كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
هل تموت الرواية أم تغير شكلها؟
في مقالته «راوي الحكايات» يكتب فالتر بنيامين (1892- 1940م)، كأنه يتحدث عن العصر الذي نعيشه الآن: «ويمكن أن نميز، مع استتباب سيطرة الطبقة المتوسطة، التي تمتلك المطبعة بوصفها من أهم الأدوات في المجتمعات المتطورة رأسماليًّا، ظهورَ شكل جديد من أشكال التواصل. وبغض النظر عن الزمن الذي ظهر فيه هذا النوع من التواصل، فإنه لم يؤثر من قبل في شكل الملحمة على نحو حاسم. لكنه يمارس الآن تأثيرًا قويًّا. وقد تبيَّن أنه يهدد سرد الحكايات بقدر لا يقلُّ عما فعلته الرواية من قبل، لكن بطريقة أكثر تهديدًا تتسبب في الوقت نفسه في حدوث أزمة للرواية. هذا الشكل الجديد هو المعلومة»(١).
وقد تمثَّلت المعلومة، التي تخوَّف بنيامين من سطوة حضورها وقدرتها على الحلول محل الأنواع السردية الملحمية، ولم تكن الرواية من بين أنواعها النبيلة من وجهة نظره، في المواد الصحافية الخبرية التي رأى أنها نوع أكبر من الرواية التي ستعجز عن مقاومة جوع المتلقين إلى معرفة الأخبار؛ الأخبار القابلة للتصديق والتمحيص، أو أنها على الأقل تدعي الصحة والدقة، ولا تحتاج إلى شرح أو تأويل، وتتسم بالمعقولية.
ينبهنا بنيامين في رؤيته المتشائمة، وحنينه النوستالجي إلى الأنواع الملحمية والحكايات الشعبية القديمة التي يسبغ عليها صفة الحكمة والإعجاز والقدرة على تمثيل ما هو حميمي وجمعي في التجربة الإنسانية، إلى طبع العصور الحديثة الذي يمجد الفرديَّة، وهو الأمر الذي جعله ينظر نظرة متشككة وغير راضية عن الرواية التي رأى فيها النوعَ الأدبي المعبر عن البرجوازية الأوربية، وعن سيادة الفرديَّة، وانحسار الطابع الجمعي للفنون السابقة على الرواية، متمثلة في الأنواع الملحمية. لكنه رغم ذلك، يتخوَّف على الرواية من الضمور والاضمحلال في زمن المعلومة التي تتسم بطابع المعقولية، وهو ما يجعلها غير قابلة لأن تكون جزءًا من المحكيات أو المسرودات؛ لكونها لحظية، حياتها قصيرة تحل محلها بالضرورة معلومات أخرى، فيما لا تستهلك الحكاية نفسها وتظل قابلة للعيش في تأويلاتها المتعددة في الأزمنة اللاحقة لإنتاجها.
فهل كان تخوف بنيامين في محله؟
إذا ألقينا نظرة سريعة خاطفة على الإبداع الروائي في النصف الثاني من القرن العشرين سنجد أن نبوءته تتعرض للدحض والنقض في إبداع روائيين كثيرين استطاعوا أن يستفيدوا من المعلومة ويوظفوها كمكون أساسي يغني أعمالهم ويجعلها تتسم بالمعقولية، بحيث تتأرجح على الخيط المشدود بين الواقع والخيال، بين العمل الفني القابل للتأويل والبحث عن المعنى الخَبِيء، والرؤية الفنية الكامنة، والمادة الواقعية التي يستخدمها الكاتب جزءًا من مواد عمله الروائي. نعثر على هذا في كثير من الأعمال الروائية المعاصرة، العالمية والعربية، التي توظف المعلومات وسِير الأشخاص الواقعيين والوقائع التي حدثت بالفعل لكي توهم القارئ بواقعية ما يقرؤه وتجعله يعلّق عدم تصديقه، وينظر إلى العمل الروائي بوصفه مصدرًا للمعرفة والمعلومات التي يوردها الكاتب في سياق عمله السردي المتخيَّل. هكذا يمزج الكاتب التشيكي ميلان كونديرا (1929) بين الواقعي والخيالي؛ بين المادة الخبرية والمعلومة التاريخية والمقالة الصحافية والريبورتاج والتعليق على اللوحات، والنوادر والطرائف والحكايات الجانبية المنقولة من الأخبار، والتخييل الروائي. وهو بذلك يجعل من كتابته الروائية في «كتاب الضحك والنسيان» (1978م)، و«الكائن الذي لا تحتمل خفته» (1982م)، مزيجًا من الأشكال والأنواع، فيتحوَّل العمل في عملية التلقي إلى نادرة، أو تاريخ، أو مقالة فلسفية. ونجد موازيًا لهذا المزج وتهجين الأشكال والأنواع؛ وتجاور النادرة والطرفة والخبر ورواية الأشعار والتخييل الروائي، في عمل الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي (1921- 1996م) الذي سعى في كتابته الروائية إلى إحداث هذه الخلخلة في تلقي النص الذي هو جماع أشكال وأنواع، وتوليف لمواد غير متجانسة، كما سعى إلى إقامة توازٍ حادّ بين الواقع والخيال. كما نعثر على هذا المزج والتهجين أيضًا في معظم أعمال صنع الله إبراهيم (1937م -) التي تصنع كولاجًا من المادة الخبرية الصحافية، أو الأرشيفية، أو التاريخية، أو البحثية، ومادة الخيال الروائي، ناقلةً الأخبار والوقائع والوثائق من محور الواقع إلى محور الخيال، حيث تصبح مواد الواقع إبداعًا قابلًا للتخييل والتأويل.
ما أريد قوله من ضرب الأمثلة السابقة هو أن الرواية استطاعت أن تتغلَّب على التهديد الذي مثلته المعلومة على حضورها، حسب بنيامين، بأن جعلت من المادة الخبرية والوثيقة والتعليق الصحافي والشائعة والصورة، وكل ما ينتمي إلى عالم المعلومات، جزءًا أصيلًا من بنيتها النصية وموادها التي تشكل عالمها، في نوع من التناسج، والتناص، الذي يحصنها ضد الانقراض في عصر تتربَّع فيه المعلومة على عرش المعرفة والتواصل الإنسانيين. وقد تأثر شكل الرواية المعاصرة بالمواد المضافة إليه من خارجه، بتلك المواد المجتلبة المغايرة لبنيته الأصلية، ليكون في إمكان الرواية تمثيلُ الحياة التي تسعى إلى كتابتها والقبض على لحظاتها الجوهرية. كما انعكس التفتت والتذرر المستمران في حياتنا المعاصرة على الأشكال والأنواع الفنية وأساليب الحياة، كما يشير عالم الاجتماع زيغمونت باومان (1925- 2017م). ويمكن انطلاقًا من هذا التصور، وصفُ الأعمال السردية المعاصرة بأنها شذريَّة، تتسم بناها بالمزج والقطع، والتقطُّع وعدم التسلسل، والعودة إلى الخلف، ثم التقدم، ثم العودة إلى الخلف، بحيث يستحيل في كثير من الروايات المعاصرة العثور على بؤرة للعمل، أو إسباغ سمة الشخصية الرئيسية على واحدة من شخصياتها. إننا نشهد عالمًا من الجُزُر المنفصلة والحيوات المعزولة والذوات المنغلقة على نفسها؛ وهو ما تسعى الرواية المعاصرة إلى تمثيله عبر تقنيات التفتيت والمزج والقطع، واستقلال الحكايات -أو القصص أو السرود- داخل النص بعضها عن بعض.
بلسم شافٍ من الفردية الرأسمالية
لكن الانتقال إلى عصر المعلومات، إلى عصر «القرية الكونية»، ومن ثقافة عصر الطباعة إلى عصر الميديا و«الترابط الإلكتروني»، حسب رائد المعلوماتية مارشال ماكلوهان (1911- 1980م)، سوف يُحلُّ الثقافة الإلكترونية محل الثقافة البصرية المرتبطة بالطباعة. ويرى ماكلوهان أن هذا الانتقال يمثل بلسمًا شافيًا للنوع البشري من الفردية الرأسمالية والتفتت والتذرر، الذي وصفه باومان، ويؤدي إلى تشكيل نوع من الذات الجمعية الكونية. سوف يتحول العالم، حسب نبوءة رائد المعلوماتية الكندي، إلى حاسوب، إلى عقل إلكتروني يقوم بوظيفتي البحث والتواصل، ويعزز استدعاء المعلومات بوصفه مكتبة موسوعية ضخمة توجد على قرص مدمج أو أنها تسبح في محيط الشبكة العنكبوتية الهائل. وإذا كانت النبوءة قد تحققت، فولدت الشبكة العالمية للتواصل الإلكتروني، بعد ثلاثين عامًا من صدور كتابه «مجرة غوتنبرغ» (1962م)، ونحو عشر سنوات على وفاة ماكلوهان، فإن تفاؤله وتبشيره بالعصر الإلكتروني، وادعاءه أن ذلك سيقضي على الفردية ويؤدي إلى نشوء ذات جمعية كونية، تتسم بالطوباوية التي طبعت حماسته التنظيرية لزمن المعلومات المقبل. فقد جلب عصر المعلومات أشكالًا جديدة من التفتت والتذرر، والعزلة، والاعتماد الذاتي، وانشطار الذات الإنسانية، وانقطاع البشر إلى الآلات التي يستخدمونها، ونشوء أمراض نفسية جديدة مرتبطة بالاستعمال المفرط للآلات الإلكترونية ووسائط التواصل الاجتماعي، بحيث دخلنا عصرًا يتواصل فيه البشر افتراضيًّا، فيفقدون التماسَّ والتواصل والحميمية التي يوفرها الاجتماع الإنساني الذي عرفته البشرية منذ بدايات وجودها. وهو ما تنبَّأ به ماكلوهان أيضًا عندما قال: إننا «نقوم بتشكيل أدواتنا، ثم تقوم هذه الأدوات بتشكيلنا»، وإننا «سوف نتماهى مع ما نشاهده»(٢).
لا شك أن ذلك سوف ينعكس على الرواية وشكلها ومادتها وطرائق تمثيلها للعالم، بوصفها «كتاب الحياة الذكي اللامع»(٣)، كما يقول الروائي الإنجليزي دي إتش لورنس (1885- 1930م) في مقالته الشهيرة «أهمية الرواية» التي كتبها عام 1925م، ونشرت بعد وفاته عام (1936م). لكن ما شكل هذه الرواية؟ ما المواد التي ستستخدمها؟ ما رؤيتها للعالم؟ ما وسائط قراءتها؟
الفن ليس مكتب براءة اختراع
يرى ديفيد شيلدز أن النسخ، بغض النظر عن كونها مطبوعة أو إلكترونية، «لم تعد مصدرًا من مصادر الثروة. فالثروة الآن قائمة في العلاقات، والروابط، وشبكات التواصل، والمشاركة. لقد تحولت القيمة من نسخة العمل إلى العديد من وسائل الاستدعاء، وكتابة الحواشي، والتخصيص، والتحرير، والتوثيق، والعرض، والإبراز، والتحديد والتظليل، والتحويل، والاشتباك. إن الفن محادثة وحوار، وليس مكتب براءة اختراع. كما أن الإشارة إلى المصادر هو عمل الصحافة والبحث العلمي، وليس الفن»(٤). ويوضح شيلدز، في كتابه النقدي «الجوع إلى الواقع» (الذي يمكن النظر إليه كمانيفستو للكتابة الجديدة في عصر المعلومات، كما أنه يتخذ طابعًا شذريًّا متقطعًا لا تسلسل في أفكاره ولا تواصل بين فقراته)، أن هذا الشكل من أشكال الكتابة، بما فيها الرواية والأنواع السردية بعامة، سيولد «رقميًّا، فتنساب الأعمال نحو المكتبة كما تنضاف كلمات جديدة إلى قصة طويلة. وهكذا، ففي الصراع بين تقاليد الكتاب وبروتوكولات الشاشة سوف تنتصر الشاشة»(٥).
وهكذا، فإذا كانت الكتب، بما فيها الروايات، ستولد إلكترونيًّا، ومن ثمَّ تستهلك إلكترونيًّا، فإن شكل القراءة والتلقي سوف ينعكس، في أغلب الظن، على شكل الكتابة، ومعنى التأليف، وتعريف المؤلف، وقد يؤدي إلى نشوء نوع من الكتابة الترابطية التي يشترك فيها الكاتب مع قرائه. وهذا يذكر بتجارب المسرح المعاصر في خلق علاقة تفاعلية حية بين الخشبة والنظارة. فما تحقق في عالم المسرح بدأ يجد نظائر له في تجارب السرد التفاعلي الذي ولد في عصر الإنترنت الذي يسعى فيه القراء إلى الانتقال من نافذة إلى نافذة، ومن شاشة إلى شاشة، والقراءة عبر النصوص، في تجسيدٍ فيزيائي للتناصيّة، والقراءة الشبكية المعقدة التي تحقق ما أطلق عليه بعض المنظرين «النص الفائق»، أو «النص التشعّبي»، Hypertext، الذي يتكامل فيه فعل التأليف مع فعل القراءة. ونحن نعثر في الشبكة العنكبوتية على الكثير من النصوص التي تقوم على مزج المادة التاريخية بالنصوص التي تستخدم أسلوب الأنا السارد والتسجيلات الصوتية والفيديوهات والوصلات والروابط، التي تشكل مادتها في مجموعها نصًّا مركبًا يصعب تصنيفه أو تجنيسه. ولربما يضع هذا الشكل من أشكال التأليف، والتوليف بين المواد والأنواع، نهايةً لشكل الرواية الذي نعرفه، إذا وضعنا في الحسبان أن المتلقين الجدد هم من الجيل الشاب الذي ولد في عصر المعلوماتية والرقمية، فلم تعد الأشكال والأنواع القديمة تلبي حاجاته الجمالية وأشواقه المعرفية وأشكال تمثله للعالم.
______________________________________________________________________________________________________
الهوامش:
(1) Walter Benjamin, Illuminations (New York, Schocken books, 1969), Edited with an Introduction by Hannah Arendt, Translated from the German by Harry Zohn, p. 88.
(2) Marshall McLuhan, Understanding Media: the Extensions of Man (Cambridge, MA: MIT Press, 1994), p. xi.
(3) David Herbert Lawrence, “Why The Novel Matter, in Phoenix: The Posthumous Papers (New York: Viking Press, 1936).
(4) David Shields, Reality Hunger (New York: Penguin, 2010), p. 29.
(٥) المصدر السابق، ص: 31.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق