كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
وكانوا يقولون: الشمس تشرق يا رفيق!
في ماضٍ ابتعد، كنا نذهب أيام الجمعة إلى بوابة الصالحية في دمشق، نلتقي باعة كتب قديمة، ونتصفح مجلات تفترش الأرصفة. كان صديقي الكردي، الناحل الذي يميل إلى الصمت، يحدق في المجلات طويلًا إلى أن تقفز يده إلى مجلة متقشّفة الغلاف، صفراء الورق كأنها بالية تدعى: الطريق. يخون عندها صمته ويردّد فرحًا: «الشمس تشرق يا رفيق!». ويشتري أعداد المجلة المنزوعة الغلاف، ويهدينا عددًا. أسس هذه المجلة المهندس اللبناني أنطون ثابت 1941م، وحملت على عاتقها الهجوم على الفاشية والدفاع عن الاتحاد السوفييتي وتبني شعار الاشتراكية. وكان يكتب فيها بأسلوب أنيق أديب ذائع الصيت يدعى: رئيف خوري، كان عليه أن يختار عام 1948م بين الولاء لفلسطين ورفض موقف الاتحاد السوفييتي، واختار فسلطين مواجهًا «أممية مفترضة».
حين وصلت بيروت عام 1974م، بحثت عن مكتب مجلة الطريق استقبلني إنسان أنيق متعثّر الكلام، كما لو كان يعتذر عن فعل مسيء لم ينتبه إليه. قال: أنا نزار مروّة «مسؤول المجلة إلى حين»، أعطاني عددًا أخيرًا، قفزت إليه يدي مثلما فعلت يد صديق راحل، ذات مرة. كان الغلاف مختلفًا شكلًا وإخراجًا وورقًا عمّا كان، لا صفرة في أوراقه ولا ما يشير إلى «البلى». تحدث رئيس التحرير «المؤقت» عن انفتاح المجلة على قضايا الأدب والفن والثقافة ودخل، وهو المربِك المرتَبك، إلى عالم الموسيقا العربية والغربية، كما لو كان من أهل الاختصاص. سألته: «هل هناك من موسيقا ملتزمة، وكيف يكون دارسها ملتزمًا؟»، قال: «الفن قيد، وأهم شروط الفن ليس الحرية بل القيد؛ إذ من دون ضوابط ومن دون قواعد لا وجود للفن». لمح في وجهي دهشة، فتابع: «أتحدث عن قيود الصنعة، أما الالتزام الحقيقي فلا يعرف القيود». عرفت لاحقًا أن نزارًا عالِم في الموسيقا، ترك بعد رحيله المبكر دراساتٍ متعددةً، أشرف على إصدارها المفكر السياسي كريم مروّة، الذي بذل جهدًا متواترًا كي تبقى مجلة الطريق على قيد الحياة. وعرفت أيضًا أنه ابن المفكر الشهير حسن مروّة.
حوار القيد والحرية
أعادني حديث نزار مروّة عن حوار القيد والحرية إلى قول الإيطالي أنطونيو غرامشي: «الفن معلم من حيث هو فن لا فن معلم». حين طرحت سؤال دور الأدب والفن على «والد نزار»، بعد أن زرته في بيته أجاب بصوت هامس: «شعاري دائمًا وحدة المعرفة والصالح العام». كان البيت، القريب من «الرملة البيضاء» المحاذية للبحر، مزيجًا من التقشف والأناقة، أخذني إليه محمد دكروب الذي أشرف مع الأستاذ حسين مروّة، في نهاية خمسينيات القرن المنطوي، على مجلة قصيرة العمر، واسعة الأثر عنوانها: «الثقافة الوطنية»، عبّرت عن «توصيات مؤتمر الأدب العربي»، الذي انعقد في دمشق عام 1954م.
كان مروّة الأب، حين التقيته المرة الأولى، جاوز السبعين، وراؤه تاريخ كتابي في لبنان والعراق، معتدل القامة وأنيق من غير متكلّف، يضع نظارة طبية، يشي وجهه بعمره، حنون الملامح كعجوز قرويّ كثير الأحفاد، وله دراسات شهيرة عن الواقعية. سألته: «هل يبدأ الأديب من الواقع أم من الواقعية»؟ كان في كلامه البسيط ينفي ما هو أحادي ونهائي، وفي صوته الخفيض ما ينكر الإجابات المغلقة، يتكئ على كلمات مختصرة تستهل بفعل «أظن»، تتبعه ربما، ويتلوها «من الجائز»، ويكملها «من المحتمل…» إلى أن ينفجر محمد دكروب ضاحكًا ويقول: «لعل وعسى أو لعسى»، وينظر إلى نزار مروّة، الذي يتأبط خجله صامتًا، ويقول: «من الأرجح»…. لم يكن هؤلاء المثقفون يؤمنون بالاختلاف، بقدر ما كانوا يردون عن أنفسهم تهمة «الانغلاق»، أو ما كان يدعى: الدوغمائية.
أذكر اليوم عن حسين مروّة الذي اغتاله الفكر المتعصب في ربيع عام 1989م، صفتين: التهذيب الفائق الذي يحض على السلوك المهذب، والتسامح إلى حدود الإحراج، كما لو كان يقول: لا يتعرّف المثقف بثقافته، واسعة كانت أم محدودة، بل بسلوك مثقف. وفعل «ثَقُفَ» يعني صقل بلغة العرب. من حق الأديب الراحل عليَّ أن أسرد حكايتين: نشر في جريدة النداء، في شتاء 1978م، ربما، مقالًا عنوانه: العلم والأدب، فصل فيه بينهما فصلًا متعسفًا، أو فصلًا لم أرضَ عنه، دفعني إلى الرد عليه. كان في ردي شيء من الحقيقة، وكان فيه أكثر أشياء من التطاول والادِّعاء، حمل بعض «الأنصار» على رد عنيف أقرب إلى التنديد. في مقابل ذلك اتصل بي الأستاذ مروّة وقال: «في مقالك طزاجة فكرية جديرة بالحوار والاعتراف». نقدت بعد ذلك، مفهومه للواقعية في دراسة نشرت في مجلة «الكرمل» ـ 1981م – اتصل بي بعدها، وقال: «طلب مني معهد الإنماء العربي دراسة عن الواقعية، واقترحتك بديلًا عني، فأنت تحمل أفكارًا جديدة». تعامل حسين مروّة معي بمعيار الأبوَّة والخبرة والمسؤولية والرضا المرتاح عن الذات. كان قد أنجز كتابه الكبير «النزعات المادية في الإسلام»، الذي أثار حوارًا واسعًا، وأعطاه موقعًا رائدًا في مجاله.
ضوضاء ضاحكة الكلمات
كانت ابتسامته تسبقه إنْ اقترب غدت قهقهةً، فإن وصل أصبحت ضوضاءَ ضاحكة الكلمات، أو «ضحكًا من الروح مليئًا بالعافية»، بلغة رئيف خوري. كان دائم الضحك ومستقر الهموم ويدعى: محمد دكروب. ربطتني به صداقة منذ أن أصبح مسؤولًا عن مجلة الطريق في منتصف السبعينيات الماضية حتى فارقها، أو فارقته. «استكتبني» كثيرًا، مرة بإلحاح ومرات «بالموْنة»، بلغة اللبنانيين. وتآلفت مع نقده وتقويمه وصرت أسأله: «كيف المقالة يا أبونا»، ويجيب: «ستصبح يومًا أبًا لي ولكن أكثر وسامة، ولا أنصحك بالعمل في مجلة فقيرة، فالعمل فيها يكسر الظهر ويرهق العينين».
وُلد محمد دكروب عام 1929م في مدينة صور، وترك المدرسة قبل نهاية المرحلة الابتدائية، وأصبح كاتبًا معروفًا. دعاه أهل بلدته «ابن صور العصامي»، زاول مهنًا عديدة مثابرًا على القراءة، ودعا نفسه وهو يعمل في مجلة الطريق «سمكري الأدب»، يقوم بالقراءة والتصحيح والتنقيح والإخراج ومتابعة المطبعة والاستكتاب ومتابعة مستكتبين «متبرعين»، يلبُّون، «السمكري الأنيس» قبل رسالة مجلته. بدأ حياته «سمكريًّا» في دكان أخيه، يصلح كل شيء ويقرأ في أوقات الفراغ كتب مصلحين أقنعوه برسالة الأدب، سرد حياتهم حين أحسن الكتابة في كتب متعددة: «خمسة روّاد يحاورون العصر، شخصيات وأدوار، الذاكرة والأوراق، وجوه لا تموت»… كان يكتب ويتذكر «وجوهًا» حاورها، لا تبدأ برئيف خوري ولا تنتهي بمهدي عامل، تسعفه رسائل قديمة من زمن «الثقافة الوطنية»، أرسلها إليه: يوسف إدريس ونجيب سرور ومحمود أمين العالم…، ولقاءات مع محمد مهدي الجواهري ولطيفة الزيات وغسان كنفاني و«شعارات حسنة الضوء والقيافة»،… وكثيرًا ما كان يستعيض عن فعل «نلتقي» بفعل «نتياءس»، وكان رغم ضحكه المتدفق محقًّا في يأسه. أدمن على ضحك خارجي وأسًى داخلي حتى رحل عام 2013م.
كان مثل كثيرين منا دائم الحديث عن «مشاريع جليلة» قادمة، أجهدته وأرهقت غيره وسقطت في سبات عميق. حدثني أكثر من مرة عن مشاريعه الروائية: «أنا الآن بصدد إكمال رواية بدأها صديقي محمد عيتاني قبل أن يموت»، «وأنا الآن بصدد رواية عن ازدهار وموت ساحة البرج في بيروت»، «وأنا الآن ألملم ذكرياتي في صور في رواية قبل أن تغيب الذاكرة…». كانت وراءه أزمنة واضحة وأمامه زمن من غبار أحنى ظهره وأضعف بصره وأبطأ خطوه، وأبقى أوراقه عن طه حسين قريبة من الشلل. حين كنت أشاكسه عجوزًا سائلًا: «الشمس تشرق يا رفيق؟»، كان يجيب بضحك هامد ويقول «الله يسامحهم». وتظل «هم» الشاكية معلقة في الفضاء. وبقيت هذه المعابثة قائمة بيننا حتى رحل. كانت تطارده قضايا الحياة اليومية، الموزعة على المرض والإحباط، وكان يطاردها بسخرية مريرة.
حكاية وحده بأسمائه الثلاثة
كانت ابتسامة دكروب تحتجب إن مرّ على اسم صديقه مهدي عامل، وجه آخر من وجوه مجلة الطريق ودعاة «ثقافة الصالح العام». كان الأخير حكاية وحده، غريبة مميزة غرابة أسمائه الثلاثة: مهدي يضعه على كتبه ودراساته، وحسن حمدان لتلامذته في الجامعة، وهلال بن زيتون، يوقع به قصائد متأملة يكتبها بعد عناء النهار واعتدال الليل، كما كان يقول. أراد في أسمائه المتعددة أن تكون له أكثر من حياة: حياة لمعرفة نظرية تضبط حركة الكون، وحياة لتلاميذ ثائرين يدفنون القديم، وحياة للورد والأغاني ومؤانسة الأصدقاء. استعاض دكروب عن فعل التقى بفعل تياءس، وجعل مهدي عامل من اللقاء مؤانسة، كما كان يقول، قبل أن تنهي حياته رصاصة أخرى، في مايو 1989م، وهو يركض صباحًا على شاطئ البحر. كان قد جاء إلى دمشق قبل شهرين وشيّع حسين مروة بكلمات مدوِّية: «استنصرته قضيته فنصرها، وسننصر قضيته كما نصرها». ولم ينتصر في النهاية إلا الموت، الذي تسلل إلى حسين مروّة في بيته وسابق مهدي على شاطئ البحر وأخذ مكانه في السباق.
أنجز مهدي دكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون، وحمل معه لحية سوداء ورجع إلى بيروت، كتب وساجل وانتقل من اجتماع إلى آخر بلحية رمادية، وخرج بكتاب مقاتل: «نمط الإنتاج الكولونيالي»، وحَّد فيه بين التحررين الوطني والاجتماعي، وآمن «بصناعة التاريخ». كان ممتلئًا بسحر النظرية، التي تشرح الواقع وتروّضه وتعيد صنعه، وتقيم علاقة دافئة بين المثقف الإيماني والتاريخ، كما لو كان الأخير مثقفًا متمردًا بدوره.
كأن يأتي قلقًا، يجلس ويمسح نظارته، ويقول بنبرة لبنانية جنوبية: «عندي كلمتيْن»، تتناسلان في حديث طويل ينقد إدوارد سعيد ويعرّج على أدونيس ويثني على صديقه المسرحي الجزائري كاتب ياسين، ويحاور الدكتورة يمنى العيد في قضايا النقد والرواية والأدب ويعد بدراسة شاملة عنها، ويعرض أفكارًا صائبة عن الطائفية والقومية والقضية الفلسطينية وقلق الأسلوب. فإن أجهده الحديث ترك اللغة العربية جانبًا وانزاح إلى فرنسية طليقة، تترجم شعر محمود درويش و«مصائب» حركة التحرر في العالم العربي ويقف، واعدًا، باستثناء الحديث مرة قادمة. ينظر إلينا ضاحكًا ويعتذر عن ضيق الوقت ويدعونا لتناول «الفراكة» في بيته، وهي طعام لبناني جبلي، قوامه برغل، كان يحسنه ويفتخر بإتقانه. سألت مهدي مرة: «هل ستشرق الشمس يا رفيق؟» وكانت الماركسية في أفول فأجاب: «النظرية تقول بذلك ولا تكذب».
حين دخلت مكتب مجلة الطريق للمرة الأولى عرّفني نزار مروة، في نهاية اللقاء، على وافد جديد، متميّز الصوت والنحافة، ضامر الملمح كثيف الشعر يدعى: إلياس شاكر أشرف على «الطريق» ذات مرة، وأشرف عليها في طورها الأخير، في مطلع الألفية الثالثة… قال في لقائي الأول معه: «سأعرفك على تحولات بيروت الثقافية»، وسار معي طويلًا في اللقاء الأخير وقال: «سأعرفك على تحولات بيروت التجارية». بقي كما كان، ثابت النحافة والالتزام، طلب مني دراسة عن رئيف خوري، وقال: احتفظت لك في مكتب المجلة بكتابين جديدين عن «رئيف». وأظن أن هذا الإنسان الرقيق المخلص لنحافته وأفكاره هو الذي أشرف على طباعة كتاب رئيف: «ثورة الفتى العربي»، الذي وجّه تحية إلى ثورة فلسطينية قديمة (1936 – 1939م)، اختنق صوتها بين أصوات أخرى. كان هؤلاء جميعًا، من دكروب إلى حسين مروّة ومهدي عامل، يرون في رئيف نموذجًا للفكر الحر وثبات الموقف، سقطت عليه، في الحقبة الستالينية، تهم كثيرة، رجمت رفيقًا للحقيقة.
تظل الذكريات الحالمة عزيزة على قلوب المهزومين. تعبر هذه الكلمات خاطري كلما تذكرت تلك المجلة المنزوعة الغلاف، التي أخذتها من صديق كردي ذابت عظامه في التراب. بعد غياب طويل عن دمشق، حملتني قدماي إلى بوابة الصالحية، باحثًا عن أطياف وصور وحقائق، نظرت حولي طويلًا، بقيت يدي ساكنة في جيبي، ولم أرَ إلا الأرصفة.
المنشورات ذات الصلة
«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا
ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على...
القاهرة… مدينة من رموز وصداقات
ما يترسّب في ذاكرة الطفولة يعيش طويلًا، تمر به الكهولة ويظل سليمًا، ويبلغ الشيخوخة ولا يشيخ، وقد تتسع أبعاده ويأخذ شكل...
الفلسطيني: صعوبات كتابة سيرة ذاتية
هل يستطيع فلسطيني أن يكتب سيرة ذاتية؟ يبدو السؤال في البداية بسيطًا قوامه ذاكرة قوية أو معطوبة وقدرة على السرد بلغة...
0 تعليق