كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«رأيتُ غيمةً شاحبةً، سمعتُ مطرًا أسودَ» لهنادي زرقة: القصيدةُ في مرمى الحرب
تبدو الكتابةُ في زمن الحروب والصراعات أشبه بتلك القشّة التي طالما تمسك بها الغريقُ، سواء علم بلا جدوى النجاةِ أم لم يعلم؛ لذا تأتي أغلب هذه الكتابات، إلا ما ندر، فاقدةً للأمل وغير مُجدية. وهنا، يمكننا أن نحصر ما يسمّى بأدب الحرب، في قسمين رئيسيين: الأوّل، سوداوي، كئيب، يزول بزوال الحرب، بالرغم من أنّه يُعد صورة حقيقيّة ومستنسخة عن الواقع المرير؛ في حين الثاني، إيجابي، مليء بالحبّ والأمل، ويُعتبر -دون شك- أدبًا عابرًا إلى المستقبل.
في مجموعتها الشِّعريّة الجديدة «رأيتُ غيمةً شاحبةً، سمعتُ مطرًا أسودَ»، الصادرة مؤخرًا عن دار النهضة العربيّة (بيروت 2018م)، تحاول الشاعرة هنادي زرقة ترويض «الحرب»، لا بوصفها مُفردة قاموسيّةً فحسب، وإنما باعتبارها غدتْ الجحيم الذي طالما نعيشه ويعيشُ معنا منذ سنوات، الجحيم الذي أتى على الأخضر واليابس من حياتنا وذكرياتنا، ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، حزننا وفرحنا. حيثُ تقتفي الشاعرة أثرها من موتٍ أو دمار لحق بالبشر والحجر معًا، تقول: «جسدي بقايا أجسادٍ كثيرة/ ملايينُ ملايين الخلايا لبشرٍ ماتوا…/ هذا القلبُ المكسورُ أتيتُ به/ من شاعراتٍ أدمنَّ الحبَّ/ فرمى بهنَّ من شاهقِ العاطفة».
تذخر قصيدة هنادي زرقة بمزيدٍ من التضاد والمفارقات اللفظيّة والشِّعريّة، ولا سيما تلك المتناقضة والمألوفة، المُخيفة والمُحبّبة في الآنِ معًا؛ «الكفن الجميل»، و«الأسرة المدلاة من أغصانها»، و«صندوق عرسك الخشبي/ غدا تابوتًا لعشّاقي»، و«هل للحزن ألوان»، و«كان تفاحةً/ بات أصفرَ كالليمون»، و«لطالما خبّأت أمّي الأحزان عنّا في جيوبها كالسكاكر»، و«بيتٌ مقبرة»، و«ذاكرتي مسخٌ مخيف»، و«طفلي المولودُ من العدم»، و«أريدُ لذاكرتي أن تغدو بيضاء مثل كفن»، و«أمضي إلى الموت برائحة رضيعٍ/ غادر للتوّ رحم أمّه!»، وغيرها الكثير من هذه المفردات والجمل والعبارات، غاية في القساوة والإدهاش، نقرؤها بين جنبات قصائد هذه المجموعة. إضافة إلى كل ذلك، نجد أنّه ثمّة مزج حميم بين ثنائيّة «الواقع» و«الخيال»؛ إذْ ثمّة قدمٌ هنا وأخرى هناك، وهو ما يُذكّرنا بمقولة تُنسب للمتصوّف شمس الدين التبريزي، يقول فيها: «بين الواقع والخيال هناك برزخ إليه أنا أنتمي». في المقطع الذي حمل الرقم (9)، ثمّة العودة، تلك الرحلة العكسيّة من الفناء إلى الأزل، حيثُ لا شيء يغرينا، وكل شيء في مهبّ الريح، وما الريح سوى الحرب التي تعصف بنا؛ تقول الشاعرة: «غدًا أعودُ إلى الترابِ/ غدًا تنمو القصائد على أجسادِ نساء غيري/ غدًا أفرحُ إذ تنزعُ إحداهنَّ قطعة قلبي الواهنة/ وترميها للريح».
مجموعة «رأيتُ غيمةً شاحبةً، سمعتُ مطرًا أسودَ»، التي جاءتْ في مئة وإحدى عشرة صفحةً من القطع المتوسط، هي الإصدار الشِّعري السادس للشاعرة هنادي زرقة؛ إذْ سُبق لها أنْ أصدرت المجاميع الشِّعريّة التالية: «على غفلة من يديك» (2001م)، و«إعادة الفوضى إلى مكانها» (2006م)، و«زائد عن حاجتي» (2008م)، و«الزهايمر» (2014م)، و«الحياة هادئة في الفيترين» (2016م).
في هذه المجموعةِ؛ ثمّة قلق وجودي حول ماهيّة الحياة والموت، يُسيطر على أجواء مُعظم القصائد؛ إذ تكتفي الشاعرة أحيانًا بوصف المشهد المُلتقط وتركه هكذا كما هو تمامًا، وفي أحيان أخرى تحاول طرح المزيد من الأسئلةِ؛ لكونِ الشِّعر في أحد أبرز وجوهه عبارة عن البوح الشفيف، إذْ تترك القارئ في مهبّ الحيرة وحدها، من دون أن تُفضي الأسئلة إلى أي برّ في رحلةِ بحثنا عن أجوبةٍ لتلك الأسئلة، التي تذخر بها قصائد هذه المجموعة، تقول الشاعرة: «لستُ أعلمُ كيف أرسمُ الحزنَ،/ لكنّ ظلًّا يمتدُّ كظلِّ الحرب،/ ظلٌّ يغطي جثّة البلاد/ جثّتي باللون الأحمر».
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق