كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المرأة في الفضاء الصوفي
قد تصل إلى «رتبة القطبية» وهي بمنزلة الخلافة في «الدولة الروحية»
تَنَعَّمَت المرأة المسلمة بطيب مذاق المجد النسوي في العصر الذي وصفه رسول الله عليه صلوات الله بأنّه خير العصور.. في ذاك العصر، الحاضر في الذاكرة والمحفوظ جزء منه في دواوين الحديث النبوي الشريف وأجزاء كثيرة في روايات الصحابة الكرام، كانت النساء بحقّ شقائق الرجال، في السلم والحرب، وفي البيت والمسجد. فرأينا السيدة خديجة رضوان الله عليها في المرحلة المكية، وبشهادة رسول الله عليه صلوات الله، أنموذجًا راقيًا للمرأة التي نظرت بعين العدل والإنصاف والمحبة والحنوّ إلى مَعْدِن زوجها الإنساني فرأت من صدقه وأمانته وعظمة خُلُقه ما جعلها تؤمن به إنسانًا؛ فرفعت الحدود المالية فيما بين ملكيتها وملكيته، وشاركته في كل ما أشركها به. وعندما أخبرها نبأ جبريل عليه السلام كانت أول من آمن به نبيًّا رسولا صلوات الله عليه، واستعدت لأن تكون معه في كل شأن ولأن تصبر معه على كل ظرف وإن تعرّض بدنها الطاهر لما يؤثر على صحته وعافيته. ورأينا السيدة عائشة رضي الله عنها –عبر النصوص التأسيسية والدراسات الكثيرة– أنموذجًا نبيلا للمرأة العالمة المعلّمة، والفقيهة المجتهدة، والحافظة والمحدّثة بما سمعته عن رسول الله عليه صلوات الله، والناقدة الممحّصة التي لم تقف عند مرحلة الرواية بل أعملت ميزان النقد في كل ما تسمعه من الصحابة عن رسول الله عليه صلوات الله، واستدركت –بالرفض وبالتصحيح– تسعة وخمسين استدراكًا (59 استدراكًا) على ثلاثة وعشرين من الصحابة. وقد ألّف الزركشي كتابًا في هذا الموضوع عنوانه: «الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة». ورأينا سيدات صحابيات كريمات في مجالس العلم، وفي ساحات الحرب بين القتلى والجرحى، وفي الأسواق يَرْقُبْنَ عمليات البيع والشراء، وفي المسجد موطن صنع القرار يشاركن في النقاش «السياسي» ويدافعن عن حقوقهن الشرعية.. نماذج أصيلة للمرأة الخطيبة والمجادِلة والمداوية والفقيهة والتاجرة والمحتسبة وغير ذلك.
أَسوقُ هذا الكلام كلّه، لأقول: إن الحراك النسائي كان نشطًا في العقود الأولى من تاريخ المسلمين، وإنّ الإسلام–نصًّا وتطبيقًا– بريء من تهميش المرأة، ومن حبسها في صورة نمطية، ومن حرمان الفضاء العام من مشاركتها العلمية والفكرية والاجتماعية والإنسانية. وإننا نثمِّن غاليًا جهود جميع العاملين –اليوم– على إظهار فاعلية المرأة المسلمة ومشاركتها الرجل في صنع حضارة الإسلام، ونقدّر عاليًا عمليات الحفر في التراث للكشف عن وجوه نسائية برزت –عبر التاريخ– في ميدان الفقه والحديث والرواية والدراية، وجلست للتعليم ونقل المعرفة لأجيال من طلبة العلم، أو لتظهير وجوه نسائية اشتُهرت ببذل المال والحليّ في مجال أبدعه الإسلام ولم يكن معروفًا لدى العرب وهو مجال الأحباس والأوقاف، فبُنيت –بأموال النساء– مدارس ومكتبات عامة ومساجد ومستشفيات ودُور لطلبة العلم وخوانق (جمع خانقاه) لإقامة العبّاد والزهاد والصوفية واستقبال الفقراء وعابري السبيل وأربطة (جمع رِباط) للنساء العابدات الصوفيات انتشرت في بلاد المشرق العربي، وبخاصة في بغداد وحلب ودمشق والقاهرة، وأيضًا في بلاد المغرب العربي..
ونشارك في عمليات الحفر في التراث، للكشف عن تمثُّلٍ مختلف للمرأة، تمثُّل يتّسم بالمحبة والرحمة والحكمة والتقدير الذاتي بعيدًا من المواجهات والمجادلات والسجالات وصراع الأدلة والعلاقات السلطوية.. هذا التمثُّل هو: وجود المرأة في الفضاء الصوفي.
وننظر إلى هذا الوجود من نافذة تطل على تجليات المرأة الصوفية وصورها في المدونة الصوفية.
تجليات المرأة الصوفية
إن أخبار النسوة الصوفيات مخزونة في موسوعات تاريخ المسلمين ومنها: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر. وفي كتب الطبقات والتراجم ومنها: صفة الصفوة لابن الجوزي، وحلية الأولياء لأبي نُعَيْم الأصفهاني، وسير أعلام النبلاء للذهبي، وذكر النسوة المتعبدات الصوفيات للسلمي. ومع تزايد الاهتمام بالفكر الصوفي وبالمرأة الصوفية، منذ نصف قرن تقريبًا، صدرت عشرات الكتب والدراسات باللغة العربية وبلغات أجنبية حاكية عن حضور المرأة في الفضاء الصوفي وخصوصية سعيها الروحي، وعن نظرة الرجل الصوفي المتسمة بالمساواة الإنسانية والرحمة الشاملة إلى المرأة سواء كانت شريكًا في التجربة الروحية أو شريكًا في الحياة الدنيا.
وعندما نفتح هذه الكتب المذكورة –أو ما توافر منها– تضيء الصفحات التي تثوي في حروفها أخبار هؤلاء النسوة، وتحكي عن وجودهن في تاريخ المسلمين وحاضرهم.. ومنهن المقيمات في بيوت صوفية معروفة، بصحبة قامات روحية عالية، بصفتهن إما الزوجة أو الأخت أو الابنة، ومنهن السائحات العابدات الزاهدات اللواتي لم تكن أخبارهن لتصلنا لولا تدوين كبار رجال الصوفية أقوالَهن، ومنهن المؤدبات المربّيات اللواتي تركن بصماتهن على الحياة الروحية لكبار رجالات الصوفية، ومنهن الأميات العارفات اللواتي يتصدَّيْنَ لإنشاء الكتب بالإملاء على قريب عارف بالقراءة والكتابة، ومنهن العالمات صاحبات المدونات الصوفية والمرجعيات الكبرى، ومنهن المقيمات ضمن جماعات صوفية في الأربطة المخصصة للنساء، ومنهن الشيخات القائدات لتجمعاتهن الصوفية أو الممثلات لشيخ الطريقة في محيطهن الجغرافي أو النسائي، ومنهن الباحثات المؤرخات المفكرات..
من هذا المشهد الذي يمتد إلى ما يزيد على أربعة عشر قرنًا، نختار الكلام بإيجاز عن أربعٍ من النسوة الصوفيات.. ولا ندّعي أن هؤلاء النسوة الأربع يجمعن صور المرأة الصوفية الآن وعبر التاريخ؛ لأن كل واحدة من النسوة الصوفيات المعروفات والمجهولات هي أنموذج متفرد ولا يمكن تكراره. ولكن الدافع لاختيارنا هو قدرة هذه النماذج الأربعة على إظهار الانفتاح الديني والإنساني في البيئة الصوفية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن هذه النماذج الأربعة ليست من التاريخ المنسي أو المتروك بل تتمتع بطاقة حيوية حملتها عبر أحقاب التاريخ وأظهرتها بصور متعددة ومختلفة.
أولًا– الزاهدة العاشقة
(السيدة رابعة العدوية 100هـ- 180هـ)
لمع اسم السيدة رابعة شرقًا وغربًا، ولم تعد جزءًا من الوجود الصوفي الإسلامي العربي فقط، بل صارت جزءًا من الثقافة الإنسانية العالمية، وغدت قصائدها في الحب الإلهي زهرة السماع الفني الراقي. تتلخّص قصة حياتها في أنها فتاة ضاعت من أهلها في زحمة السوق في العراق، في زمن فوضى ومجاعة، فخُطفت وبيعت. عاشت معاناة الرقّ فتعلّمت العزف على الناي، حتى إذا اضطرتها الظروف إلى الوجود في «سهرات الأنس» كانت تشارك بالعزف فقط. إلى أن انتبه من يملكها إلى حقيقة حالها، فأعتقها. وما إن امتلكت زمام أمرها حتى سكنت في غرفة متواضعة في مدينة البصرة، غرفة لا تحوي من أشياء الدنيا إلا إبريقًا وصحفة وحصيرة ومخدعًا من اللَّبِن.
وفي مقابل أقوال الدارسين، بأن المرأة في تاريخ المسلمين وإن برزت في مجال علمي إلا أنها ظلت تابعة علميًّا ولم تؤسس مدرسة.. نقول؛ لقد أسست السيدة رابعة مدرسةً في التصوف الإسلامي، فهي أول من أدخل لغة الحب على الحياة الروحية، وهي –في حدود معرفتنا– أول من توجّه إلى الله قائلًا: أحبك. وهي أول من ميّزت بين حُبَّيْنِ لله تعالى: حب الهوى، وحب الاستحقاق (الحب الذي يستحقّه الله تعالى لذاته العليّة وأسمائه الحسنى). وهذان الحُبّان عندها –كما نقدّر– من الضروري أن يكونا متلازمين في المسيرة الروحية؛ لأن حب الهوى وحده قد يوقع المرء في الرعونة، وحب الاستحقاق وحدة قد يغرق المرء في الهيبة والجلال، تقول:
أحبُّك حبّين: حـبَّ الهوى،
وحُبًّا لأنـك أهـلٌ لذاكـا
فأمّا الذي هو حـبُّ الهوى
فشغلي بذكرك عَمَّن سـواكـا
وأمّا الـذي أنت أهـلٌ له
فكشفك للحجب حتى أراكـا
فلا الحمد في ذا، ولا ذاك لي
ولكن لك الحمدُ في ذا وذاكـا
وإن المدرسة التي أنشأتها السيدة رابعة، هذه العاشقة العابدة الزاهدة، لم تنطفئ بموتها بل حملها التاريخ في طياته إلى بقاع من الأرض وحقبات من الزمان، ولم تنحبس في بيئة نسوية بل مشى عدد كبير من أعلام التصوف في قافلتها.. وها هو سَرِيّ السَّقَطيّ (ت: 253هـ) يبيِّن فعل العشق في بَدَنِه النحيل، فيقول:
إذا ما شكوتُ الحبّ، قالت: كَذَبتنَي
فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا؟
فلا حبّ حتّى يلصـق الجلد بالحشا
وتذهل حتّى ما تجيـبَ المناديـا
والشِّبليّ أيضًا، صديق الجُنَيْد والحَلَّاج، يصف فناءه في العشق، فيقول:
قد تخلّلـتَ مسلـك الـرّوح منّي
ولـذا سُمّـي الخليـل خليـلا
فـإذا ما نطقـتُ كنتَ حديثـي
وإذا ما سكـتُّ كنـتَ غليـلا
والحلّاج يردد كثيرًا هذه الأبيات:
سقوني وقالـوا لا تغـنّ، ولو سقوا
جبـال حُنَيـن ما سقونـي لغنـت
تمنّـتْ سُلَيْمـى أن نمـوت بحبهـا
وأسهـل شـيء عندنـا ما تمنّـت
ولا تزال القافلة تَجِدُّ في سيرها عبر الأزمنة والأمكنة، تضع رحالها مرة في مشرق ومرة في مغرب.. وفي كل مرة تطرب الأسماع والأرواح بشدو العشق الشريف.
ثانيًا– الأم الروحية ومشيخة المرأة
(السيدة فاطمة بنت المثنى، عاشت في القرن السادس الهجري)
هي سيدة مغمورة، وما كنا لِنَعرِفَ شيئًا عن وجودها على الأرض لولا أن خدمها بنفسه ولمدة سنتين شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي (560– 638هـ). ومما يخبر عنها ابن عربي نعرف أنها قدّمت إضافة في تاريخ التربية الصوفية. فعلى حين أن المعلم الصوفي –في السائد– يقوم بتربية مريده بالرياضات والمجاهدات حتى يصبح نقيًّا صافيًا من الصالحين (أي المُنتَج هو إنسان نقيٌّ تقيٌّ عابد زاهد…). نراها توجّه بَصَرَ «وَلَدِها الروحي» نحوَ الوجود، نحو الآفاق، لتتكوّن لديه رؤية للكون وللإنسان وللعلاقة بالله تعالى. ويمكن القول: إنها أبدعت وبشكل غير مسبوق، لما يمكن أن نسمّيه «تربية العارفين» في مقابل «تربية المريدين»، وهي تربية «بالنظر في الآفاق» في مقابل تربية «بالنظر في الأنفس».
وقد عرف ابن عربي مكانة هذه المعلِّمة الاستثنائية، عندما قالت له: «أعطاني حبيبي [أي الله تعالى] فاتحة الكتاب تخدمني، فوالله ما شغلتني عنه». ويفسّر لنا ابن عربي معنى قولها هذا، بأنها كانت عندما تقرأ فاتحة الكتاب، لأمر من الأمور، تنشئها بقراءتها صورة مجسّدة هوائية ثم تخاطب هذه الصورة وتبعثها لتؤدي المهمة التي تطلبها منها.. إنه عطاء إلهي عجيب لواحدة من النسوة المتعبدات الصوفيات الأُمِّيَّات المنقطعات في فَلَوَاتٍ من الأرض.
وهذا الأنموذج للمرأة الصوفية، المربِّية الروحية للنساء والرجال معًا، التي تمثل «سلطة مرجعية عليا» في زمانها داخل حدود جماعتها الصوفية.. هذا الأنموذج لا يزال مستقرًّا في مجتمعات الإسلام، وبخاصة في المدن التركية حيث نجد العديد من «الشيخات» اللواتي يَنتسِبُ إلى جماعاتهن الصوفية العديدُ من المريدين من الجنسين، ويشكِّلْنَ لمريديهن الأُمَّ الرُّوحية.
ثالثًا– صوفية عارفة وصاحبة تراث مكتوب
(الست عجم بنت النفيس البغدادية، كانت حيّة عام 686هـ).
هي سيدة أميّة تخبر عن نفسها بأنها خرجت من الجهل (بالله تعالى) إلى العلم (به تعالى) في ليلة واحدة، كما تقدّم نفسها على أنها من كبار الأولياء.. تقول مخبرة عن أمّيتها ومعترفة لزوجها بفضل تدوين كل ما تمليه عليه: «وحيث عَلِمَ الله أنني امرأة عاميّة بريئة عن التصرف في كلّ ما ينطبق عليه اسم «العلم الظاهر»، حتى عن الكتابة وما ترقمه الأقلام، فهيّأ لي صاحبًا عارفًا بأحكام الخطّ ومعانيه وما يُصاغ منه وسيلة إلى المعاني. فعندما يلقي الله تعالى في قلبي شيئًا من العبارة والفيض أستنجد به استنجاد مخالَلـة وأدعوه إلى إثبات ما يَرِدُ. وهو محمد ابن خالتي وربّ بيتي».
أَمْلَتْ هذه السيدة على زوجها ثلاثة كتب هي: شرح مشاهد الأسرار القدسية (وهو كتاب لابن عربي)، وكتاب الخَتْم، وكشف الكنوز. ومن مُدارَسة نصوصها نجد أن معرفتها نتجت عن سبيلين هما: الإلقاء الإلهي في القلب، والشهود. وتخبرنا الست عجم أن الشهود يقوم على «الخلع الروحاني»، أي «إلقاء الجسد الظاهر»، بغير تألم، في حالة هي بين الموت والحياة، ثم الوصول إلى حال تُسَمِّيها «القيام في الصورة»، وطوال مدّة الخلع يحدث جَوَلَانٌ للروح ويجري الشهود.
ورغم أن هذه السيدة لم تلتقِ بابن عربي الذي سبقها في الزمان الدنيوي بنحو نصف القرن، ولم تعرف بوجود كتابه «مشاهد الأسرار القدسية»، إلا أنها تحكي أنه وقع لها «خلع روحاني» ودخلت إلى «عالم الباطن»، وهناك الْتقَتْ الأولياءَ المماثلين لها في الرتبة ومن جملتهم محيي الدين بن عربي، وجرى بينها وبينه حوار، وعند المفارقة أوصاها بأن تشرح كتابه المشاهد في حال العَوْد من الباطن.. وبالفعل أَمْلَتْ على زوجها شرح المشاهد فيما يزيد على أربع مئة صفحة (وهو كتاب قمت بتحقيقه ونشره بالمشاركة مع د. بكري علاء الدين). وهذا الأنموذج للمرأة الصوفية التي تدخل عالم التدوين والتسطير، هو أنموذج يزداد انتشارًا منذ الربع الأخير من القرن العشرين: فنجد مثلًا في لبنان وسوريا ومصر وصولًا إلى المغرب العربي سربًا من النسوة المنتسبات إلى طرق صوفية وقد أمسكن بالقلم دفاعًا عن التصوف والطرق الصوفية. كما نجد سربًا آخر من النسوة المسلمات، الموجودات على أطوال العالم العربي في الأردن والعراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وصولًا إلى المغرب العربي، نسوة متعاطفات مع الفكر الصوفي وقد انجذبْن إلى مدونات كبار الصوفية فانكببْن عليها بحثًا وتحقيقًا وتأليفًا ونشرًا. ولا ننسى سربًا من النسوة الغربيات، المسلمات وغير المسلمات، العربيات والمستشرقات، وجدن أن التصوف الإسلامي هو جزء حيوي وضروري من الثقافة الإنسانية الكونية، ويمتلك مقومات خطاب إسلامي يفهمه الآخر ويتواصل معه، لذلك اجتهدن في ميدان البحث التعريفي وأيضًا الترجمات، وهن عديدات في العالم الغربي وبخاصة في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة واليابان.
رابعًا– امرأة على رأس طريقة صوفية
(السيدة زينب القاسمية، 1850م– 1904م).
وهي سيدة صوفية قارئة عالمة، تولّت مشيخة الزاوية التي أنشأها والدها الشيخ محمد بن أبي القاسم (ت: 1897م)؛ مؤسس «الطريقة الرحمانية» ومنشئ زاوية «الهامل» ببو سعادة– الجزائر. كانت السيدة زينب (أو لالا زينب كما هي معروفة)، ابنة وحيدة لوالدها. ويبدو أنه توسَّم فيها أهلية رُوحية؛ فاعتنى بتنشئتها؛ فحفظت القرآن الكريم وقرأت التفاسير وتفقهت في الدين، وحفظت الأحاديث النبوية الشريفة، وسمعت من والدها شروح الصحيحين، وغيرها من كتب التوحيد والفقه والتصوف. كان الوالد يناقش ابنته في العلم ويطلعها على أعماله وما يجري خارج «الزاوية» من أحداث وعلاقات. وعندما ظهر له سداد رأيها وصفاء نفسها، كلّفها بحفظ سجلات أملاك الزاوية، وكتب عام 1877م وصية موثّقة تضع كل أملاكه تحت تصرفها على شكل حَبْس عائلي.
وعندما توفي الوالد شيخ الطريقة الرحمانية، تولّت السيدة زينب مباشرة قيادة جمعها الصوفي علميًّا ورُوحيًّا. وأكملت خطى والدها وكانت عارفة بمشروعه الصوفي الحضاري. فازدادت الطريقة انتشارًا في زمانها، وكان يؤمُّها المريدون من كل حدب وصوب.
وهذا الأنموذج للمرأة الصوفية القيادية، وإن كان موجودًا في نهايات القرن التاسع عشر إلا أنه بدأ بالانتشار في القرن الحادي والعشرين، وبخاصة في الولايات المتحدة الأميركية التي شهدت هجرات صوفية من أنحاء العالم، ونشأ على إثرها مجموعات صوفية صغيرة تضم مسلمين أميركيين ومهاجرين معًا من الجنسين، أو ظهرت فروع نشطة لطرق صوفية يعيش شيخها خارج الولايات المتحدة.. وفي كلتا الحالتين، فالقيادة في العديد منها للمرأة الصوفية.
وختامًا نقول: من المهم أن نعرف أن الإنسان الصوفي (أي الرجل) يتعامل مع المرأة، أي الآخر الصوفي أو الحياتي، على قاعدتين هما:
أولًا- قاعدة المساواة في الجوهر الإنساني بين الرجل والمرأة: إن الصوفي عندما يقع نظره على فتاة صوفية أو على امرأة صوفية، فإنه لا ينحجب بالجنس عن الحقيقة الإنسانية. ويرى جُلُّهم –ومنهم محيي الدين بن عربي في كتابه الفتوحات المكية– أن حقيقة الإنسانية تجمع الذكر والأنثى، وأن الذكورة والأنوثة فيها عَرَضان وليستا من حقائق الإنسانية. وهذا يعني المساواة التامة بين الرجل والمرأة في التكريم الخاص بالجنس البشري، وفي كل خطاب موجّه للإنسان يرتب حقًّا من حقوقه أو يحمّله مسؤولية من المسؤوليات.
ثانيًا- قاعدة المساواة في الأهلية الروحية بين الرجل والمرأة: إن العالِم الصوفي يصرح في مناسبات عديدة، أن جميع المقامات الروحية متاحة للمرأة تمامًا كما هي متاحة للرجل. ومن هنا، فقد تصل المرأة إلى «رتبة القطبية»، وهي أعلى منزلة روحية ولا تكون في الزمان الواحد إلا لشخص واحد، وهي بمنزلة الخلافة في «الدولة الروحية».. يقول ابن عربي: «كل ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء». ونورد قصة يرفع فيها الصوفي الشهير ذو النون المصري امرأةً صوفيةً إلى مقام «الأستاذية». وهذا الاعتراف من الصوفي هو محض إنصاف، وهو دلالة على مكانةٍ لا تُنكَر للمرأة الصوفية.. تذكر الكتب أن السيدة فاطمة النيسابورية بعثت مرة إلى ذي النون المصري برِفْق (معونة) فردّه وقال: في قبول أرفاق النسوان مَذَلَّةٌ ونُقْصان. فقالت فاطمة: ليس في الدنيا صوفي أخسّ ممن يرى السبب.. ونستمع إلى شهادته فيها يقول: «ما رأيتُ أحدًا أجلّ من امرأة رأيتها بمكّة، يقال لها: فاطمة النيسابورية، كانت تتكلم في فهم القرآن، وهي وَلِيَّة من أولياء الله عز وجل، وهي أستاذي».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق