كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
قصص
الأبوان
لا يعرف من ينظر من بعيدٍ إليهما؛ هل يجرّ الأب ابنه أم أن الولد هو من يدفع أباه مثل سجين؟
بدت ذراع الأب المشعرة مثل حبلٍ يطوّق عنق حيوانٍ فارّ بينما كان ساعد الولد أشبه بعقب بندقية تقود الأب إلى زنزانته. كانت ذراع الأب وساعد الولد متساويين في الطول. يبلغ طولهما عشرين سنة تقريبًا. كلما اشتد ساعد الولد تهدّلت ذراع الأب.
يقطع الفتى بزهوٍ كعكة الميلاد فيقطع الأب بالسكين نفسها من لحمه سنةً كاملة. يقطع لابنه دون قصد بعضًا من سحنته وأحلامه وفضائحه. لن يشُبّ الولد حتى يشيب الأب، ولن يغدو أبًا حتى يغدو أبوهُ جدًّا. لن يكونا أخوين أيضًا مهما تظاهرا بذلك، ولن تنقص تلك الأعوام التي بينهما ما لم يُقتل الأب. على الابن عندئذ ليبلغ سنّ أبيه أن يحذر السنوات وهي تتدافع مثل قطيعٍ من الثيران. سيكون حينها الأب والابن معًا، وعندما يكبر قليلًا سيصبح أبًا لأبيه. ربما زار المقبرة وبكى أباهُ الطائش. ولكن الكبار يتلكؤون أحيانًا، قد يموت الابن أولًا ويترك أباه يتيمًا. لكن هذه حكاية أخرى.
الجدّتان
تنام الأم، فتصحو ابنتها اللعوب لتمشي على أطراف أصابعها، تتسلل إلى الشارع فتجد الأم النائمة هناك. تكبر يومًا فتكبر أمها يومًا هي الأخرى. تكبر سنة فتكبر الأم سنةً بالضبط. ربما لو حاولت أن تصغر لصغرت أمها أيضًا، لكنها لا تكف عن اللحاق بها، عن مطاردتها، عن دفعها إلى الشيخوخة. هي هنا والأم دائمًا هناك، وعندما تصلها البنت أخيرًا لن تجدها بالطبع، فالأم تحمل فوق رأسها أينما ارتحلت حرف الكاف الذي في «هناك» لتجد البنت نفسها مهما كبرت هنا، والأم هناك. تعرف الأم جيدًا هذه الطريق التي تسلكها البنت. تعرفها معرفة العميان. قطعتها مرارًا على قدميها ثم على يديها ثم على أسنانها الأمامية. أخذتِ البنت من ملامحها الفم الصغير، واعوجاجه اللطيف حين تبكي وتضحك. وعندما يحين الوقت ستأخذ الطمث والحليب والشيب والخرف. ستغدو أُمًّا ثم ستغدو جدّة ولن يتذكر أحد -حتى هي- أنها الطفلة هنا.
ألبوم العائلة
حين يتصفح الموت ألبوم العائلة، أي عائلة، وليكن أفرادها الأم وطفلتها في النص السابق، وزوجها وابنهما في النص قبل السابق، سينزع الصورة التي يقف فيها الأب مزهوًّا بنفسه، يلفّ ذراعه حول زوجته المشغولة بطفلتها، بينما يتطاول رأس الابن مستعجلًا المستقبل. كم تبدو العائلة سعيدة ومثالية في هذه الصورة، لكن الصور تكذب، خصوصًا عندما تكون ملونة. سيطوي الصورة في جيبه ويعود بعد سنوات. هل يبدأ من الأب؟ بوسع الجد أن يحل محل ابنه لبضع سنوات، أو يتقدم العم الصغير رسميًّا ليصبح الأب الجديد، أو ربما يأتي رجلٌ غريب أو لا يأتي أحد. لكن الأمور لا تسير على هذه الطريقة دائمًا، ربما يبدأ بالعكس، من الأصغر، يخطف الطفلة في غفلةٍ من أمها، ويجرب بلا توقف؛ لأنها ستجري خلفه على الفور. لطالما صلّت لتكون أول الموتى، تظن أنها لن تعيش إذا رحل أحد أبنائها. ستأتي بعدها امرأةٌ أخرى، أكثر شبابًا وأقل مهارةً في الطبخ والقلق.
أو لعل الولد هو يموت أولًا فتتوقف السلالة عند الأب، فيندم؛ لأنه لم يرغب في إنجاب الكثير من الأبناء. قال: إنه سيكتفي بالطفلين حتى يتمكن من منحهما كل الرعاية والاهتمام. هل فات الوقت؟ أو ربما ينسّق لهم موتًا جماعيًّا صادمًا فيتذكر الأقارب لبعض الوقت أنهم ليسوا في مأمن. على كل حال، العائلة كاملة اليوم، وستبقى كذلك حتى تعود تلك الصورة إلى الألبوم.
* من مجموعة قصصية جديدة، تصدر قريبًا.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق