المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

موضوعة الحرية في شعر علّال الفاسي

بواسطة | يوليو 1, 2019 | دراسات

-١-

ما من شكّ في أنّ أيّما مطارحة موضوعيّة، بله منتجة، للتّراث الشعري لعلّال الفاسي(١) لا محيد لها عن التّعاطي مع هذا التّراث من خلال زاويتين اثنتين متكاملتين، بهذا القدر أو ذاك، قد تكفلان ضمانات ما، متطلّبة بقوّة الأشياء، سيّان من حيث موضعته السّليمة والسّديدة داخل الكلّ الأيديولوجي والثّقافي الذي أثمر، في المحصّلة، الوضعيّة الاعتباريّة السّارية لعلّال الفاسي في المتخيّل الوطني، أو من حيث الاقتراب من حدود شعريّته، جماليًّا وموضوعاتيًّا وتخييليًّا، داخل السَّيرورة البنائيّة والتاريخيّة للشّعر المغربي، نقصد الآليّة العضويّة لنشأته وتدرُّجه، وكذا تموقعه في الخارطة الشعريّة العربيّة، إن قديمًا أو حديثًا. ولعلّ وازعنا إلى هذا المنظور هو كوننا لسنا، قطعًا، في هذا المقام، حيال شاعر خالص عن الآخر، شاعر وكفى، إنّما نحن بإزاء مثقّف متراكب الشخصيّة، متعدّد المواهب والمشاغل، وفاعل سياسي وطني وقومي، بدرجة بارزة، محسوب على حقبة زمنيّة كان فيها الشعر المغربي لمّا يزل، رغمًا من كونه حديثًا، لصيقًا بمحدّدات تتوطّن لا وعيه التّاريخي والنّصي المديد.

من هذا الضّوء يتبيّن أنّ الأمر يتعلّق بمثقّف شامل تشكّل السّياسة دمغته الرمزيّة الأكثر رواجًا في سوق التّداول العمومي، بينما يندرج الشّعر ضمن هذه الشموليّة كعنصر دالّ، كأداة تعبيريّة تخدم مشروعًا أيديولوجيّا وثقافيًّا ينصبّ على حقبة تاريخيّة وسياسيّة مخضرمة في السّياق المغربي الحديث: المغرب في ظلّ الحماية الفرنسيّة والإسبانيّة والدوليّة، ثمّ عند حصوله على الاستقلال، ويجترح، أي المشروع، حلولًا سياسيّة نضاليّة ومخارج فكريّة لما كان يقوم مقام استعمار، في الطّور الأوّل، واختلال في تضاعيف البناء الوطني، إبّان الطّور الثاني. وفي الحالتين معًا يتبدّى علّال الفاسي مثقّفًا ملتزمًا أو، بالحريّ، عضويًّا، متخطّيًا حدود ذاته المتضايقة ومنذورًا لخدمة مواطنيه، مؤلّفًا، مكافحًا، ملهمًا، في مرمى تخليص الوطن من وصمة الاحتلال الأجنبي، ثمّ من أجل تشييد استقلال وطني على هدي من قيم الحرّية والكرامة والديمقراطيّة والمساواة..؛ المستمدّة من المرجعيّة الإسلاميّة الصّميمة أو من مختلف الشّرائع الكونيّة السّمحاء. وإذ سخّر علّال الفاسي قلمه، ومعه جماع أرصدته الفكريّة والإبداعيّة، متماهيًا مع اعتناقه الأيديولوجي ومعبِّرًا، من خلال صنوف المحن التي اختبرها كسجين ومنفيّ ومضطهد، عن أقصى درجات الذّوبان في قضايا الجموع وتطلّعات الجماهير، يكون قد برهن عن جدارة الدّور الذي أناطه به لا ضميره المتيقّظ ولا فضيلة التضحيّة لديه، واستوفى، بالتّالي، يا ما انتصرنا لأفكاره أو احترزنا عليها لا فرق، استحقاق الالتزام المجتمعي، والإنساني، المستوجب، ما في ذلك ريب، في النّخب الثقافيّة المتبصّرة، وذلك بوصفها قاطرة المجتمعات، والإنسانيّة قاطبة، نحو آفاق السّلم والإخاء والازدهار والرّفاه.

هكذا، وبوصفه خرّيج القلعة التعليميّة الدينيّة العريقة، جامعة القرويّين، التي سيتخرّج من رحابها قسم لا يستهان به من الإنتلجنسيا الفكريّة والسياسيّة المغربيّة المتنورة، على مدى النّصف الأوّل من القرن العشرين، والتي ستردف إلى تربيّتها اللغويّة والعقديّة والمعرفيّة التقليديّة استزادات إيجابيّة، معرفيّة وإبداعيّة، من آفاق منفتحة، حداثيّة، كعلوم السّياسة والقانون والاجتماع والاقتصاد والفلسفة والآداب الحديثة والفنون، ستمدّها بدافعيّة قويّة لمعاداة الجمود والانحطاط والخنوع والخرافة وموالاة أفكار الابتكار والتّقدم والارتقاء والعقلانيّة، وهو ما يشكّل سيمياء البحبوحة الحضاريّة التي ينعم بها الغرب والتي ستتيح له القوّة ثمّ السّيطرة، عبر الاستعمار، على معظم مناطق المعمور، ومن ثمّ ألفينا «هؤلاء المثقّفين الأوائل، وقد غمرتهم السّطوة الوطنيّة المجافيّة للمحتلّ، ملهمهم جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، محمد رشيد رضا. منعتقين، كثيرًا أو قليلًا، من التّكوين التّقليدي سيسخّرون، في أثناء زمنهم، أقلامهم عبر صحف تلك الحقبة، منخرطين في مسألة الإصلاح الحاسمة، إصلاح البنيات السياسيّة وأنماط التّفكير، وبالمناسبة سيقيّض لهم بهذا أن يكونوا أوّل من استدخل الفكر النّقدي وتعدّدية وجهات النّظر في فلك الحياة العامّة»(٢)، ذلك أنّ «المثقّف منذور لأن يعيش تناقضه من أجل الكلّ ويتجاوزه لفائدة هذا الكلّ متوسِّلًا طريقة جذريّة (…) إنّ التزامه ليتوخّى توصيل ما هو غير قابل للتّبليغ»(٣). ولعلّ من أبرز أسماء هذا الرّعيل الوطني، الذي وُجِدَ بين فكّي كماشّة وضع تاريخي ومجتمعي يستحكم فيه التّخلف والمحافظة وترين عليه الصّدمة الاستعماريّة الغربيّة، بما كان لها من مضاعفات ثقافيّة وحضاريّة، يمكننا الإلماع إلى كلّ من محمد بن الحسن الوزّاني، وعبدالخالق الطّريس، ومحمد بنّونة، والمكّي النّاصري، وقاسم الزهيري، ومحمد المنوني، والمهدي الحجوي، وعبدالسلام بن سودة، والهاشمي الفيلالي، ومحمد الفاسي، وعبدالكبير الفاسي، ومحمد التّهامي الوزّاني، وعبدالهادي الشّرايبي…؛ بحيث كانوا ينوبون، إن شئنا، مناب شعب برمّته تعوزه العدّة الفكريّة المستلزمة في مواجهة مأزق مستدقّ وسياق مفصلي في التاريخ المغربي الحديث وذلك مصداقًا لكون «المفكّرين يمثّلون شيئًا ما لجمهورهم، وهم من ثمّ يمثّلون أنفسهم لأنفسهم»(٤).

فعلًا ستكون لهذه الأسماء أدوارها ومساهماتها المتفاوتة في هذا الإطار، وإذا كان لنا أن نخصّ بالذّكر مؤلّف محمد المكّي النّاصري، الموسوم بـ«فرنسا وسياستها البربريّة في المغرب الأقصى»، فلا أحد، ممّن استحضرناهم، سيبلغ مبلغ علّال الفاسي في ديناميّة الحضور السّياسي والفكري المؤثّر، الشيء الذي تشهد عليه سيرته النضاليّة وكذلك مؤلّفاته العديدة التي ستتوزّعها آفاق شتّى؛ ذلك أنّ «… ميزة علّال الفاسي أنّه كان المناضل المثقّف الذي يوظّف ثقافته في نضاله الوطني والعربي، وأنّه كان مفكّرًا واعيًا بالمسؤوليّة مقدّرًا خطورة تحمّلها»(٥). وربّما كان التّتويج الأعلى لمشروعه السّياسي والفكري هو مصنّفه الذّائع الصّيت، «النّقد الذّاتي»، الذي يمكن احتسابه بمنزلة بيان موسّع ومفصّل لجماع شواغله السياسيّة والفكريّة، لكبريات الأسئلة المجتمعيّة والحضاريّة ودقائقها، فـ… كتاب «النّقد الذّاتي» (…) أكثر من كتاب سياسي. إنّه، والحقّ يقال، منهاج للحكم والإدارة والإصلاح الاجتماعي يضعه علّال الفاسي نصب عين المكافحين من أجل استقلال المغرب ليستفيدوا منه في بناء مغرب جديد لا مجال فيه للأنانيّة ولا للفوضى، وسيبقى أثرًا شاهدًا بعبقريّة جيل النّهضة، وأصالة الحركة الفكريّة في هذا العهد إلى ما شاء الله»(٦). هذا ولقيمة الطّروحات التي تناولها علّال الفاسي في مصنّفه هذا، وبالنّظر إلى الخلفيّة التاريخيّة التي صدر عنها فإنّه لينضوي إلى جملة الكتابات التي سيصنّفها كلّ من المفكّر الفلسطيني – الأميركي، إدوارد سعيد، والمفكّر الهندي، هومي بهابها، ضمن اسم ما بعد الاستعماريّة التي أنتجتها نخب المستعمرات القديمة.

إدوارد سعيد

إذن فنحن، والحالة هذه، إزاء وضعيّة اعتباريّة تجد دعامتها، من حيث المبدأ، في السّياسة والفكر، في حين يتلامح الشّعر كأداة تعبيريّة تخدم مشروعًا أيديولوجيًّا وثقافيًّا، مثلما سلف أن قلنا، وبهذا تستمدّ وضعيّة علّال الفاسي قرابتها، بكيفيّة أو بأخرى، مع وضعيّات مماثلة يكون فيها فائض الفكر في حاجة وظيفيّة ماسّة إلى أدوات تعبيريّة رديفة تعمل على ترميم ثقوب الفكر وامتصاص نشوفه وصلادته، ويا ما تبرهن، توسّلًا بجماليّاتها المجازية والترميزيّة، الماتعة والمرونقة، على كفاءتها في قول وتمرير ما قد يخفق الفكر، من فرط معقوليّة خطابه وبراغماتيّته، في بسطه وتبليغه، وإذا ما كانت الأمثلة غزيرة في هذا الباب حسبنا أن نشير، في التراث العربي الإسلامي، إلى الجانب الشّعري في منجز كلّ من الإمام الشّافعي والفيلسوف ابن سينا، وأيضًا إلى لجوء النّاقد والمفكّر طه حسين إلى فنّ الرواية، وهو ما سيفعله كذلك المؤرّخ عبدالله العروي، ولجوء النّاقد والمفكّر عباس محمود العقّاد إلى الشّعر، ناهينا عن أمثلة ساطعة في الثقافة الغربيّة، كلجوء الفيلسوف كارل ماركس إلى الشّعر، وتأليف جان بّول سارتر لمسرحيّات تصطفّ جنبًا إلى جنب مع أمّهات تآليفه الفلسفيّة. بصيغة أخرى لنقل: إنّ السّياسة والفكر لهما العنصران المهيمنان في تراث علّال الفاسي، ولو أنّ قريحته الشعريّة ستنفجر قبل توطّد هواجسه السياسيّة والفكريّة، ثمّ لأنّ الشّعر سيستمرّ ملازمًا لنشاطيّته الثقافيّة المتراكبة، فلا مراء في كون «… هذا التّوجه النّسقي لدى علّال الفاسي يفترض فهم شعره بفكره وفكره بشعره، سواء أكان الفكر متعلّقًا بالإصلاح أو بأصول الفقه أو بأصول الدّين»(٧)، ما دام «… تفكير علّال الفاسي كان نسقيًّا، بل إنّه كان يتبنّى المنهاجيّة النسقيّة بوعي وبقصد وإصرار»(٨).

هذا من زاوية، أمّا من زاوية أخرى، وبما يتعالق، بهذه الدّرجة أو تلك، بما أوردناه بخصوص ثنائيّة المثقّف – الشّاعر، يظهر أن ليس هناك من داعٍ إلى إفاضة الحديث في ما نعتناه بالسّيرورة البنائيّة والتاريخيّة للشّعر المغربي. فخارج أيّما تهويل، أو جلد حتى للذّات الشعريّة الجمعيّة، لا مناص من الإقرار بأنّ هذا الشعر يتلامح ولكأنّما قيّض له، منذ نشأته الباكرة، وهو ما سبق أن نصصنا عليه في أكثر من دراسة نقديّة، أن يشكّل، عمومًا، جزءًا من النشاطيّة الأوسع للمثقّف المغربي، الأنزع، في بروفايله النّمطي أو المسكوك، إلى الفقيه الذي لا تكاد تكتمل شخصيّته العلميّة إلّا بإضافة قرض الشّعر إلى النّواة الصّلبة لنشاطيّته تلك، أي الفقه في حقوله وتفرُّعاته المختلفة، ومن ثَمَّ سيغدو الشّعر بمنزلة ظلّ ملازم لشخصيّة الفقيه المتبحّر في شؤون العقيدة، ويصبح، إن وددنا، عنصر تخفّف ذهني أو سلوان شعوري ليس إلّا. كذا سيبلور التّاريخ الأدبي المغربي أجيالًا من الفقهاء – الشّعراء أكثر من بلورته لشعراء خُلَّص أو أَقْحاح، وذلك على الغرار من الأسماء الشعريّة الكبرى الفارقة في تاريخ الأدب العربي، قديمًا أو حديثًا، من قبيل امرئ القيس، أبي نواس، أبي تمَّام، البحتري، المتنبّي.. أحمد شوقي، علي محمود طه، خليل مطران، عمر أبي ريشة، محمد مهدي الجواهري…؛ بل على شاكلة ما كانت تعجُّ به الجارة، الأندلس، من قامات شعريّة فارعة، من طراز ابن هانئ، ابن خفاجة، ابن زيدون، المعتمد بن عبّاد، ابن عبدون، ابن الخطيب…؛ وإذا كانت الأندلس، بأهليّتها الإبداعيّة الفائقة، سينظر إلى شعرائها، مع ذلك، من لدن المشارقة كمجرّد نسخ مستعادة أو مكرورة لشعراء مشارقة، كقولهم عن ابن هانئ: إنّه متنبّي الأندلس، وتسميّتهم ابنَ زيدون بحتريَّ الأندلسِ، ممّا ينصبّ، عمقيًّا، في القولة المأثورة للصّاحب بن عبّاد: «هذه بضاعتنا رُدَّتْ إلينا» في حقّ كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربّه الأندلسي، وممّا له، بالتّأكيد، صلة بتداعيات معادلة: مشرق – مغرب أو مركز – هامش التي عادة ما يقوم عليها التّمركز الحضاري الذّاتي في مختلف الأزمنة. وعليه، إذا ما كان هذا شأن الشّعر الأندلسي فما بالنا بالشعراء المغاربة الذين لن يقتدروا، بأثر من اقتضاءات بيئتهم وتاريخهم، على التّنصل، إلّا فيما ندر، من جُبَّة الفقيه، بدءًا من شاعر كلاسيكي كالقاضي عياض إلى شاعر حديث كالمختار السّوسي، وبالتّالي، لن يحظى الشّعر المغربي بشخصيّة الشّاعر الخالص أو القُحّ سوى مع إطلالة الرومنتيكيّين المغاربة، كعبدالقادر حسن وعبدالمجيد بنجلّون وعبدالكريم بن ثابت ومصطفى المعداوي، ليتكرّس هذا الملمح مع جيل الستينيّات، كأحمد المجّاطي ومحمد السّرغيني ومحمد الخمّار الكنوني وبنسالم الدّمناتي، الذي سينهض بمشروع تحديث القصيدة المغربيّة والانتقال بها من أفق العمود الشّعري إلى أفق التّفعيلة والبناء السّطري.

على أنّ الكلمة العليا في الشّعر المغربي ستكون، قبل قدوم الرومنتيكيّين الذين سيعتنقون إبدالات جديدة، كالإعلاء من قدر الذات والنّفور من الضّوضاء المجتمعيّة، والاستعاضة عن الغرض الشّعري، من مدح وهجاء ورثاء وغزل…؛ بالموضوع الشّعري، كالحبّ والحزن والعزلة والتّعاسة…؛ وأيضًا ما كان من جدّة اللّفظ وقرب مأخذه عوض تلادته وإعضاله، أو التّنويع الإيقاعي في مقابل السّيميتريّة الوزنيّة الخانقة، ستكون لمن يمكن توصيفهم بالكلاسيكيّين الجدد، تشبيهًا لهم بنظرائهم في المشرق العربي، أي لزُمرة من الشعراء الذين سيصدرون في ما يكتبون عن اشتراطات العمود الشّعري، سواء من حيث الشّكل (الوزن) أو من حيث المحمول (الغرض) مع الاستمساك بمعجم لغوي تراثي متقعّر وبعين الأساليب البيانيّة والبديعيّة التي يحفل بها الشّعر العربي القديم. وللإشارة فإنّ هؤلاء يتوزّعون بين جيلين اثنين؛ جيل أوّل سيأخذ في الانفراز انطلاقًا من نهايات القرن التّاسع عشر ومطالع القرن العشرين، ومن أبرز شعرائه: محمد عبدالصّمد كنّون، محمد النّميشي، محمد بن إبراهيم (شاعر الحمراء)، محمد الجزولي، عبدالله القبّاج، أبو بكر بناني، محمد بن اليمني النّاصري…، وجيل ثانٍ سيظهر بعيد هذه الحقبة، ويشمل أسماء لعلّ من أهمّها: عبدالمالك البلغيثي، والمختار السّوسي، ومحمد القرّي، ومحمد المكّي النّاصري، ومحمد المهدي الحجوي، وعبدالكريم سكيرج، والصدّيق العلوي، ومحمد الحلوي، وعلي الصقلّي، وعبدالكريم التّواتي، ومحمد الحبيب الفرقاني. ورغم الفارق الزّمني النّسبي بين الجيلين، وخارج النّواظم الأساسيّة لأيّما شعريّة كلاسكيّة، سيشترك شعراؤهما في تسخير قصائدهم لبثّ الرّوح الوطنيّة، والالتفاف حول العرش، ومواجهة الظّهير البربري، وكذا حَفْز الهِمَم؛ للأخذ بأسباب النّهوض والارتقاء(٩)، اشتراكهم في الاحتراز من شعر التّفعيلة وفق نواظمه التي عدُّوها أميل إلى الاستسهال، إن لم نقل الميوعة. فإن استقرّ الوضع لشعر التّفعيلة في أواخر أربعينيّات القرن العشرين، سواء في العراق، بلد المنشأ، أو في بعض الأقطار العربيّة الأخرى، ظلّ، مع ذلك، «المحافظون، داخل الدّول العربيّة، يرفضون هذا الشّعر الذي بدا لهم غربيًّا من خلال جدّته، ووثنيًّا بناء على إحالاته إلى الماضي الشّرقي، إلى النّبع. فهم سيعدّونه غير عربي، ولا يعكس لا البيئة العربيّة ولا التاريخ العربي»(١٠).

معايير الكلاسيكية الجديدة

إنّها، إذن، قسمات المناخ التاريخي والثقافي والإبداعي الذي ستتفتّق فيه موهبة علّال الفاسي وتتدرّج قصيدته في ثناياه وملابساته، موتورة على معايير الكلاسيكيّة الجديدة، في الغالب الأعمّ، ومنزاحة، مرّات، نحو جاذبيّة النّموذج الرّومنتيكي، متشبّعة بمظانّ مرجعيّة شعريّة تذهب من مدرسة «البعث والإحياء» إلى مدرسة «أبولو» إلى مدرسة «الدِّيوان»، مرورًا بمدرستي «الرّابطة القلميّة» و«العصبة الأندلسيّة»، مسوقة إلى استرجاعات، أو، بالأولى، تناصّات، إدغاميّة أو تحويريّة، مع نصوص ومتون لشعراء هذه المدارس، تناصّها مع محافل دينيّة وصوفيّة وفلسفيّة وأدبيّة ومدوّنات حكائيّة من التّراث العربي – الإسلامي، مُراوِحة، في إيقاعها الخليلي المهيمن، بين البحور العروضيّة الصافيّة والأخرى المزيجة، وفي ركوبها للصّيغ الإيقاعيّة التي تبنّاها الرومنتيكيّون والمهجريّون بين هندسة التّربيع وهندسة التّخميس…؛ مع مرونة في توظيف عنصر القافيّة، بحيث «… إنّ حديثنا عن شكل للمضمون معناه تطرّقنا لتنظيم نسقي للعالم»(١١)، وجالبة لمبدعها، هكذا وجزاء شاعريّتها الرّفيعة، لقب «شاعر الشباب»، الذي سلف أن أثرناه، وكذا تقريظ شاعر في علوّ كعب الشّاعر الرّومنتيكي التّونسي، أبي القاسم الشابّي، وهو يقرأ له من بين من قرأ لهم من شعراء مغاربة ضمّت نصوصهم أنطولوجيا «الأدب العربي في المغرب الأقصى» (1929م) لمحمد بن العبّاس القبّاج. وإذا كان الشّاعر، مفطومًا على خصال الأنفة والفخار، ممّا يليق بكلّ شاعر أصيل، قد صاح، بطافح الوثوق والاعتداد(١٢)، بأنّه أكبر من إضاعة وقته في اللّعب واللّهو، علمًا أنّه كان قد استكمل، للتّوِّ، ربيعه الخامس عشر، فماذا عسانا نتوقّع منه، هواجس وتطلّعات، كان على فكره وشعره، كليهما، أن ينوءا بعبئها ويخفرا، كنتيجة، ما اتّخذه أفقه الوجودي من تراحب وتعاظم كيما يسع لا شجون ذاته الرّعناء ولا الخطوب التي أطبقت على جموع يقتسم معها تربة مسقط الرّأس وسماءه التي لا تضاهيها أيّة سماوات. فهو «… وكأنّه ذو نزعة فرديّة فخريّة، حين يتحدّث عن نظره العالي ونفسه الأبيّة وآماله العريضة التي تحول بينه وبين اللّعب واللّهو، وقد جاوز عامه الخامس عشر، ولكنّ هذه النّزعة سرعان ما تذوب ممتزجة بأمّته المنكودة التي هي همّه وشغله. يقول في قصيدته (سيعرفني قومي):

أبعد مرور الخمس عشرة ألعب          وألهو بلذّات الحياة وأطرب

ولي نظر عال ونفس أبيّة          مقاما على هام المجرّة تطلب

وعندي آمل أريد بلوغها          تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب

ولي أمّة منكودة الحظّ لم تجد          سبيلًا إلى العيش الذي تتطلّب(١٣)

-٢-

طبيعيّ، إذن، أن تنتصب قيمة الحرّية كهاجس ضاغط في ذهن سياسي كعلّال الفاسي، وفي مخيّلته كشاعر. فواحد من أرومته يعبّر، في سنّ مبكّرة، عن زهو هائل، لكن خلّاق، بذاته لا بدّ وأن تشكّل الحرّية مناط جدارة هذه الذّات، كبرياءها، وتشامخها، فهي مبتدأ كلّ شيء وهي منتهاه، وبها تستقيم الكينونة الإنسانيّة وتعثر على معناها الصّميم، المتجوهر، ممّا يصحّ معه تصييغ كوجيتو مواز لذاك الذي وضّبه الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت يكون كالآتي «أنا حرّ إذن أنا موجود» كنوع من المضاهاة لـ«أنا أفكّر إذن أنا موجود». ولعلّ الحاجة الحيويّة إلى الحريّة في المعيش الإنساني وتدبير إرغاماته، بل مفارقاته، هي ما يفسّر بالغ الاعتناء الذي ستحوز عليه هذه الماهيّة الشّائكة والمكلّفة في دوائر الفلاسفة والمفكّرين، إن قديمًا أو حديثًا، ويكفينا أن ننوّه إلى أسماء لم تألُ جهدًا في معالجة هذه الماهيّة وتقليب أوجهها المقولاتيّة والعمليّة المتشابكة، ومن بينها أرسطوطاليس، وروني ديكارت، وباروخ سبينوزا، وعمّانويل كانط، وفريدريش هيغل، وكارل ماركس، وهنري باستيد، وهنري برغسون، وجان بول سارتر…؛ في الفلسفة الغربيّة، وابن سينا، والغزالي، والمعتزلة ومعهم إخوان الصّفا، الذين سيتعمّقون في حدّ الجبر وحدّ الاختيار، وزكريا إبراهيم، ومحمد عابد الجابري.

هومي بهابها

هذا، وبسبب من انشغاله المحموم بقضيّة الحرّية سيلجأ، بما يتناغم وشخصيّته المركّبة، إلى تناولها ليس فقط في العديد من قصائده الشعريّة، بل في أكثر من واحد من مصنّفاته السياسيّة والفكريّة. وفي هذا المضمار نلفيه يقول، على سبيل المثال: «فالحرّية إذن نتيجة تجاوز الموضوع بالذّات. إنّها انبثاق استقلاليّة ذاتيّة ناشئة عن حركيّة واجبة الوجود (…) وبذلك فالحرّية واجبة الوجود كحرّية حرّة؛ لأنّها لا يمكن ألَّا تكون حرّة. ولو فرضنا ذلك ممكنًا لكان اختيارها هي إذن وستبقى حرّيتها إثباتًا لوجودها»(١٤). سوى أنّه بقدر ما يوغل في شيء من التّجريد، حدّ استعماله عبارة الشاعر الفرنسي الكبير آرثور رامبو السّائرة «حرّية حرّة»، سرعان ما يداهمه الوازع السّياسي فيحاول تنزيل ماهيّة الحرّية من عليائها الميتافيزيقيّة إلى ملموسيّة الأرض واختلاطاتها الماديّة والرمزيّة، مشطِّرًا إيّاها، خضوعًا لعقله السّياسي التّحليلي، إلى حرّية قوميّة وحرّية شخصيّة وحرّية سياسيّة وحرّية اقتصاديّة فخامسة اجتماعيّة، محدّدًا المجال الجغرافي والتّاريخي والثقافي المتعيّن لأجرأة هذه الأشطار التي مرجعها إلى الحرّية الأصل ألا وهو المغرب، بحيث، في منظوره، «إنّ الإنسيّة المغربيّة كأساس للتربيّة، وباعتبارها من مقوّمات الحضارة العربيّة الإسلاميّة، هي التي تحرّر شبابنا من قيود الاستعمار الفكري ومثبّطاته، وتدفعه إلى أن يحمل مشعل الحرّية الذي حملته أجيالنا من قبله ليسير قدمًا نحو الغاية السّعيدة التي بدأنا نحن التّمهيد لها والعمل من أجلها غاية الحقّ والحريّة والطّيبوبة والجمال…»(١٥). وبين تكثيفه، أشدّ ما يكون التّكثيف وأبلغه، لهذا الاحتياج الحاسم للحرّية، رغمًا عن جسامة مأموريّتها، عند قوله: «إنّ دواء الحرّية صعب، ولكنّه الدّواء الصّحيح»(١٦)، وبين اتّخاذ مقاطع من قصيدة له يتغنّى فيها بها نشيدًا رسميًّا لحزب الاستقلال، ومنه «للحرّية جهادنا حتّى نراها / والتضحيّة سبيلنا إلى لقاها»، تنبسط، هكذا، الحرّية كموضوعة مهيمنة، وفقًا لاصطلاح النّاقد الشّكلاني الرّوسي رومان ياكبسون، على منتسج التّجربة الشعريّة لعلّال الفاسي، تستحكم في الجملة الشعريّة استحكامها في التّوليف وفي آليّة الإعمال المجازي والمواظفة الترميزيّة، أي في صلب اقتصاد شعري بكامله، وتخوّل لها، أي التّجربة، الاندراج إلى مدار تجارب شعرية، عربيّة قديمة وحديثة، كانت موضوعة الحرّية نسغها الضّارب، تجارب كلّ من أبي فراس الحمداني، والمعتمد بن عبّاد.. قديمًا، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وإبراهيم ناجي، وأحمد زكي أبي شادي، وإبراهيم طوقان، وعمر أبي ريشة، وأبي القاسم الشابّي، وأمين نخلة، ومحمد مهدي الجواهري، فضلًا عن الرّومنتيكي المغربي عبدالكريم بن ثابت صاحب ديوان «الحرّية»؛ حديثًا، وعالميّة حديثة من جنس تلك التي خلّدتها أسماء عابرة للثّقافات والآداب الإنسانيّة، كالتّركي ناظم حكمت، والفرنسي بول إيلوار، والإسباني فديريكو غارسيا لوركا، والرّوسي أوسيب ماندلشتام، والمارتينيكي إيمي سيزير.

ما أثبتناه من تعريفات نظريّة للحرّية لدى علّال الفاسي ليدخل في إطار ما يسمّيه النّاقد البنيوي الفرنسي، جيرار جنيت، بالعتبات النصّية، أو الموازيات النصّية، التي لا مراء في مردودها التّحليلي والتّأويلي للنّصوص الأدبيّة، بمعنى أنّه من الإفادة بمكان الاستئناس بنصوص وأقوال وأفكار وشذرات واقتطافات وقرائن..؛ من خارج النّص قيد التّحليل والتّأويل، أي بعناصر خارج – نصّية، بالمفهوم الاصطلاحي، واتّخاذها كوسائط مسعفة في توفير إحاطة مقنعة بالنّص إيّاه، ولكأنّ هذا الإجراء أشبه ما يكون بلعبة مرايا، إذ نستمري العمل الإبداعي في مرآة فكر ورأي صاحبه، أو آخرين، ونتحقّق، مرآويًّا، من هذا العمل في مرآة الفكر والرّأي، أو بحركة آلة أكورديّون مكّوكيّة تذهب، منفتحة ومنسدّة، في اتّجاهين اثنين.

ومنه، إن كان علّال الفاسي قد زاوج في تناوله الفكري لماهيّة الحرّية بين حدّي التجريد والملموسّة فإنّ شعره يكاد يتّخذ، في المجمل، هذه الوجهة، منشطرًا بين قصائد تسعى إلى تصفية الحساب، إن جاز التّعبير، مع هذه الماهيّة الملغزة، المنيعة، وحمّالة الأوجه، بما يدني العامليّة التّخييليّة في هذه القصائد من دائرة التفكير الفلسفي، الميتافزيقي أساسًا، الذي يا ما يتعاطى مع الحرّية كمقولة تجريديّة، متعاليّة، بله طوباويّة، لربّما تكمن جاذبيّتها في امتناعها عن أيّما تحقّق أمثل لا تشوبه نقائص أو مفارقات. يقول الشّاعر:

حوريّتي بك منذ كنت هيامي          وتحيّري في عالم الأحلام

ولحرّ وجهك لوعتي وصبابتي          وتطلّعي في غيبتي ومقامي

ولقد عشقتك قبل عرفان الهوى          بل قبل عرفان الوجود الظّامي

وثملت من كافور خمرك قبل أن          يحظى الوجود بخمرة أو جامِ

ومرحت في عرصات كونك قبل أن          يحظى الورى بالرّوض في الأكمامِ

حتّى إذا أقصيت عنك لغيرة          محظورة في كونك المتسامي

أصبحت علّة منشئي وتكويني          وتنزّلي في عالم الأرحام(١٧).

التلوين الميثولوجي

كذا يتبدّى الاستغوار الفلسفي للحرّية كمعنى متعذّر لا يجدي معه سوى اللّوذ بالتّلوين الميثولوجي الذي تغدو الحرّية بمقتضاه حوريّة نورانيّة تشخّص أقصى درجات البهاء مستضمرة، في الآن نفسه، استحالة تملّكها؛ لأنّها مخلوقة فانتازيّة نصفها العلوي آدمي بوجه أنثوي فاتن بينما نصفها السّفلي عبارة عن سمكة على منوال ما تتمظهر عليه في العديد من الأساطير والأعمال الأدبيّة، ومنها ملحمة «الأوديسة» للشاعر اليوناني هوميروس. تمامًا كما الأمر في الخطاب الصّوفي، الذي لا تخفى بصمته في القصيدة، وحيث تغدق على المحبوب، الحرّية هنا، وسم المطلق الذي لا مطلق بعده، صفة الأزليّة السّابقة على الخليقة، الشّيء الذي يرتدّ بعشق المحبّ وبرحاء شوقه، الأنا الشعريّة بما هي قناع الشّاعر، إلى صميم أزل لا معلوم، وهذا التّلوين الصّوفي هو ما نكاد نلقاه، حذافيريًّا، في «ميميّة» الشاعر ابن الفارض، وتحديدًا بيتها الافتتاحي:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة          سكرنا بها من قبل أن تخلق الكرم

الذي تستعيده قصيدة علّال الفاسي، بكيفيّة لا لبس فيها، مفاقمة منها لأزليّة الحرّية وصميميّتها الكونيّة. ولأنّ التّلوين الصّوفي يفضل تقنية بليغة تصويريًّا؛ بسبب من أهليّته الترميزيّة التي تبلغ حدّ الإيقونيّة، لا يتوانى الشّاعر في استثمار فكرة وحدة الوجود التي تتنصّل فيها الحرّية من أحاديّة الهيئة لتتقمّص، في بصيرة الأنا الشعريّة، كما الأنا الصوفيّة، كلّ الموجودات وسائر المرئيّات:

أهيم باسمك عند الصّباح          كما هيم الذّاكر الزّاهد

وأرنو لوجهك عند البطاح          كما واجه القبلة العابد

أراك لدى الكون باديّة          بكلّ المغاني وكلّ المباني

تتيهين بالحسن مملية          بديع المعاني بشتّى الأواني(١٨).

بل إنّ هذه الأنا لن تكتمل درايتها بأنانيّتها، أي بحافزيّاتها المبدعة، درايتها بأبجديّة الكمال والبذل والخير والشّر…؛ سوى بانجذابها الرّواقي الرّاضي إلى حوزتها لأنّها هي أسّ الهناء وهي الأنس المكتسب، وفي كلمة هي مكمن الجمال الذي يتوّج دراية الأنا بأنانيّتها هذه:

لولاك لم أعرف أنانيّتي ولم          يكمل بها في باطني مرغوب

وهديتني تصريفها في غاية          منها كمال الفرد وهو عجيب

علّمتني بذلي لها من أجلها          فوهبتها وأنا بذاك طروب

وهديتني التّمييز بين الخير في          أشكاله والشّر حين يريب

ووهبتني من بعد ذلك كلّه          ما لا يصوّر حسنه مكتوب

أشرقت لي وضّاحة وبدوت لي          جذّابة يا حبّذا الموهوب

ودعوتني لهواك دعوة مرشد          فدلفت في جذب إليك أجيب

خيّرتني فاخترت وجهك إنّه          مبدأ هناي وأنسي المكسوب(١٩)

وعلى يسر المعجم الموظّف في هذه المقاطع الشعريّة، سهولة تأوّل مفرداته دلاليًّا فما من شكّ في كون هذا الشّفوف، بما يستثير شفوف ماسّة ثمينة، لهو محفل لاستيهام فكري مصدره طبيعة المناولة الفلسفيّة لماهيّة الحرّية، هذه المناولة التي تخفرها إيهامات ميثولوجية وأخرى صوفيّة يرتفع معها القول الشّعري إلى درجة من الغموض غموض هذه الماهيّة، أصلًا، وانفلاتها من أيّما تعيُّن حاسم، ومن هنا نصير، في الحقيقة، حيال معجم معقَّد، في العمق ما دامت «البنية اللّفظية المعقّدة حصيلة فكر معقّد»(٢٠) أو، لنقل: «إنّ الثورة التي تقع في الفكر لا يمكن أن تبرز إلّا إذا حصلت معها ثورة في اللّغة، أي مراجعة للّغة وبعث لأصولها وتحوّل في طرق استخدامها»(٢١).

لكن إذا كان الشّاعر قد نحا، في ما أوردناه من نماذج شعريّة، منحى المشاكسة المتفلسفة لماهيّة الحرّية لاجئًا إلى تلوينات ميثولوجيّة أو صوفيّة، فسيَعمِد، وقد أضناه التربُّص بها في عليائها الميتافيزيقيّة، إلى تصريفها عبر توضّعات وجوديّة ملموسة تتنفّذ فيها ذوات وتواريخ.. سياقات واصطراعات.. يعاش معها الفقد والخصاص والحاجة، جرّاء الحرمان من الحرّية، من داخل المشترط الأرضي، لا السّماوي، أي بما له مساس بالذّات في علاقتها بنفسها، بالآخرين، وبالعالم. هكذا، وبوصفه مناضلًا سياسيًّا، ليس مستغربًا أن يتعرّض الشّاعر لحالات حرمان مأساويّة من نعمة الحرّية، وهو يصبح محلّ مضايقة ومتابعة واضطهاد من طرف المستعمرين الفرنسيّين، أو وهو يُزَجّ به في عتمات السّجون والمعتقلات، أو حين، ولربّما كان الأقسى، يقتلع من مسقط الرأس، من الوطن الأمّ، ويطوّح به إلى المنفى(٢٢) بما يستقيم معه من دلالات الاغتراب والوحدة والنّوستالجيا الملتاعة. وفي هذا المضمار ستسفر السّنوات التي قضّاها منفيًّا في الغابون عن متن عريض من القصائد التي توثّق، تخييليًّا، لحقبة أليمة في سيرة الشّاعر حرم فيها من نكهة تراب وطنه ومن نور شمسه.. من لذاذة معيشه ونعماء وشائجه الإنسانية، من حبّ وصداقة وجيرة، بل وحرم، هو المثقّف، الشّاعر، من القراءة والاطّلاع.. من الفائدة والمتعة، من الكتب والمجلّات والصّحف التي تطفئ أوار جوعه إلى المعرفة الموازي لجوع أهاليه الذين تركهم في الوطن:

رثيت بموطني حال الجياع          وجدت لهم بقدر المستطاعِ

وكنت لسدّ حاجتهم دوامًا          لدى أهل المكارم خير داع

وقمت لهم بما يرجون منّي          من الإبداع في وقت الدّفاع

وعشت محاربًا من أفقروهم          وردّوهم إلى سقط المتاع

وقفت عليهم شعري ونثري          وواصلت الجهاد بلا انقطاعِ

وها أنا ذا لأجلهم غريب          بقوم أرضهم شرّ البقاع

ألاقي ها هنا ما قد لقوه          من الجوع المعرّض للضّياع

وليس الجوع من خبز ولكن          أشدّ الجوع فقد الاطّلاع

………………………………………………………

أفتّش عن قصاصات رمتها          يد السّادات في حال المراع

لعلّ بها فتاتًا من كتاب          وجزء صحيفة فيه انتفاعي

عساني أن ألقى خبرًا لقومي          وأقرأ فكرة ذات ابتداع

وأرقب هل يساعدني رحيم          ولكن ما وجدت سوى امتناع

وطالبت الألى منعوا بحقّي          فما ألفيت منهم ذا استماع

لقد جعلوا اضطهاد الفكر زجرًا          لعمرك إنّهم أهل اختراع

أولئك معشر ألفوا اضطهادًا          فليس لديهم قلب يراعي(٢٣).

وإذ يستحضر أهاليه الجوعى المتروكين في بلده لمسغبتهم، الماديّة والرمزيّة، بسبب من الاستغلال والجشع الاستعماريّين تحضره كناية الورقاء، أنثى الحمام الجميلة والوديعة وقد وُجِدت بعيدة من صغارها، لم يكن لها من ملاذٍ سوى الانغمار في هديلها الممضّ، الشجيّ، الرّخيم، مخفّفة بذاك من غلواء اشتياقها إلى صغارها هؤلاء المنذورين لكلّ الدّواهي، بما يوازي لوذ الشّاعر بالتّغني، بالتّشكي، امتصاصًا منه لحنينه الحارق إلى مواطنيه الذين تركهم كالأيتام على مأدبة اللّئام:

غدوت كورقاء نأت عن فراخها          وأبعدها صرف الزّمان عن الرّبع

وقامت على دوح ببيداء بلقع          ترجّع من وجد بها فائق السّجع

ومرّ عليها كلّ يوم وجيأل          فردّوا عليها بالعواء وبالقرع

وما فزعت منهم ولكن ذكا بها          حنين إلى إلف به رقّة الطّبع

وأذكى بها ذاك الحنين صبابة          فعادت إلى التّخفيف بالسّجع وبالرّجع(٢٤).

هذا الحنين الذي سيعرف تمظهره الأقوى في مخاطبة الشاعر لزوجه، بحيث تسعف المشاعر الحميميّة على تبئير تلك الحاجة القصوى إلى ذات أنثويّة تمثّل مرتع حبّ الشّاعر ولهفته، وتتّخذ كصدى للحكي الشّعري».. فعلّال الفاسي لا يرى غير الحبّ يقرّب البعيد، وهو على بعده من وطنه في منفاه يشعر بشدّة قربه من بلاده ومواطنيه، يقيم معهم بروحه ومشاعره وحواسّه»(٢٥)، لكنّها تقوم، أي المرأة، كنائيًّا، مقام ذات جمعيّة كبرى، مهاد أوّلي، بلغة الفيلسوف الظّاهراتي الألماني إدموند هوسرل، للكينونة في حاضرها الكالح، وفي غَدِها الحرّ المحلوم به».. هكذا فإنّ المنفيّ يقع في منطقة وسطى، فلا هو يمثّل تواؤمًا كاملًا مع المكان الجديد، ولا هو تحرّر تمامًا من القديم، فهو محاط بأنصاف مشاركة، وأنصاف انفصال، ويمثّل على مستوى معيّن ذلك الحنين إلى الوطن وما يرتبط به من مشاعر»(٢٦)، قد تلوح موقوفة على امرأة بعينها، في حين هي تغمر وطنًا بكامله:

أزهرًا على بعد المزار سلام          فإنّي بأرض الأسودين مقام

و قد جدّ بي شوق الرّحيل إليكم          وأقعدني حبس هنا وسقام

فلو تعلمين اليوم حالي رثيت لي / وعادك وجد للّقا وهيام

ألا في سبيل الله ما قد لقيته / أذى وأسى يشتدّ منه أوام

………………………………………………….

ألاقي من الأمراض كلّ شديدة          ويلحقني طعن لهنّ توام

مرضت وحيدًا لا أنيسَ بجانبي          ولا لي في قلب هوى وذمام

وما عادني بين البريّة عائد          ولا قيل هذا المستهام مضام

وخلفي من الأحباب لو يعلمون بي          أساة لأدواء الزّمان كرام

فيا أمّ ليلى لا تراعي فإنّني          صبور على الأيّام لست ألام

ويا أمّ ليلى لا تظنّي عزيمتي          تضعضعها الأيّام وهي عظام

ويا أمّ ليلى فاكلئيها فإنّها          وشيظة قلبينا عليك سلام(٢٧).

ولمّا نقول وطنًا بكامله، أي برجاله ونسائه، وبالتّالي، إن كانت زوجه خليقة بأن تستأثر بحبّه وعنايته فإنّ هذا الاستئثار لا يمكنه الإعفاء على تعاطفه مع بنات جنسها، مع الفتيات المغربيّات وحدبه اللّامشروط عليهن كضحايا، شأن الرّجال، لكابوس استعماري ذريع، وكذلك لتقاليد بالية وأعراف متزمّتة تصادر من المرأة حقّها الطّبيعي في التّعليم والعمل والمشاركة في تدبير مستلزمات المجال العامّ، أي لأيديولوجيا ذكوريّة مترسّخة تحتقرها وتقصيها محدّدة لها أدوارًا مجتمعيّة هامشيّة تحول بينها وبين نيل ما يليق بها من حقوق إنسانيّة، من حرّية وكرامة وجدارة. وعليه فستشكّل قضيّة المرأة إحدى الجبهات المصيريّة التي سيتولّاها علّال الفاسي، مناضلًا ومفكّرًا وشاعرًا، جاعلًا من تحريرها، من الجهل ومن السّخرة، المدخلَ الفعليَّ لنهضة المجتمع المغربي ورقيّ أفراده، وبذلك سوف يكتسب مكانة بارزة في الأدبيّات التي تتمحور حول المسألة النسائيّة، إلى جوار المصري قاسم أمين، والتّونسي الطّاهر حدّاد، والمغربي محمد الحجوي الثّعالبي…؛ الذين لم تكن جهودهم في هذا الميدان بأقلّ من جهود رائدات الكفاح النّسائي العربيّات، من قبيل المصريّتين: هدى شعراوي ونوال السّعداوي، والمغربيّة فاطمة المرنيسي، والعالميّات، من مثل الفرنسيّتين: سيمون دي بوفوار وسيمون فيي، والأميركيّتين: إنجيلا ديفز وناسي فريزر… فهو يقول في قصيدة ألقاها في مؤتمر طلبة شمال إفريقيا المسلمين الذي عُقِدَ في باريس عام 1933م:

حملوا عليها حملة جبّارة          أضحت بها لا تستطيع تظلّما

يا قوم ما هاتي الجهالة منكم          إنّي أرى سيل التّعصب مفعما

البنت مثل الطّفل إن أصلحتها          صلحت وإلّا كنت أنت المجرما

ربّوا الفتاة على المعالي إنّها          إن هذّبت تلج السّبيل الأقوما

وتزيد من هاتي الحياة لذاذة          تكسو مباهجها الشّباب المسلما

إنّا سئمنا عيشة مبتورة          ما إن نطيق بها نظامًا محكما

البيت عمدته الفتاة فإن تدم          في الجهل أضحى ذا العماد مهدَّما

وغدت حياة المرء في أرجائه          ليست تطيق غبطة وتبسُّما

فإلى متى تبقى الفتاة بجهلها          وأخو الفتاة من المساعد معدما(٢٨).

وبالنّظر إلى الحسّ القومي المكين في ضمير الشّاعر وجوانحه، ولأنّ الجرح الفلسطيني المأساوي كان قيد الاستفحال في غضون ثلاثينيّات القرن العشرين، ثمّ لكونه يشاء للفتيات العربيّات ما يريده للمغربيّات، من تحرّر وعزّة وكرامة ومساواة..؛ فلسوف يسبغ على الفتيات الفلسطينيّات المتظاهرات، عام 1933م، ضدّ ما كان يتمخّض عنه التّكالُب الاستعماري – الصّهيوني من مخطّطات تهيّئ للنّكبة الفلسطينيّة الفادحة، وإذ امتلكن الجسارة للتّظاهر والتّنديد فقد منحن الشّاعر منتهى الوثوق في ما يمكن أن تأتيه المرأة من مآثر كفاحيّة، بل تاريخيّة ومجتمعيّة، ضدًّا على الأفكار السلبيّة، المسبقة، التي يطوّقها بها الفكر الذّكوري المتغطرس:

إيه فتاة العرب في          كلّ المواطن والبلاد

مُدِّي يديك وانقذي          نا من مهاوي الازدراد

ولتشعرينا بالكرا          مة في النّفوس والاعتداد

…………………………………..

إذ كان ينقصنا علا          ج من سليمى أو سعاد

الآن قد خطّت فلس          طين لنا سبل السّداد

حيّا الله فتاتها          وحمى مواقفها الجياد

كوني فتاة العرب را          ئدة لنا يوم الجلاد

كوني لنا كمثالها          وتقدّمي في كلّ ناد(٢٩).

إنّ مكافحًا من أجل الحرّية لصالح الأفراد والشّعوب والأمم من طينة علّال الفاسي كان لا بدّ وأن يتخطّى حسّه التّآزري، بله التّحريضي، حدود ما هو قومي ليطول الأفق الإنساني الشّاسع، وبخاصّة الشّعوب والأمم التي عانت، أو لا تزال، من ويلات الاستعمار. هذا وإذا كان قد أفرد قصائد يمجِّد فيها الملاحم الثوريّة التي خاضتها الشّعوب العربيّة من أجل نيل حرّيتها، مستلهمًا وقائع من ماضيها، البعيد أو القريب، الوضّاء مغالبة المحتلّين، على شاكلة ما فعل بخصوص المغرب وهو يستعيد رمزيّة معركة وادي المخازن، أو معركة الملوك الثّلاثة التي دحر فيها المغاربة الغزو البرتغالي، أو إزاء مصر حين رثائه لأحمد عرابي الذي سيثور على الإنجليز أو سعد زغلول في مواجهته، هو الآخر، للوجود الإنجليزي، وصولًا إلى مناصرته للقضيّة الفلسطينيّة وتضامنه مع حرب التّحرير الجزائريّة وتغنّيه باستقلال كلّ من إندونيسيا وباكستان…؛ إذا كان قد فعل ذلك فإنّ عاطفته الأمميّة الفيّاضة ستدفعه إلى الوقوف في صفّ شعوب ما سينعت بالعالم الثالث، في إفريقيا وآسيا وأميركا اللّاتينيّة، بوصفها ضحيّة الحجر والهيمنة الاستعماريّين، وحثّها على الثّورة والنّهوض وأخذ زمام مصيرها بنفسها:

خلّوا «الأفايين» إن شئتم مقاومة

لكلّ من دفنوا إنساننا فينا

هبّوا من الرّقدة الكبرى، فدوركم

«يا ثالث العلمين» اليوم قد حان

ونظّموا نهضة كبرى موحّدة

تدكدك الظّلم أركانًا وميزانا

وحطَّموا القيد قد طالت معاقده

وحقّقوا العدل أعوانًا وإخوانا(٣٠).

فشعوب العالم الثّالث التي يناديها الشّاعر بالثّورة والنّهوض ما هي إلّا ضحية لسيرورة التّاريخ السّياسي والاقتصادي لغرب كان أسير تمركزه الحضاري وتضخّمت رأسماليّته لتتحوّل إلى إمبرياليّة كاسحة كانت في حاجة إلى خيرات القارّات الأخرى وأسواقها فكان الاستعمار، والنّتيجة هي السّيطرة على بلدان واستغلال لأراضٍ ولبشرٍ، وتدمير أنظمة حياة وتقاليد وثقافات، ضدًّا على دفوعات الاستعماريّين التلفيقيّة التي يا ما سوّغت جريرتها التّاريخية في حقّ هذه الشّعوب بكون الغرب حمل إليها رسالة تمدينيّة ستنقلها إلى نطاق الحضارة، والتّدبير المعقلن لعلاقة الإنسان بذاته، بالآخرين، وبالطّبيعة، وإلى أفق المسيحيّة كديانة سويّة تجذّر إنسانيّة المؤمن وتفجّر ملكاته، كما تشذّب أخلاقيّاته ومسلكيّاته في الحياة، في مقابل ما لا يحصى من المعتقدات الوثنيّة، وانتشالها، أي هذه الشّعوب، من درك الهمجيّة والفطرة والكفاف، بحيث لن يتورّع الغربيّون، في إطار هذا التّمويه، عن ترديد أنّ «هنالك مسؤوليّة نتحمّلها، ويجب أن نقوم بواجبها. لقد تقدّمنا، وعرفنا طريق الرّقي وأسباب التّطور العصري، فكيف لا يمكننا أن نهتمّ بغيرنا من الشّعوب البدائيّة، ولا نعمل على رفعها للمستوى الذي نحن فيه؟»(٣١)، وها الشّاعر يعرّي عن بشاعة الاستعمار، داعيًا إلى التّضامن بين الشّعوب المستعمرة ومقاومة أطياف الاستعمار وصدّ فلوله استردادًا للحقّ واسترجاعًا للكرامة:

من المدافع عن شعب المساكين          من السّيام إلى أقصى فليبّين

ومن يردّ حقوق العرب قاطبة          في أرض مصر وللشّعب الفلسطيني

وأرضنا بصحاريها وأربعها          أصابها البخس في كلّ الموازين

لقد عاد مدّ الاستعمار يدرعنا          ونحن في غفلة منه وتهوين

كنّا على فطرة الشّعب الموحّد لا          نخشى الجهارة في دنيا ولا دين

كان التّضامن من أسمى ما نردّده          ما بين مسلم إفريقيا إلى الصّين

إن مسّ واحدنا في الهند تلحظنا          كثائر واحد في الحقّ مغبون(٣٢).

وفيما يماثل مفارقة أو، بالأصحّ، إعادة التّاريخ لنفسه، إن كانت الإمبرياليّة الغربيّة قد استقوت على شعوب المستعمرات ومرّغت كرامتها فستفضي أواليات الصراع الضّاري بين الأروبيّين وتضارب مصالحهم الحيويّة إلى نشوب حروب طاحنة، ضمن مقولة الانتقاء الطّبيعي التي وضعها عالم الطّبيعة البريطاني، شارل داروين، أو مقولة البقاء للأقوى، التي قال بها الفيلسوف الألماني، فريدريش نيتشه، لتكون الغلبة لأطراف، والهزيمة لأخرى، كما يحدث في أيّما حرب، وهو ما سيطول فرنسا، القوّة الاستعماريّة الكبرى، وهي تتجرّع مرارة هزيمتها أمام ألمانيا النّازية واحتلال أجزاء من ترابها الوطني، ليكون ردّ الفعل، البديهي والمشروع، هو انطلاق حركة مقاومة ضدّ الاحتلال الألماني سيقودها الزّعيم الفرنسي الشّهير، الجينرال شارل دوغول، وينضمّ إليها مقاومون حتى من قلب الإمبراطوريّة الاستعماريّة الفرنسيّة، لم يحرجهم كون فرنسا تحتلّ بلدانهم وتنغّص عليهم حياتهم وفقًا لتقاليدهم وأعرافهم. فالحرّية قيمة كونيّة عابرة للتّواريخ والجغرافيّات ولا تحتسب جدواها من عدمها بناء على حيثيات الجنس أو اللّون أو الدّين أو الرفاهيّة أو الفاقة..؛ فهي الأصل ولا مغزى للوجود الإنساني في غيابها، ومن هنا لن يضير الشّاعر، الذي يرزح وطنه تحت الاستعمار الفرنسي والإسباني والدّولي، أن يعبّر عن تأييده لانتفاضة الفرنسيّين على المحتلّ الألماني لكونها نبيلة نبل كلّ الانتفاضات النّاشبة في مختلف المستعمرات سعيًا وراء حرّيتها واستقلالها، مثلما لن يضيره في شيء أن يتسامى بشخصيّة دوغول كرمز كوني للعزيمة والإقدام والإيثار في سبيل نيل الحرّية:

سيروا إلى المجد إنّ المجد ينتظر          واهرقوا الدّم في الأوطان تنتصروا

موتوا لتحيوا فما في العيش فائدة          لمن ظلّ بالاستعباد يحتقر

صوت من الأرض يدعوكم فلا تقفوا          ومنطق الحقّ يحدوكم لتنغمروا

ما شاد أوّلكم يهدم إذا قبلت          نفوسكم حكم من للشّعب يقتسر

ثوروا كما ثار أسلاف لكم فلقد          بنوا مفاخر لم يسبق لها عصر

و هدّموا صرح الاستعباد بينكم          وجدّدوا سبل التّحرير وابتكروا

………………………………………………………..

وإنّي وإن فرّقت بيني وبينكم          تصرّفات لكم في أمّتي نكر

لمعجب بالّذي جئتم ومعترف          بنبل غايتكم فيه ومعتبر

أكبرت دوكول لمّا هبّ متّشحا          بالعزم لم يلوه خوف ولا حذر

……………………………………………………….

و من أحقّ بإكباري وتكرمتي          من ثورة كلّها نبل ومفتخر

إنّ أرى ثورة التّحرير………          ………من صميم القلب تنفجر(٣٣).

أخيرًا، وخارج ما أوردناه من تجلّيات لتربّص الشّاعر، تخييليًّا، بالحريّة، الماهيّة المستعصيّة، الحربائية، والمتفلّتة، أفليس الأصوب قولنا: إن طوق نجاة الشّاعر في مطاردته الضّروس لها لهو، من قبلُ ومن بعدُ، قصيدته في حدّ ذاتها، بما هي أرضه، ملاذه، أو سكنه الرّمزي، بتعبير الفيلسوف الألماني، مارتن هايدغر؟ ومع ذلك هل له أن يسقط من الحساب، ونحن أيضًا بوصفنا قرّاء، مكر اللّغة الشعريّة، خذلان إبدالاتها في أثناء لحظة الكتابة، وتقتيرها، معجميًّا وتركيبيًّا ومجازيًّا، بهذا الشّكل أو ذاك، في ترضية أحلام الشّعراء المشبوبة وتلبية تداعياتها الرّعناء وإملاءاتها المتمادية؟!

______________________________________________________________________________________________________

الهوامش:

(١) ولد بمدينة فاس عام 1910م، وتوفي عام 1974م ببوخاريست، عاصمة رومانيا. سياسي ومفكر وفقيه وشاعر وأستاذ جامعي.. تخرج من جامعة القرويين، ولِتأجُّج مشاعره الوطنية ومعاداته للاستعمار سينضم إلى صفوف الحركة الوطنية التي ستتمخض عن ولادة حزب الاستقلال، أحد أقدم الأحزاب السياسية المغربية، وسيصبح أمينه العام إلى حين وفاته. وعقابًا له على مواقفه المناوئة للاستعمار ستتقلب حياته لردح من الزمن، قبل حصول المغرب على استقلاله عام 1956م، بين التضييق والاعتقال والنفي، إذ سينفى إلى الغابون، المستعمرة الفرنسية جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى، لمدة تسع سنوات (1937– 1946م)، كما سيمضي إقامة إجبارية في مصر (1947– 1956م)، وأخرى لبضعة شهور في إسبانيا.. ونظرًا لتفانيه النضالي وكاريزماه السياسية الفريدة سينال لقب الزعيم الوطني الذي سيغطي، لسطوته وجريانه على الألسن، على لقب «شاعر الشباب» الذي كان قد انتزعه في سِنِي فتوته، مندرجًا، هكذا، وعن استحقاق، إلى مدار سلالة من الزعماء الوطنيين في العالم العربي، من أمثال سعد زغلول وميشيل عفلق والحبيب بورقيبة..؛ هذا اللقب الذي سيتقاسمه معه، من بعد، قطب اليسار المغربي، المهدي بنبركة، صاحب وثيقة «الاختيار الثوري»، الذي تفتح وعيه السياسي، هو الآخر، في نفس حزب علال الفاسي، أي حزب الاستقلال، قبل أن تفرق بينهما سبل السياسة وتباين القناعات ثم ليتعرض للاغتيال في قلب باريس، ونظرًا لألمعيته النضالية، إن وطنيًّا أو عالميًّا، سيضم اسمه إلى البانتيون اليساري العالمي الرمزي الذي آوى أسماء من عيار ليون تروتسكي وماوتسي تونغ وتشي غيفارا..؛ هذا وعندما تنضاف إلى كاريزماه تلك، أي علال الفاسي، نخوته الأندلسية التي ورثها عن أسلافه وأناقته الفاسية المشذبة، وكذا تواضعه وبساطته المتمنعين، ندرك لماذا غدا أقرب إلى أسطورة حية في الوجدان الوطني العام. سيعرف بجدالاته العميقة مع سياسيين ومفكرين اختلف مع رؤاهم وتحليلاتهم، ومن أشهرها جداله مع الفيلسوف الفرنسي روجي غارودي، قبل اعتناقه للإسلام، ومع المؤرخ المغربي عبدالله العروي. من بين مؤلفاته: «حديث المغرب والمشرق»، و«المغرب العربي منذ الحرب العالمية الأولى»، و«نداء القاهرة»، و«الحركات الاستقلالية في المغرب العربي»، و«النقد الذاتي»، و«مهمة علماء الإسلام»، و«مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها»، و«دفاع عن الشريعة»، و«نحو وحدة إسلامية»، و«التصوف الإسلامي في المغرب»، و«بديل البديل»، و«الحرية»، و«الإنسية المغربية»، و«من أجل تفاعل لغوي»، و«عوامر الكلم»، و«أساطير مغربية ومعربة»، و«وادي الجواهر ومجموع المكنون من الذخائر»، و«في رحاب اللغة والآداب والنقد»، و«أحاديث في الفلسفة والتاريخ والاجتماع»، هذا فضلًا عن ديوانه الشعري الذي صدر في ثلاثة أجزاء.

(2) Fadma Aît Mous et Driss Ksikes : Le metier de l’intellectuel, dialogues avec quinze penseurs du maroc, les presses de l’université citoyenne, casablanca 2014, p. 15.

(3) Jean Hustin : Trois manifestes pour l’intellectuel et ses devoirs, Magazine littéraire, N 248 (Spécial : Le rôle des intellectuels), Décembre 1987, p. 24.

(٤) إدوارد سعيد: المثقف والسلطة، ترجمة: د. محمد عناني، دار رؤية، القاهرة 2006، ص 25.

(٥) عبدالكريم غلاب: فكر علال الفاسي بين البعد الإنساني والبعد العربي، مجلة «آفاق»، التي يصدرها اتحاد كتاب المغرب، ع 65 – 66 (ملف: علال الفاسي، مرجعية سلفية وأفق متحرر)، 2001، ص 157.

(٦) عبدالله كنون: أحاديث عن الأدب المغربي الحديث، دار الثقافة، ط 2، الدار البيضاء 1978م، ص 92.

(٧) محمد مفتاح: مقاصد الشعر عند علال الفاسي، مجلة «آفاق»، مذكور، ص 160.

(٨) نفسه، ص 160.

(٩) في ظرف تاريخي وثقافي، اتسم بندرة صدور المجاميع الشعرية، ستشكل بعض المنابر الذائعة، وقتها، محفلًا للقصائد التي ستنحو هذه الوجهة التعبيرية، وهذه المنابر، مجلات أساسًا، هي: «السلام» لصاحبها محمد داود، و«المغرب الجديد» لمحمد المكي الناصري، و«رسالة المغرب» لحزب الاستقلال، و«الثقافة المغربية» لحزب الشورى والاستقلال.

(10) Slimane Zeghidour : La poésie arabe moderne entre l’islam et l’occident, Ed. Karthala, paris 1982, p. 229.

(11) Umberto Eco : Les limites de l’interprétation, traduit de l’italien par Myriem Bouzaher, Ed. Grasset / Fasquelle, Paris, 1992, p. 72.

(١٢) بما يشي بتلك الجرعة، التي قد تقل أو تتضخم، من نرجسية المبدعين التي تعدّ جزءًا لا يتجزأ من تركيبتهم النفسية، ولولاها لما أمكنهم إمتاع الآخرين بأخيلتهم المجنحة واستبصاراتهم المعجبة. ومنه في بيت علال الفاسي: «أبعد مرور الخمس عشرة ألعب / وألهو بلذات الحياة وأطرب» وما يليه، قبس، مثلًا، من بيت الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد: «سيذكرني قومي إذا الخيل أقبلت / وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر»، وبيت الشاعر الأموي أبي عمر عبدالله بن عمرو العرجي: «أضاعوني وأي فتى أضاعوا / ليوم كريهة وسداد ثغر»، وبيت الشاعر العباسي أبي فراس الحمداني: «سيذكرني قومي إذا جد جدهم / وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر»، والشاعر العباسي أبي الطيب المتنبي: «سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا / بأني خير من تسعى به قدم»… ثم أو لم يقل الشاعر الروسي، فلاديمير ماياكوفسكي، صاحب «غيمة في بنطلون»، إحدى معلقات العصر، تجاوبًا مع ركائز التيار المستقبلي، الذي كان قطبه الأشهر، «إن مدينة المستقبل ستكون في حاجة إلى سواعد العمال ودماغ آينشتاين وخيالي أنا».

(١٣) عباس الجراري: تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب، من 1830م إلى 1990م، منشورات النادي الجراري، مطبعة الأمنية، الرباط 1997م، ص 153.

(١٤) علال الفاسي: الحرية، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الرباط 2013، ص 16.

(١٥) علال الفاسي: الإنسية المغربية، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الرباط 2009، ص 24.

(١٦) علال الفاسي: النقد الذاتي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، ط 8، الرباط 2008، ص 55.

(١٧) قصيدة «حوريتي»، ديوان علال الفاسي، تحقيق: عبدالعلي الودغيري، ج 2، منشورات مؤسسة علال الفاسي، ط 3، الرباط 2017م، ص 458.

(١٨) قصيدة «عذوبة الحرية»، الديوان، ج 2، مذكور، ص 461.

(١٩) قصيدة «جمال الحرية»، الديوان، ج 2، مذكور، ص 469 – 470.

(20) Henri Meschonnic : pour la poétique I, le chemin, NRF, Ed. Gallimard, paris, 1970, p. 56

(٢١) علال الفاسي: في رحاب اللغة والآداب والنقد، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الرباط 2015، ص 28.

(٢٢) وبذلك ينضوي الشاعر إلى زمرة من الشعراء، العرب والعالميين، الذين عاشوا تجربة النفي، القسري أو الطوعي لا فرق، ومن ثم لا يمكن تغييب هذا الجانب في أثناء مقاربة تجاربهم؛ لأنه بمقدار ما كانت محنتهم الاغترابية من القسوة فقد شكلت، في المقابل، مناسبة لإبداع نصوص ما كان لها سوى أن تمنح منجزهم الإبداعي، إن تاريخيًّا أو نقديًّا، قيمةً مضافةً لا غبار عليها. وفي هذا الباب لا بأس في أن نستحضر أسماء كل من الشعراء العرب القدامى: الأندلسي المعتمد بن عباد (المغرب).. ومن المحدثين: المصري محمود سامي البارودي (جزيرة سريلانكا)، المصري أحمد شوقي (إسبانيا)، الكلاسيكي الجديد المغربي عبدالرحمن حجي (بريطانيا)، الكلاسيكي الجديد العراقي عبدالمحسن الكاظمي (مصر)، الكلاسيكي الجديد العراقي محمد مهدي الجواهري (تشيكوسلوفاكيا)، العراقي المعاصر عبدالوهاب البياتي (الاتحاد السوفييتي ومصر)، العراقي المعاصر سعدي يوسف (الجزائر واليمن ولبنان وسوريا وبريطانيا)، العراقي المعاصر صلاح نيازي (بريطانيا)، الفلسطيني المعاصر محمود درويش (الاتحاد السوفييتي ومصر ولبنان وقبرص وفرنسا وتونس). ومن الشعراء العالميين يكفي أن نضرب المثل بالشاعر التركي ناظم حكمت (الاتحاد السوفييتي)، والشاعر الإسباني رافائيل ألبيرتي (الأرجنتين، الشيلي)، والشاعر الروسي جوزيف برودسكي (الولايات المتحدة)، والشاعر – والمسرحي – الألماني برتولد بربخت (الدانمارك، الولايات المتحدة)..

(٢٣) قصيدة «جياع الخبز وجياع الكتب»، الديوان، ج 2، مذكور، ص 85 – 86.

(٢٤) قصيدة «أنا في منفاي»، الديوان، ج 2، مذكور، ص 89.

(٢٥) عباس الجراري : تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب، من 1830م إلى 1990م، مذكور، ص 118,

(٢٦) إدوارد سعيد: المثقف والسلطة، مذكور، ص 95.

(٢٧) قصيدة «أنة مريض»، الديوان، ج 2، مذكور، ص 91.

(٢٨) قصيدة «الفتاة المغربية»، الديوان، ج 1، مذكور، ص 126.

(٢٩) قصيدة «إلى الفتاة العربية»، الديوان، ج 1، مذكور، ص 123.

(٣٠) قصيدة «إلى العالم الثالث»، الديوان، ج 3، مذكور، ص 145.

(٣١) علال الفاسي: أحاديث في الفلسفة والتاريخ والاجتماع، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الرباط 2014م، ص 154.

(٣٢) قصيدة «مد الاستعمار»، الديوان، ج 3، مذكور، ص 104.

(٣٣) قصيدة «إلى الفرنسيين المكافحين»، الديوان، ج 2، مذكور، ص 301 – 302.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *