش الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، ورأى في رام الله المحاصرة معسكر أوشفيتز النازي». كانت تلك آخر جملة بيني وبين هذا الفرنسي دون أدنى شك.
نمت في لشبونة ليلةً انتظرت فيها صديقي العراقي محمد منديل حيث اتفقنا مسبقًا على الذهاب بسيارته إلى مسقط رأس ساراماغو. وصلنا فجرًا إلى قرية «أزينهاغا» في مقاطعة سانتاريم حيث وُلد جوزيه وعانق أشجار التين يودعها عندما أجبرت العائلة على النزوح إلى لشبونة بسبب مرض جده. الطريق من لشبونة إلى أزينهاغا مليء بطيور الدرّاج والحقول الفسيحة وكروم العنب، ويمر نهر «الموندا» بالقرب من القرية ليمنحها منظرًا بديعًا، لم نكن وحدنا نطلب البدايات في هذه القرية الجميلة، كل من تراهم يضعون حقائب على ظهورهم جاؤوا لسارماغاو، إلى منحوتته التي تتوسط ساحة القرية، ومنزله المتواضع. ها أنا في «مسقط الرأس» مرةً أخرى، لقد ولد هنا ساراماغو إذًا.. لهذا يرشح كزيت زيتون ويضيء!
عدنا إلى لشبونة إلى متحف ساراماغو الذي يقع في المبنى التاريخي Casa dos Bicos بأربعة أدوار. وهو مكان لائق للاطلاع على أعمال هذا الرجل المرعب بكل معنى الكلمة. ولكن لأنه متاح للجميع لم أقض به نصف الوقت الذي قضيته عند شجرة الزيتون خارج المتحف، مكانما نثر رماد ساراماغو حسب وصيته.
إنها أجمل مقبرة زرتها في حياتي.
المنشورات ذات الصلة
«غرافيتي» على جدران الفناء
لكل فعل رد فعل، ولكل نظرية إثبات، نظرية نفي، ولكل ثقافة هنالك ثقافة مضادة. هذا يعني أن لكل شيء هنالك «اللاشيء» الذي...
كيف شَكَّلَ الحرير والنسيج تاريخ البشرية؟
يقول بعضٌ: إن التاريخ بدأ بالكتابة، غير أننا نقول: إن التاريخ بدأ باللباس. في البداية، كانت هناك ملابس مصنوعة من...
الحياة الأدبية للأشياء
يجيز مثل هذا العنوان الانطلاق من السؤال التالي: كيف تكف الأشياءُ عن أن تكون مجرد موجودات؟ ونستقي الإجابة عنه من ميريام...
0 تعليق