كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أمي وآشا
تلك الليلة الماطرة والباردة كانت ليلة موحشة شعرت فيها بالخوف، ذلك الخوف الذي يحتاجه الإنسان أحيانًا، ويثير في النفس رغبة حميمية بألا يكون وحيدًا، ذهبت إلى غرفة أمي وبخجل وقفت على الباب، لم تسألني تلك الأسئلة التي تشعرني فيها بأنني كبرت ويجب أن أنام في سريري. بل أشارت بيدها: تعالي، فهرولت نحوها، احتضنتني كما لو أنها هي أيضًا تشعر بالوحدة والخوف. كان ذلك اللطف النادر منها يجعل لحميميتها مذاقًا آخر. لم تكن مسرفة في أي شيء، كان كل شيء منضبطًا، احتضنتني ونظرت إلي وهي تحاول أن تمنع دمعها من الانحدار، ونجحت كما تفعل بكل شيء تريده، وقالت: رغم أنني لا أستطيع أن أكون لك أمًّا وأبًا، وأنت كبرت الآن لست بحاجة لأن أقلد لك زئير الأسد؛ أليس كذلك؟
حاولت أمي أن تكون بالنسبة لي أبًا أكثر مما ينبغي ومما يحتمل لعلاقتنا أن تكون، حتى إنها لم تُبقِ لي في ذاكرتي أي تخيل عن أبي لأقتات عليه. كانت الحياة بالنسبة لأمي مفكرة أعمال، فكل شيء يسير حسب ما خططت له، حتى الأوقات التي نقضيها معًا ونحن نرسم لوحة أو نقرأ قصة، أو تحكي لي عن فنانتها المفضلة فريدا كالو، فهو مذكور في مفكرتها حسب الوقت والموضوع.
لا شيء يمكن أن يخلّ بجدية أمي مع الحياة، مع الدور الذي تعهدت أن تقوم به كأم، كأب إلا حضور صديقتها آشا، التي لا تحب أن أناديها الخالة آشا، بل آشا. زيارة آشا لنا هو خبر مبهج نستعد قبله بعدة أيام، تصبح أمي ذات مزاج رائق، وتتكلم معي أكثر من المعتاد. ولعل أكثر ما كان يلفت انتباهي أن أمي تضع طلاء أظافر ذا لون عنابي غامق، لا تضعه إلا إذا زارتنا آشا، وهو أمر لا يحدث إلا مرة في السنة، ويفوح في المنزل عطر كوكو شانيل الذي لا تستخدمه أمي إلا لهذه المناسبة، وتنظف الفازات الكريستالية المركونة في زوايا المجلس التي يتراكم عليها الغبار حتى تزورنا آشا.
تزورنا آشا كل سنة في شهر مايو، تحضر معها باقات الورد وتوزعه بكل خفة في الفازات. ورودًا صفراء، مرة توليب أصفر ومرة عباد الشمس، كانت تفعل ذلك ببهجة وهي تغني أغاني لم أسمعها من قبل وكنت أخجل أن أسألها. كانت أمي تراقبها كما أفعل أنا بذات البهجة وبذات الدهشة. كانت آشا في تلك اللحظة هي أغنيتنا المفضلة. عندما تنتهي من طقسها الاحتفالي مع الورود أنتظر منها بشغف لا تخفيه عيناي هداياها. كل مرة تفاجئني بهدية أحدث بها كل من أعرفهم عنها. مرة أهدتني مظلة مصنوعة من الدانتيل الأبيض بأطراف مزركشة، وكنت أقول لصديقاتي: إنني أملك مظلة مميزة فهي تحجب أشعة الشمس وليس المطر. ومرة أهدتني كيسًا صغيرًا بحجم الكف ممتلئًا باللافندر المجفف وطلبت مني أن أضعه تحت وسادتي لتحقق أحلامي السعيدة، كما قد أهدتني سلسلة فيها حجر الفيروز-الذي يجلب لي الحب- والتي ما زلت محتفظة بها حتى الآن، هدايا آشا تشبهها، تشبه أناقتها، وخيالاتها، وأحلامها، وطريقة أحاديثها عن علاقاتها العاطفية، إحدى هداياها لي كان قرص فِلْم أودري هيبورن، لسبب ما فضلت أمي أن تحتفظ به بين مجموعة أفلامها، ومن حين لآخر تشاهده، مفضلة أن تكون وحدها.
كانت أمي تنظر أحيانًا إلى آشا نظرة آمرة أن تخفف التفاصيل الحميمية في حكاياتها بحضوري، لكن آشا كانت تنظر لي وتستمتع وهي تحكي قصصًا أشبه بالأفلام الرومانسية القديمة، عن رسامين رسموها، وكتّاب كتبوا عنها في روايات وقصائد، أحيانًا يصاحب هذه الحكايات دموع من الأسى المختلط بالحب. لكن أكثر ما كان يبهرني كيف تحكي آشا لأمي بالتفاصيل تخطيطها لعيد ميلادها القادم، وأي فستان سترتدي، وأنها محظوظة لكونها من مواليد شهر سبتمبر، حيث الجو لطيف في جزر إيطاليا، فلم تحتفل أمي بعيد ميلادها إطلاقًا حسب علمي، لكن في عيد ميلادها تصلنا باقة ورد وبطاقة بريدية غالبًا من رسومات كليمت، مرسلة من آشا.
لا أعرف كيف تعرفت أمي إلى آشا، أو الحقيقة أن أمي لا تحبذ أن تحكي لي كيف تعرفت إليها، وحينما أسأل آشا.. تضحك وتقول لي: اسألي أمك. كما أنني لا أعرف كيف لأمي أن تستمع بكل حب لحكايات آشا وتجاربها العاطفية، فهي تتحدث عن أودري هيبورن وغريس كيلي، عن تسريحات الستينيات والفساتين ذات الأزرة الخشبية، وعن مجوهرات إليزابيث تايلور، والتحولات الفنية في لوحات بيكاسو، وأمي كانت تتحدث عن عملها وكيف استطاعت أن تزيد من نسبة ادخارها، تتحدث عن سوق الأسهم وصناديق الادخار، وترقيتها ومنافسات العمل، والتزاماتها الاجتماعية.. كلتاهما كانت تُولِي اهتمامًا بالغًا لحديث الأخرى، وكلتاهما كانت قادرة على مساعدة الأخرى في اتخاذ قراراتها، والغوص في تفاصيل حياتها. كنت أستغرب أن آشا ترى في أمي مستشارها العاطفي، وكيف يلتبس لدي رؤيتي لأمي الجادة والجافة وأمي التي تتبع قصص آشا العاطفية بشغف وترشدها للتصرف الصحيح، وآشا كانت تأخذ نصائح أمي على محمل الجد. وكل مرة قبل أن تودعنا، تحتضن أمي وتشكرها أنها ليست مثل الآخرين.. فلم تسألها مرة: متى ستتزوجين؟
ولكنني كنت لا أقاوم تخيلها برفقة أحد الرجال الذين تتحدث عنهم، كنت أتخيلها بفستان أبيض دانتيل يشبهها، بشعرها الأسود اللامبالي والمسترخي على كتفيها. حينما كنت صغيرة كنت أنتظر آشا وورودها وهداياها ولطفها الغامر الذي تمنحه كلَّ المكان، كنت أحبها لأنها حينما تسلم عليَّ لا تفعل ذلك مجاملة لأمي، بل كانت تشعرني أنني هذه اللحظة محور اهتمامها وتصب كل مشاعرها وإطرائها لفستاني وتسريحة شعري، حتى تنتبه لسقوط أسناني اللبنية. وما زلت أنتظرها بحب، لكن بحب مختلف، بحب مصحوب بامتنان للبهجة التي تصنعها لأمي، فلم يعد منظرها الرقيق وهي تتحدث، بنفس الرتم العاطفي في حكاياتها، هو ما يشدني بل أصبحت أتأمل أمي وهي تستمع لها، أحيانًا أتساءل: أيهن التي كانت رافدة للأخرى في هذه الحياة؟ هل كانت أمي تقتات على حكاياتها العاطفية؟
لم تحضر آشا لتزورنا في شهر مايو كعادتها، أمي قالت لي: إن لديها ظروفًا خاصة، دون أن تبدي أية مشاعر تجاه أي شيء تقوله. فيما بعد قالت أمي: إنها تزوجت لكن زيجتها تبدو أنها لم تنجح. كنت أودّ لو حكت لي أمي أكثر عمن يكون، وكيف كان؟ وفي شهر مايو الذي يليه لم تحضر أيضًا، وقالت أمي نفس الجملة بنفس الرتم: إنّ لديها ظروفها الخاصة. مرت أربعة أعوام لم تزرنا، لكنها ما زالت في عيد ميلاد أمي ترسل الورود الصفراء، والبطاقة البريدية.
في ذلك اليوم الهادئ رنّ جرس الباب كان رنينه هو الصخب الذي من الممكن أن يمحو سكون المنزل، حينما فتحت الباب وجدت آشا. وبرغم تغير ملامحها إلا أنني عرفتها، تعرفت إليها بشامتها السوداء القريبة من شفتها السفلى، لكن الحزن تسلل سريعًا في داخلي وأنا أتأمل ملامحها فلا شيء بمظهرها أو لبسها كان يمكن أن يذكرني بآشا، فهذه أول مرة أراها ببنطال وقميص، كان يبدو أنها زادت عشرين كيلو جرامًا على الأقل. ولكنها حينما احتضنتني وقبلتني من خلف أذني كما تفعل دائمًا، شعرت أنه لا يمكن أن تتغير أبدًا.
لا يمكن أن أنسى تلك الزيارة ما حييت، فلقد جلست آشا قبالة أمي ورغم أنهما نظرتا إحداهما للأخرى بحب، فإنني شعرت ولأول مرة بخوف يحيط بأمي التي لا يمكن التنبؤ بمشاعرها عادة، وبنظراتها التي تتساءل من دون أن تهمس بكلمة.
قطعت آشا صمت اللقاء بلا مقدمات لطيفة فتحدثت عن كل شيء إلا عن سبب تعبها. كانت تتحدث وهي متجردة من كل غنجها الأنثوي، حتى بدا لي صوتها أقرب إلى أن يكون صادرًا من أمي لا منها!
لم تكن آشا تنتظر تعاطفًا من أمي، ولم تكن أمي في حالة تريد أن تراها بذلك التعب القاسي، محاولة ضبط مشاعر صدمتها التي ربما تمس ذكاء استقرائها للآخرين. شعرت أن ما بينهما هو مباراة في القدرة على عدم إظهار أية مشاعر ومحاولة ضبط ردود الأفعال. كنت أشعر بكل شيء؛ بتعب آشا وبتعب أمي وبسطوة الزمن وما فعل بهما. كنت أتلاشى من المكان وآشا تحاول عابثة أن تسرد تفاصيل مبهجة عن الحياة والناس. لكن سرعان ما انزاحت تلك السعادة المفرطة في صوتها لتتحول لنوبات بكاء لا ينتهي، بعد أن هدأت، تحدثت آشا بصوت الحكيم الموجوع الذي يتحدث عن كيف أصبحت الأيام تتشابه، والألوان تتشابه، والآخرون.. ليتهم يتشابهون، كل التفاصيل الدقيقة عن نوبات الجنون التي مرت بها، ونوبات الطاقة والسعادة المفرطة التي تنقلب بسهولة لنوبات بكاء لا تنتهي، لكنها فجأة ولأول مرة تتحدث بأسى عن لطف زوجها. وأردفت بعبارة موجعة: رغم كل ذلك اللطف إلا أنني أشعر كأنه زوج لامرأة أخرى. ثم نظرت لأمي نظرة موحشة مؤكدة ظنون أمي الدائمة أنه لا رجل يمكن أن يكون لها كما تريد. بدا على وجه آشا إرهاق مفاجئ بعد هذه النظرة، وكآبة التبست على ملامح وجهها الجميلة الذابلة. فوقفت وقالت: أشعر أنه يجب أن أذهب، لكن أمي لم تمنعها من الذهاب كما توقعت، ولم تقف معها لتودعها. فلحقت بها إلى الباب.. ودعتها وهي تعدني أنها ستزورنا في مايو المقبل. شعرت لأول مرة برغبتي في أن أناديها عائشة كان ذلك الاسم هو من يعبر عنها تلك اللحظة ويمثلها، وليس آشا، إنها الآن عائشة.
عدت إلى أمي، كانت في مكانها لم تتحرك، وتبكي بشهيق موحش، وأنا التي لم أر دمعها قط، تجاهلتها وذهبت إلى غرفتي.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق