لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
حول المعاداة للسامية: لا لإرهاب الضحايا عندما تتحول الضحية إلى جلاد
أشير بدايةً إلى أنني أستخدم التسمية الطائفية، من أجل نقدها والدعوة للتخلي عنها، لمصلحة الإطار الوطني والمجتمع المدني والبعد العالمي الجامع، وبخاصة أن التجارب بينت أن شعارات التعددية الطائفية والحقوق الثقافية، التي رفعت من جانب الأقليات وأصحاب الهويات الفرعية، قد ترجمت غالبًا إلى نزاعات عنصرية أو إلى تصرفات فاشية. يُلاحظ أن الأعمال المعادية للسامية، التي تستهدف اليهود في فرنسا، قد كثرت في الآونة الأخيرة، ولا سيما بعد ظهور حركة «السترات الصفر». ومن أبرز ما حدث في هذا الخصوص، أن بعض عناصر هذه الحركة قد هاجموا الفيلسوف ألان فنكلكرو، قرب منزله في باريس، وأمطروه بوابل من الشتائم: صهيوني قذر، أنت لا تستحق سوى الموت، فرنسا هي لنا ارجع إلى إسرائيل. هذا مع أن فنكلكرو هو فرنسي يهودي من أصل بولوني.
وأنا أذهب في قراءتي للظاهرة، وبعكس ما يرى الكثيرون، أن مصدر الخطر على اليهود ليس معاداة السامية، أو لم يعُد كذلك، بل اليهود أنفسهم بمثقفيهم وجمعياتهم الدينية وتجمعاتهم الطائفية. والأساس في ذلك أنهم يتصرفون بوصفهم طائفة ذات امتياز في فرنسا يحق لها ما لا يحق لأي فرنسي.
بالطبع لقد استغل اليهود قضية «المحرقة» وما تعرضوا له من الاضطهاد والإبادة في العهد النازي وفي ظل حكومة فيشي الفرنسية التي كانت موالية له. ولذا حرصوا دائمًا على أن تبقى قضيتهم في صدارة الاهتمام، واستعملوها كأداة للضغط والابتزاز، ضد كل من يجرؤ على مناقشتها أو المساس بها، سواء اختص الأمر بنفي المحرقة أو بمعاداة السامية أو بالهجوم على الصهيونية.
من هنا أداروا قضيتهم بعقلية محاكم التفتيش، حتى تحولت إلى سيف مسلّط على الرؤوس باسم الضحايا، وهو ما جعل الفرنسي يشعر بأنه يعيش في بلده تحت رحمة الأوساط اليهودية التي تراقبه وتضعه تحت الفحص، فتبرئه وتعطيه شهادة حسن سلوك ما دام يدعم ما يرونه قضيتهم، وإلا عمدوا إلى اتهامه وإدانته أو تشويه سمعته. وقد بلغ ببعضهم الهوَس الهوياتي إلى توسيع دائرة الاتهام والإدانة لتشمل من يتعرض بالنقد لعالِم أو مفكر من أصل يهودي. وهذا ما حصل مع الفيلسوف ميشال أونفراي؛ إذ انتقد في كتابه «أُفول الأصنام» فرويد، مؤسس التحليل النفسي، لا لأنه يهودي، بل لأن نظرياته تنطوي، برأيه، على قدرٍ من الأغلاط والخرافات، وهو ما جرّ عليه تهمة معاداة السامية، مع أن فرويد كان ناقدًا للديانات.
ولكن هذه الإستراتيجية القائمة على الاستنفار الدائم للذاكرة، باستحضار قضية المحرقة في كل مناسبة، قد أعطت مفعولها العكسي. ولا عجب. لقد خُدع اليهود بما نعموا به في فرنسا طوال عقود من التعاطف والدلال، كما خُدعوا بالتسابق الذي أبداه الفرنسيون للتماهي معهم ونصرة قضيتهم.
ولكن لكل ظاهرة وجهها الآخر. فالشيء عندما يبلغ أقصاه قد ينقلب إلى ضده. وها هي مأساة اليهود ترتد عليهم. بعد أن طفح الكيل، من فرط القمع والكبت، أو التخويف والترهيب، فصار الفرنسي يجرؤ على التعبير عما كان يخشى من قوله والجهر به. من هنا لم تعد تُجدي الاحتجاجات والمظاهرات التي شهدتها فرنسا مؤخرًا، استنكارًا لأعمال العداء والعنف التي تعرضت لها شخصيات ورموز يهودية. وإذا كانت الأوساط اليهودية تعتقد، من باب أن ربّ ضارّةٍ نافعة، أن ذلك قد يعيد قضيتهم إلى صدارة الاهتمام، فإنهم لا يخدعون إلا أنفسهم. هذه قضية قد استُهلكت، ولم تعد تعطي إلا ما تعطيه: إنتاج عنصرية مضادة، في فرنسا، كانت تعتمل وتتفاعل في النفوس، لكي تنفجر وتعبر عن نفسها، بعد كل هذا التهديد والتخوين والتدجين الذي خضع له المجتمع الفرنسي (راجع كتابي: الإرهاب وصنّاعه، فرنسا بين الأخطبوط والبُعبع، الدار العربية للعلوم 2015م).
مأزق اليهود
مثل هذا المأزق الذي يصنعه اليهود لأنفسهم مدعاة للمراجعة، لتغيير طريقة التعاطي مع الهوية.
أولًا: والبداية هي التوقف عن التمترس في وضعية الضحية، وعن التعامل مع الآخر أو العالم بمنطق الإدانة أو بعقلية الثأر والانتقام. وهذا السلوك لا يقتصر على اليهود. هذا ما تشهد به تجارب الأقليات الطائفية أو المذهبية أو العرقية، في غير مكان، وكما نحصد آثارها الكارثية اليوم في البلدان العربية والإسلامية ذات التركيب المجتمعي المتعدد. فالذين يرون أنفسهم ضحايا الاضطهاد والظلم، أو الذين يدّعون ذلك، يتصرفون بوصفهم أصحاب ميزة أو حق أو فضل على سواهم، وهو الأمر الذي يسوِّغ لهم إقصاء الآخر أو احتقاره أو إدانته. وهذا ما أسميه «إرهاب الضحايا»، والحصيلة هي تحوّل الضحية إلى جلاد.
ومن الطبيعي أن ينقلب الضحية هذا المنقلب، فيتحول إلى قاهر أو ظالم أو مستبد أو إرهابي، إذا لم يقم بمراجعة نقدية، عقلانية، لآرائه ومواقفه وطرق تعامله مع الآخر، وعلى النحو الذي يتيح له إعادة بناء نفسه من جديد.
ليتعلم الضحية ممن كان يعده جلاده. فالألمان قاموا بمراجعة نقدية، بعد هزيمة النظام النازي وما جرّه من الكوارث على بلدهم، لكي يعيدوا بناء هويتهم الوطنية، وفقًا لقيم المصالحة والحوار أو الاحترام والاعتراف. نحن ندخل في واقع تتشابك فيه المصالح والمصاير على الساحة العالمية. ومن لا يحسن التواصل مع غيره، وبخاصة إذا كانوا شركاءه، فمآل عمله التعصب والتطرف والعنف.
ثمة مثال يحضر هنا غني بالدروس، يجسده مانديلا. فهو عندما تحرر بلده وتسلّم سُدة الرئاسة، كان أول ما فكّر فيه هو طي صفحة التمييز العنصري، وفتح صفحة جديدة، بحيث لا تُعامل الأكثرية السوداء أبناء الأقلّية البيضاء، كما عوملت به من قبلهم، بل بوصفهم شُركاء في المصير. والمغزى أنه لا ينجح بناء مجتمع أو صنع مستقبل تحت وطأة الذاكرة بجراحاتها وكوابيسها، بل بإتقان لغة الفكر المركب والبعد المتعدد. أو التداول المنتج أو التفاعل المثمر.
هذا ما يفترض باليهودي أن ينجزه، أعني نقد الذات وإعادة بناء الهوية. وذلك يقتضي إلغاء موضوع «المحرقة» من المناهج المدرسية. ليس من مصلحة اليهود تحول المحرقة إلى طقس ديني يفرض على المجتمع الفرنسي. لتُدرج هذه المسألة في كتب التاريخ، بحيث تدرّس مع سواها من المحارق والمجازر. فتاريخ البشرية ليس مشرّفًا في هذا الخصوص؛ إذ هو تاريخ الإبادات. ولا يبرأ اليهود من ذلك. والمغزى هو أن نراجع مفهومنا لإنسانيتنا؛ لنعيد تربية أنفسنا على أسس ومعايير جديدة. وهذا ما ينتظر من الأقليات وأصحاب الهويات الفرعية في المجتمعات العربية: التوقف عن رفع شعار الثأر، والكف عن العمل بمنطق الإدانة والترهيب. فلا تُبنَى علاقات سوية بين الجماعات، بذاكرة مستنفرة على الدوام، وهوية نرجسية موتورة.
ثانيًا: توقف اليهود عن التصرف بوصفهم جالية تقيم في فرنسا، فيما عواطفهم مشدودة إلى إسرائيل. ومن الفضائح في هذا الخصوص ما أعرب عنه عالم الاجتماع إيمانويل تود (Todd)، غداة المظاهرة العالمية الحاشدة التي شهدتها باريس في شهر يناير 2015م، بعد المجزرة التي تعرضت لها صحيفة شارلي إيبدو الساخرة على يد الجهاديين الإرهابيين. لقد هالَ تود أن تتراجع قضية اليهود الفرعية، وأن تحتل الهوية الفرنسية الصدارة لمواجهة المخاطر التي تهدد أمن فرنسا وقيمها الليبرالية. فوصف التظاهرة بأنها علمانية خادعة مُبطّنة بنزعة كاثوليكية، ورأى أن الخطر المُحدق باليهود مصدره معاداة السامية، وليس الهجوم على حرية التعبير. وهذا ما شعر به كثيرون من اليهود الفرنسيين الذين فزعوا من صعود الهوية الوطنية الفرنسية، فأخذوا يفكرون بمغادرة فرنسا إلى إسرائيل.
هذا فخٌّ ينصبه اليهود لأنفسهم؛ إذ لم يعد يجدي قول بعضهم بأنه لا يشعر بالأمان في فرنسا، ولا في أي مكانٍ من العالم. هذا التشخيص لمشكلتهم هو مصدر القلق والخوف وعدم الأمان. وتبديد هذه الهواجس يبدأ عندما يقتنعون بأن قوة الهوية الفرنسية ليست ضدهم بل لمصلحتهم. وأن أمنهم هو جزء من أمن المجتمع الفرنسي. لقد انكشفت اللعبة، ولم يعد بإمكان اليهود أن يعيشوا في فرنسا، وهم يخشون منها أو لا يعدُّون أنفسهم كمكوِّن من مكوناتها.
ثالثًا: استبعاد الصفة الدينية من التعريف بالهوية. فالتسميات الطائفية مفخخة بالعنصرية. وهو الأمر الذي يقتضي منع حمل الرموز الدينية في الفضاء العمومي، سواء اختص الأمر باليهود أم بالمسلمين أم بسواهم. ثمة تقليد سيِّئ يمارَس في فرنسا يُسأل عنه الفرنسيون وبخاصة المثقفون والإعلاميون. فهم عندما يتحدثون عن أديب أو عالِم أو فيلسوف فرنسي، من أصل كاثوليكي أو بروتستانتي، لا يشيرون إلى أصله. أما إذا تعلق الأمر بمثقف من أصل يهودي أو إسلامي، فإن الأصل يُذكر كعنصر في تعريف هويته أو مهنته. وفي حالة اليهودي هم يشيرون إلى الأصل، ربما على سبيل التعاطف مع قضيته، وربما من قبيل المحاباة والنفاق، أو على سبيل الحذر وعدم الثقة.
بالطبع إن المسؤولية الكبرى، في ذلك، تقع على اليهود، بحيث يتوقفون عن إشهار هويتهم والتذكير المتواصل بقضية المحرقة النازية؛ لكي يقدموا أنفسهم من خلال هويتهم الفرنسية الجامعة، وكما يفعل سائر الفرنسيين، فلا يعيش الواحد منهم في فرنسا بوصفه عضوًا في طائفة استثنائية، أو في جماعة سرية ترى أن علاقة التضامن بين أفرادها أولى من العلاقة مع الشركاء في الوطن.
بهذا المعنى فالعداء ضد اليهود في فرنسا هو أوسع من أن ينحصر في العامل الإسلامي الراديكالي، كما يؤكد داني تروم Trom (جريدة Le Monde 1 مارس 2019م). غير أن العداء لا يعود، وكما يحسب تروم، إلى كون اليهود يملكون في فرنسا ما لا يملكه غيرهم: المال والإعلام والنخبة الفكرية. وإنما مردّه لأنهم يتصرفون كلُوبي؛ لكي يتحكموا في كثيرٍ من مفاصل الحياة الثقافية والإعلامية. أما النخبة الفكرية، فإنها لا تقتصر طبعًا على اليهود. هناك أعلام كبار في حقول الفلسفة والفكر على اختلاف أصولهم الطائفية. وهذه ميزة فرنسا. ولكن المثقفين اليهود يروِّج بعضهم لبعض ويضخمون مساهماتهم وأدوارهم على حساب غيرهم، إلى حد يقودهم فيه الهوسُ الهوياتي والاصطفاء إلى تهويد الفلسفة.
المسلم الفرنسي
وهذا ما يُنتظَر أيضًا، وبخاصة من المسلم: أن يتوقف عن التذكير بأصله وفصله، وعن إشهار هويته الدينية على حساب هويته الفرنسية. وإذا كان مصدر الخطر على اليهود لم يعد يتمثل في معاداة السامية، بل في كيفية تعاطيهم مع أصولهم الثقافية، فإن الخطر على المسلم لا يتأتّى من رفض الإسلام، ولا من كره المسلمين أو الخوف منهم، بل من كون المسلم الفرنسي، الهارب من فقر بلده وجور حكومته، يغلِّب هويته الدينية على هويته الفرنسية، ويحاول استغلال فضاء الحرية في فرنسا لكي يفرض معتقده وعاداته وطقوسه الدينية على مجتمع تعلمن وخرج بأكثريته من الفلك الديني، وهو ما يشكل نوعًا من الأسلمة للمجتمع الفرنسي، بعد أن ضعُفت أو استُضعفت الطائفة الكاثوليكية التي هي كُبرى الطوائف.
هذه أيضًا هي مشكلة المسلمين في الدول ذات الأكثرية المسيحية، سواء في أوربا أو في غيرها. إنهم يتصرفون كما لو كانوا في بلدانهم الأصلية ذات الأكثرية الإسلامية، فيمارسون خصوصيتهم وطقوسهم، بما يُشكّل نوعًا من الغزو الثقافي في مجتمعات كانت قد دخلت في فضاء الحداثة والعلمنة، وهو الأمر الذي يغذّي أو يوقظ العنصرية الدفينة التي تنتظر، عاجلًا أو آجلًا، ساعة الانفجار عنفًا أعمى.
بل هذه هي مشكلة المسلمين مع أنفسهم وداخل بلدانهم. فالنرجسية والانغلاق والتمركز المذهبي، المرضي، على الذات ضد المختلف، ينفجر هو الآخر عنفًا أعمى، حتى ضد المُصلّين في المساجد، كما حدث في عواصم عربية. ولا عجب فمآل التعصب ضد الآخر أن يرتد على الذات. نحن إزاء النمط الإرهابي نفسه في الداخل والخارج، وهو نمط تتواطأ نماذجه ونسخه بعضها مع بعض، بقدر ما يصنع بعضها بعضًا لبثِّ العداء بين الناس وتخريب العالم.
أعود إلى فرنسا لأقول، بأن الهوس الهوياتي يُبقي المسلم نشازًا، كما يُبقي اليهودي استثناءً، فيخلق كلاهما المشكلة لنفسه، ويسهم في تلغيم المجتمع الفرنسي، بتحويله إلى مجموعة طوائف متنازعة، متنابذة، تحكم العلاقات بينها المخاوف المتبادلة.
وتلك هي اليوم معضلة فرنسا التي أورثت لبنان نظامًا ديمقراطيًّا حديثًا لم يحسن أهله تطويره، بل أساؤوا استعماله. إنها تسير على طريق اللَّبْنَنَة، بقدر ما تراجعت عن قِيَمها العلمانية والمدنية والديمقراطية، أمام اللوبي اليهودي والمد الأصولي.
ولذا لا ينفع اليهودَ بشيء فيلسوفٌ كبرنار هنري ليفي الذي يؤلف كتابًا عن «روح اليهودية» ليؤكد أن فرنسا هي «ناكرةٌ كونَها صنيعةَ اليهودِ». هنا أيضًا ثمة نرجسية طائفية تقود صاحبها بنوع من «التشبيح» إلى تهويد فرنسا، التي هي صنيعة كل أبنائها، الأصلي والوافد، المقيم والمهاجر، وكل فاعل أنتج وأبدع وأنجز في مجال عمله أو في بناء المجتمع الفرنسي، من غير تمييز بين فرنسي وآخر.
كذلك لا ينفع المسلم بشيء، أن يؤلف الداعية السويسري طارق رمضان كتابًا بالفرنسية حول «عبقرية الإسلام». فذلك يُعزز النرجسية لدى المسلم الفرنسي والأوربي، ويحول دون اندراجه في مجتمعاته الحديثة. ما يحتاج إليه المسلمون هو ابتكار صيغة لوقف الحروب الأهلية بينهم، وإعادة «السكينة» إلى الدين، وفقًا لمقولة الدكتور رضوان السيد.
تصدع أسطورة معاداة السامية
لنحسن قراءة المجريات والتحولات: إن مناهضة النزعة المعادية للسامية هي قضية ولى زمنها، بعد أن استُخدمت طويلًا كأداة للابتزاز والترهيب. ولن تعيدها الاحتجاجات والتظاهرات إلى رأس الاهتمامات؛ لأنها لم تعد تعني كل الفرنسيين، كما يصرح رئيس وزراء فرنسا إدوار فيليب (مجلة l’express، عدد 3529، من 20 إلى 26 فبراير 2019م). وهذا التصريح، الذي ما كان يجرؤ على الإدلاء به سياسي فرنسي قبل الآن، إنما يشهد على التغيرات التي تشهدها فرنسا، والتي فاجأت اليهود لأنها لم تكن في حسبانهم.
ومن المصادفات أنه فيما تتصدع أسطورة المعاداة للسامية، تتداعى في الوقت نفسه دولة الخلافة التي أسّسها تنظيم داعش في العراق وسوريا، والتي طاول إرهابها فرنسا والعالم، بمن في ذلك المسلمون الذين يرفضون الخضوع لبرنامج المنظمات الأصولية الجهادية، ولا يريدون أن يحيوا حياتهم طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية.
إنها لفرصة سانحة أمام الدولة الفرنسية، لتغير إستراتيجيتها المجتمعية، بحيث لا تشتغل بإرضاء زعماء الطوائف والجمع بينهم، على الطريقة اللبنانية، فذلك سوف يزيد المشكلة تعقيدًا؛ لأن المعالجة البناءة تقوم على تفكيك الثنائية التي جعلت فرنسا ممزقة بين التهويد والأسلمة، بين قضية اليهود ومطالب المسلمين، فضلًا عن مطالب الجاليات الأخرى، وهي محاولات تعيد المجتمع الفرنسي إلى الوراء، إلى عصر الحروب الأهلية، أو إلى زمن المِلل والنِّحل. بهذا المعنى فاليهود والمسلمون على عدائهم بعضهم لبعض، إنما يجتمعون على فرنسا ويتواطؤون ضدها، بقدر ما يشتغل كل فريقٍ منهما كلغمٍ في المجتمع الفرنسي.
أنهي بالقول لا أعمّم. هناك فرنسيون من أصول يهودية أو إسلامية، لا يتصرفون بعقلية الضحية، ولا يشتغلون بإشهار هوياتهم الأصولية، أو بتحويل معتقداتهم إلى متاريس رمزية. وإنما هم يستلهمون تراثهم وخصوصياتهم الثقافية، لبناء هوية، منفتحة ومركبة، غنية وعابرة، بقدر ما يتصرفون، كمواطنين على قدم المساواة مع سواهم، أعني مع شركائهم في اللغة والوطن والمصير.
المنشورات ذات الصلة
تلوين الترجمة… الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية
في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو...
النسوية والترجمة.. أبعد من مجرد لغة شاملة
في 30 سبتمبر 2019م، شاركت في مؤتمر (Voiced: الترجمة من أجل المساواة) الذي ناقش نقص منظور النوع في دراسات الترجمة...
ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟
تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ...
0 تعليق