كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المرأة والكتابة والاغتراب
لم يعد حضور المرأة إبداعيًّا هو الحضور عينه الذي كان عليه في القرن الماضي، فقد تزايد حضور المرأة المبدعة في كل المجالات الإبداعية وليس الكتابة الأدبية فقط، يكفي النظر إلى الفنون الأخرى البصرية والسمعية وملاحظة الحضور النسوي فيها.
مع مطلع القرن الحادي والعشرين، كان لتطور وسائل التواصل الإلكتروني وتسارع نمو الفضاء الافتراضي دور مؤثر في تخطي الحدود الجغرافية، وهو ما أدى لسرعة وصول الفنون وانتشارها، وانعكس هذا على تنامي إبداع المرأة أيضًا. تحضر أهمية الكتابة في حياة المرأة كوسيلة لطرح مفاهيم جريئة ومتمردة على القيم السائدة تخترق التابو، وتعبر من خلالها عن رؤيتها للعالم. فيما يتعلق بالكتابة الإبداعية، لعله يمكن بيُسر مقارنة عدد الأقلام النسائية التي كانت موجودة ومعروفة قبل زمن الإنترنت وبعده؛ لنجد أنها صارت أضعافًا، وصار هناك جرأة ملحوظة في طرح بعض الموضوعات، والمتابع للطفرة الروائية العربية يمكنه أيضًا ملاحظة رواية المرأة التي أصبحت حاضرة ومنافسة بقوة. ولعل مردّ هذا الحضور لا ينفصل عن جملة من التحولات العصرية التي شاركت فيها المرأة، أو صنعتها، أو شهدتها.
على مستوى الرواية تركزت الروايات منذ مطلع الخمسينيات حتى التسعينيات من القرن الماضي على الزواج غير المتكافئ أو القسري، والتحرر الجسدي، والعنف الذي تتعرض له المرأة إلى جانب صورة الرجل التي تظهر بصورة سلبية وقمعية في معظم الروايات.
في المقابل نجد تراجعًا لهذه الموضوعات في الرواية النسوية الحديثة، في الأعوام الأخيرة بعد قيام ثورات الربيع العربي، وما تلاها من حروب وهجرات، لم تعد كتابة المرأة مشغولة فقط في تقديم الوعي وبث التمرد، وفي طرح نماذج إيجابية فعّالة، بقدر ما بدت الأعمال الروائية منهمكة في طرح قضية الاغتراب النفسي والجسدي الذي تعرضت له النساء بعد الهجرة والتشرد في أصقاع الأرض، ويبدو هذا التناول معنيًّا إلى حد كبير بمشكلة الإنسان ككل وليس المرأة فقط.
إن حضور المرأة على المستوى الإبداع الروائي يمكن ملاحظته في وصول أربع روايات بأقلام نسائية إلى القائمة القصيرة لجائزة مهمة مثل «البوكر»، والروايات هي: «النبيذة» لإنعام كجه جي، و«بريد الليل»، لهدى بركات، و«صيف مع العدو» لشهلا العجيلي، و«شمس بيضاء باردة» لكفى الزعبي.
لعل ما ينبغي التوقف بشأنه مع هذه الروايات عند ارتباطها بالحديث عن كتابة المرأة، أو ما يمكن تسميته «بالنسوية»، هو أن هذه الروايات الأربع لا يمكن تصنيفها ضمن الإطار النسوي فقط؛ بسبب انفتاحها على عوالم أوسع، وشموليتها في معالجة الواقع العربي من زوايا عدة غير مقصورة على كيان المرأة ومعاناتها. تبدأ رواية «بريد الليل» وكذلك «شمس بيضاء باردة» بصوت رجل يسرد معاناته مع العالم. في «بريد الليل» نجد صراع الغربة، والتساؤلات، والبطالة، والضياع، والقلق الوجودي لمجموعة من الأشخاص الهشين في مواجهة العالم، حيث لا تنفصل الوحدة والاغتراب عن كيانات الشخوص جميعًا.
رواية «شمس بيضاء باردة» تبدأ أيضًا بصوت رجل مثقف «يحدق في العدم»، ويواجه مصيره المتشظي الحائر في يأس أليف له رائحة الموت الشاحب. في هذه الرواية تعيش الشخصيات أيضًا تخبطاتها وضياعها الذي يبدو مألوفًا ومرتبطًا مع الواقع الخارجي السياسي والاجتماعي في حضور اللايقين كعنوان ثابت للمرحلة.
رواية «النبيذة» التي تبدأ مع حكاية بطلة امرأة، لا تنفصل إطلاقًا عن الانشغال بواقع العراق التاريخي والاجتماعي والثقافي في الماضي والحاضر، وتقاطعاته مع الواقع العربي ككل.. وينطبق هذا أيضًا على رواية «صيف مع العدو» التي تنطلق من حكايات النساء وما فعلته الحرب بحيواتهن، والبحث عن الأمان الذي يؤدي بالضرورة إلى الاغتراب، في معادلة شديدة الوضوح. تتقاطع روايات هؤلاء الكاتبات عند نقطة واحدة، بحيث يمكن القول: إنها تنتمي لنوع من روايات المتاهة النفسية وتساؤلات الهشاشة الفردية، تلك الهشاشة التي تواجه الحروب واللجوء والتشرد في منافي الأرض، هناك أيضًا الكشف عن اغتراب الهوية في العلاقة مع الأوطان، والانكسار الناتج عن يُتم جماعي يبدو متوافقًا مع المرحلة الآنية من التاريخ العربي. فقد خرجت المرأة من مجالات الضعف والانكسار على المستوى الفردي، إلى مجابهة الانكسار الجماعي.
ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن قيمة أي عمل روائي، لن يستمد ثراء حضوره فقط من ثيمة الموضوعات المعالجة، بقدر الوسيلة الفنية والثقافية والفكرية التي عُبِّر من خلالها عما أراد الكاتـب أو الكاتبة قوله. فكان لزامًا على المرأة أن تطور من الأساليب التقنية الخاصة بكتابتها لمواجهة تضخم العالم من حولها، وامتلاك الأدوات لتكتب سردياتها، وتلك قضية أخرى.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق