كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
من الدعوة إلى القراءة إلى التفكير فيها
«القراءة رافعةً رأسها» لعبدالسلام بنعبد العالي
«كان ينبغي إعلان موت المؤلف كي يولد القارئ، إذا كان من المستحيل أن نرى في القراءة فعلًا بحق من غير أن تتهاوى السُّلطة التي كانت تدَّعي الهيمنة عليها» عبدالسلام بنعبد العالي
صَدَر كِتَاب «القراءة رافعة رأسها» لعبدالسلام بنعبد العالي عن دار توبقال للنشر(2019م) بالمغرب، وهو كتاب يعرِّج على امتداد مئة صفحة على قضايا فكرية شغلت صاحبه لثلاثة عقود من الزمن، ومنها قضية القراءة، وما يتصل بها من قضايا الكتابة والإبداع والتأويل والنقد، وهو جماع مقالات، يُراوِح أسلوبها بين الكثافة والتَّشَذُّر، وإن كان بينها من وحدة فهي وحدة متعددة، من حيث إنها تفكر على نحو مغاير في قضايا فكرية ظلت أسيرة بَداهات النقد الأدبي القديم، والتقاليد الفلسفية العتيقة؛ لذلك فإن موضوع القراءة لا ينزل في الكتاب منزلة الدعوة إليها، وإنما ينزل منزلة التفكير فيها، وما يستدعيه التفكير من نقد وشك وتحليل وتفكيك. فما القراءة إذًا؟ هل هي على ضرب واحد أم على أَضرُب؟ وما الذي يدعونا للتفكير فيها؟ هل للتذكير بفضلها فحسب أم لإعادة النظر في مسوغاتها وإستراتيجياتها حسب ما يمليه منطق العصر ومستجدات الفكر؟
يكتسي القارئ في كتاب «القراءة رافعة رأسها» اليد الطولى؛ فهو صاحب السلطة والصولجان؛ وهو الذي يملك القول الفصل، متحررًا بذلك من سلطة المُؤَلِّفِ والمُؤَلَّفِ على حدّ سواء. غير أن فعل القراءة ليس على ضرب واحد، إنما هو على ضربين: قراءة منفعلة أو فعالة بلغة لوي ألتوسير، وقراءة ميتة أو حية بلغة رولان بارت. القراءة المنفعلة أو الميتة هي تلك التي ترتبط بالنص ولا تحيد عنه، محاولة بذلك القبض على تلابيب المعنى، وتحصيل الحقيقة بشكل مباشر لا لفَّ فيه ولا دوران؛ وهي قراءة مشروطة بفلسفة الحضور. في حين القراءة الفعالة أو الحية هي التي تكشف في النص عما لم يُكْتَب، محاولة بذلك كتابة اللامفكر فيه والمُضْمَر، جاعلة النص المكتوب مجرد علامة على ما لم يُكتب بعد، وما لم يظهر بعد للعلن؛ إنها باختصار قراءة تُشخِّص الأعراض على حد قول فريدريك نيتشه، فضلًا عن أنها قراءة لا تدَّعي الفهم الأول أو الفتح المبين، إنما هي دومًا قراءة ثانية، ما دام النص نفسه لا يعدو إلا قراءة من جملة قراءات، وهو ما يعبِّر عنه عبدالسلام بنعبد العالي بالقول: «تقدِّم الكتابة نفسها مقروءة مُؤَوَّلَةً، فكأنما لا وجود لدرجة صفر في القراءة»؛ من حيث إن القارئ يُوَلِّدُ النص ويعيد كتابته على نحو مغاير، وتلك على التحديد القراءة التي ترفع رأسها بلغة رولان بارت، من أجل مشاغبته ومشاكسته، والانفلات من سلطته، والتمرد على قواعده، والتفكير ضده.
القراءة مخاض عسير
يرمز عبدالسلام بنعبد العالي لهذين الضربين من القراءة بثقافتين: الأولى مريحة، والثانية مُتْعِبَة؛ تستمدّ الأولى أريحيتها من كونها تتوسل الكنبات، وتطمئن لظاهر النصوص، من دون خوضها فيما تطرحه من إشكالات ومفارقات وإحراجات، في حين الثانية مُتْعِبَة لأنها تعلن تبرّمها من الصالونات المريحة، مفضِّلة الكراسي الخشبية الخشنة، وعيًا منها أن القراءة على الحقيقة مخاض عسير يقتضي بذل الجهد، وتحمّل العناء، والصّبر على الشدائد، بل إن هذه الثقافة المُتْعِبة قد تستغني عن الكراسي على الرغم من خشونتها مفضِّلة الوقوف أو المشي، وهي نصيحة فريدريك نيتشه عندما يقول في إحدى شذراته: «أن تَظَلَّ جالسًا أقل ما يمكن، وألَّا تضع ثقتك في فكرة لم تخطر وأنت تمشي في الهواء الطَّلق، ولم تنخرط في احتفاء العضلات»، ولعلها نصيحة وَجَدَتْ أثرًا عند كُتَّاب من أمثال ألبير كامو وإرنست همنغواي اللذين كانا يكتبان واقفين، كما وَجَدَتْ أثرًا عند مونتني الذي كان يكتب وهو يمشي، وهذا بحق حال القراءة الفعّالة، فهي تفضِّل العُسر على اليُسر، مثلما تفضل الحياة على الموت.
يَتَبَيَّنُ إذًا أن القراءة الفعالة أو الحية هي دومًا قراءة ثانية؛ لأنها لا تقبل الخضوع للنص، إنما تَظلّ على سبيل المجاز رافعة رأسها، ولعل مَرَدّ شموخها هذا يَرْجِعُ إلى مكتسبات الفكر المعاصر الذي سعى لتقويض فلسفة الذات والحضور، وفضح وَهْم الموضوعية، وأسطورة العِلْمِيَة، منتصرًا بذلك للتعدد والاختلاف والانفصال، وهو ما يلخِّصه موريس بلانشو في القول: «إن فكرة العَوْدِ الأبديّ عند نيتشه هي أقوى إثباتات الفكر المعاصر؛ لماذا؟ لأنها تضع محلَّ الوَحْدة اللامتناهية التعددَ اللامتناهي، ومحلَّ الزمانِ الخطِّيّ، زمان الخلاص والتقدم، زمان المكان الدائري (…) ولأنها تضع موضع سؤال تطابق الكائن وخاصية وحدة ما هو الآن وهنا».
تَرَتَّبَ عن مكتسبات الفكر المعاصر إعلان موت المؤلِّف، وهو موت لم يظل مجرد استعارة فحسب، إنما يكاد يكون موتًا حقيقيًّا مثلما تشهد على ذلك إستراتيجيات القراءة المعاصرة، بل هو ما تؤكده وسائل الاتصال الجديدة التي جعلت إسهامات المؤلِّف تنفلت منه بالضرورة، فتتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي ضمن شبكة معقَّدة لا بدء لها ولا منتهى؛ تلك حال ظاهرة النشر الإلكتروني التي صارت ميسم الزمن المعاصر بدل الاكتفاء بالنشر الورقي كما كان سائدًا من ذي قبل.
التحرر من معايير النشر
أَدَّتْ الظاهرة الجديدة للنشر إلى انتفاء التصنيفات التقليدية للنشر، من قبيل منابر اليسار ومنابر اليمين، أو جرائد الحداثة وجرائد التقليد؛ بسبب التحرر من معايير النشر التقليدية، وما كانت تفرضه من رقابة وتوجيه، وهو ما جعل القارئ في الزمن المعاصر، بل الكاتب كذلك، يَنْعَمَان بهامشٍ كبير من الحرية في الكتابة والقراءة والتعليق والتعبير والنقد والنشر.
لكن تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم مما يبدو لنا من هامش الحرية الذي تتيحه الوسائط الجديدة للاتصال على شبكة الإنترنت، فإن هذه الوسائط غالبًا ما تغفل جانب الإبداع والنقد، مكتفية في الغالب بتسويق قدر هائل من المعلومات، مرفوقة بصور أصحابها مختلفة الألوان الذين ذاع صيت أسمائهم، وسحنات وجوههم، وتفاصيل أخبارهم ويومهم، وكأن مدار القول ينحصر على شخوص الكُتَّابِ رَأْسًا، وليس على شَكْلِ كتابتهم ومضمونها، ولعل هذه آفة مجتمع الفرجة الذي جعل من الثقافة كذلك بضاعة وسلعة خاضعة لمنطق السوق، منطق العَرْضِ والطَّلَب، حتى صارت العِبْرَة ليست بقيمة المكتوب أو الكتابة، وإنما بما تحققه من سعة الانتشار، ونِسَب المشاهدات، وعَدَد «اللايكات»، وهو الأمر الذي يكرِّس النمذجة والتنميط، ويشيع البلاهة والتفاهة، ويجعلنا نتساءل: كيف السبيل لوضع حدٍّ لهذا الواقع الذي ينذر بالجمود؟
يقترح عبدالسلام بنعبد العالي نموذجًا ثقافيًّا جديدًا يَخُصُّ المُثَقَّف بأدوار مغايرة لتلك التي سادت إبان الموجات الماركسية؛ ذلك أنه لم تَعُدْ وظيفةُ المُثَقَّف في الزمن المعاصر التبشيرَ بالعدالة والخير الأسمى، أو نصرة قُوى اليسار على حساب قُوى اليمين، أو الاصطفاف إلى جانب الأخيار ضدًّا على الأشرار؛ كلَّا، إنما إنْ كانت له من وظيفة في زماننا هذا فهي المقاومة الجذرية، تلك المقاومة التي لا تركن لأي مِلَّة أو نِحْلَة، ولأي نزعة أو مذهب، إنما تعمل على توليد المفارقات، ومساءلة البداهات، وتفكيك المسلَّمات، وخلخلة الوَحَدَات، وهذا مسعى القراءة الفعّالة التي لا ترضى أن تكون منفعلةً، أو قل القراءة الحية التي تأبى الاستسلام للموت، وهو ما يعني الانتقال من إبيستمولوجيا المباشرة، إلى إبيستمولوجيا اللامباشرة، ومن فلسفة الوَحْدة والتطابق، إلى فلسفة التعدد والاختلاف.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق