كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الجذور العميقة للكتابة
هل اخترعت الكتابة من أجل القيام بالعمليات الحسابية والإدارية أم إنها تطورت من الحركات الدينية والسحر والأحلام؟ سؤال يطرحه كتاب «الجذور العميقة للكتابة» لمايكل إيرارد. مؤلف كتاب «لا بابل بعد الآن». يصف علماء تاريخ الكتابة ما كان أولًا أداة إدارية. ووفق «فرضيتهم الإدارية» اختُرعت الكتابة كي تتمكن الدول من متابعة الأفراد والأراضي والإنتاج الاقتصادي ولكي تحافظ النخبة على سلطاتها. وتتابع الفرضية أن الكتابة أصبحت مرنة مع الوقت في طريقة تصويرها للغة المحكية بما يكفي بحيث تُستخدم في الشعر والأدب وألعاب الكلمات.
أبحرت رابطة «الكتابة- الدولة» مؤخرًا في كتاب جيمس سكوت «ضد الحب» (2017م)، وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة يال، ويهدف لتغيير القصة الاعتيادية حول نشأة الحضارة. يستند سكوت في كتابه إلى الاكتشافات الأثرية المتراكمة ليظهر وجود المجموعات السكانية الكبرى والمستقرة وزراعة الحبوب قبل الدول الأولى في كل من بلاد ما بين النهرين والصين.
حازت هذه العمليات على تفضيل مصالح الحكام والطبقات الحاكمة والنخبة. لم تخترع النخبة الزراعة أو الحياة الحضرية ولكنها استحدثت السرد السائد كثيرًا الذي ينسبُ إليها تلك الإنجازات. يكتب سكوت أن «الدولة آلة تسجيل وقياس وتدوين»، وآلة قاهرة تنجز لوائح بالأسماء، وتفرض الضرائب، وتقنن الغذاء، وتشكل الجيوش وتسطِّر القوانين. ويُحاجُّ سكوت أنه من دون الكتابة لن يكون هناك دولة- ومن دون دولة لن تكون هناك كتابة. ويبدو أنه يقول: إن كل ما كتبه البشر – الأساطير والقصائد الملحمية ورسائل الحب والمقالات وإعادة تقويم تاريخ الحضارة – كان ظاهرة مصاحبة للأعمال الكتابية البيروقراطية.
ولكنني أرى أن الأدلة تقترح شيئًا مغايرًا. توصلت إلى هذا الدفاع عن الكتابة كمتحزب للنص ومثقف عنيد في عصر يتمحور حول الفيديو. يجلب كل أسبوع أنباءً جديدة عن مستقبل مظلم للكتابة، وينسب الفضل في ذلك إلى المنصات المعلوماتية التي تعمل بالصوت وتُقاد بالذكاء الاصطناعي أو في الآمال المعقودة على الإيموجي كنظام كتابة عالمي.
تشجعتُ إثر قراءة كتاب سكوت لمناقشة بعض مزايا ذلك التفكير: إذا كانت الكتابة سليلة المحاسبة وتُبقي الأقوياء في السلطة إذًا دعنا نحرر أنفسنا من الأصفاد ونعود إلى الطهر.
كتابة تشبه الأسلحة النووية
وعلى أية حال؛ من يحتاج للكتابة؟ إذا نظرنا إلى ذلك عبر المقارنة العسكرية ربما تكون الكتابة مثل الأسلحة النووية (التي طُوِّرت تحديدًا من جانب القوات المسلحة) أو ربما تكون مثل البارود الذي اكتشفه علماء الكيمياء الباحثون عن مواد لإطالة العمر قبل مئات السنين من استخدامه في الأسلحة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الكتابة منتج للدولة في كل مرحلة من مراحل تطورها؟ أم إنها تتألف من ممارسات تمثيلية موجودة مسبقًا توسعت لتلبِّي احتياجات الدولة والمجتمع المعقد؟
تقترح الأدلة أن الكتابة تشبه البارود أكثر من شبهها بالأسلحة النووية. لم تنبثق الكتابة (وفق ما أعلم) من منابع الكتابة الأربعة كشكل صوتي (فونوغرافي) مكتمل ولكنها تطورت لتصبح ما هي عليه- هناك نوع مما قبل الكتابة ونوع مما قبل قبل الكتابة. ويروقني التفكير بالكتابة كاختراع ذي طبقات. أولًا، هناك الاختراع التصويري (الغرافي): مفهوم إحداث علامة على سطح ما. ولا يزال البشر يفعلون ذلك منذ أكثر من 100000 سنة- ولم تمنح البيروقراطيةُ البشرَ تلك السلطةَ. ثم الاختراع الرمزي: دعنا نجعل هذه العلامة مختلفة قليلًا عن العلامات الأخرى ونخصص لها معنى نتفق عليه جميعًا. ثم جاء الاختراع اللساني (اللغوي): دعنا ندرك أن الصوت والمقطع اللفظي والكلمة هي أشياء يمكن أن نخصص لها رمزًا تصويريًّا.
يعتمد هذا الاختراع على الاختراعات السابقة ويتكون هو ذاته من ابتكارات ومدارك وحلول واختراقات. ثم جاء الاختراع الوظيفي: دعنا نستخدم هذه المجموعة من الرموز لكتابة قائمة بأسماء الأسرى أو عقد لإطعام العمال أو رسالة لقائد حامية بعيد. تكتشف عندما تنظر إلى طبقات الاختراع تلك أن الكتابة المبكرة في بلاد ما بين النهرين على سبيل المثال لم تكن ذات وظيفة سياسية بشكل صريح، كما ناقش عالم الآثار في جامعة لندن كوليدج ديفيد وينجرو في كتابه «ما الذي يصنع الحضارة؟» (2010م). وبدلًا من ذلك وخلال أول 300- 400 سنة من النصوص المسمارية المبكرة في المنطقة (في المدة الممتدة ما بين 3300- 2900 قبل الميلاد) يرى وينجرو وظيفة محاسبية لإدارة المعامل- المعابد في تلك الأيام. وأخبرني قائلًا: «لم يكن هناك أي استخدام للكتابة لما قد أعُدُّه وظائفَ للدولة (مثل: الصروح السلالية، والخراج، ونظام الضرائب، وسرد الأحداث السياسية) حتى بواكير عصر الأسرات». وهذه ضربة قوية للفرضية الإدارية؛ لأن الإحصاء الذي كان سابقًا للكتابة في بلاد ما بين النهرين لم يَحتجْ في تطوره إلى وجود الدولة.
بدأت عالمة الآثار دينسي شمانت بيسيرات في الستينيات بدراسة القطع الطينية -أسطوانات وأهرامات وأقراص وكرات- التي عُثر على الآلاف منها في المواقع الأثرية في الشرق الأوسط. ظهرت هذه القطع في مواقع العصر الحجري الحديث الأثرية التي يعود تاريخها إلى 8000 سنة قبل الميلاد وقبل أي ظهور للدول المبكرة في بلاد ما بين النهرين.
تقول بيسيرات: إن تاريخ القطع يعود إلى أكثر من 10000 سنة. وأدركت أنها كانت علائم لأشياء: قمع لكل وحدة من الحبوب أو معين لكل وحدة من العسل وهكذا دواليك. في البداية خُزنت القطع التي دلت على سلع وأشياء في مجموعات، ومن بين طرائق تخزينها إغلاقها بكُراتٍ طينية مجوفة. ومن أجل التغلب على الخلل الواضح لعدم إمكانية تفحص المغلف المختوم قام المحاسبون الأوائل بضغط القطع في السطح الطيني الرطب للمغلف. وبحلول الألفية الرابعة قبل الميلاد أدرك الكتاب أن العلائم المضغوطة جعلت المغلفات عديمة النفع- فقط اضغط القطع على الطين والأفضل من ذلك إيجاد علائم كتابية مماثلة للقطع. ومن ثم خطوة إضافية أخرى من الاختصار لاستكمال الرحلة: اخترع علائم كتابية تصور الكلام؛ الأصوات ومعاني الكلمات. والمضامين واضحة على الأقل لبلاد ما بين النهرين.
حلول الدولة
عملت الدول الأولى من دون الكتابة لمدة 3000 سنة قبل اختراع الكتابة المسمارية؛ لأنها استخدمت نظام القطع في عملية العدّ. ولم يحتج تطور القطع إلى حلول الدولة – بل سبقت الدولة بـ 2000 عام. لدينا هنا العد الذي سبق التنظيم الاقتصادي المعقد والكتابة اللفظية التي سبقت الوظائف السياسية. ويقلل المساران من حجة الكتابة- الدولة. تفتقد فرضية الإدارة إلى دليل في المناطق الأخرى التي تطورت فيها الكتابة أيضًا. تعود أقدم نماذج للكتابة في الصين على سبيل المثال التي كانت عبارة عن نصوص تكهنية منقوشة على عظام وأصداف السلاحف إلى عام 1320 قبل الميلاد، ولكن علماء الآثار لا يعلمون شيئًا عن وجود كتابات إدارية أو أدبية أو دعائية في الحقبة ذاتها. ولا يعلمون أيضًا ما الذي سبق علائم الكلمات المنقوشة التي شملت الأسماء والتواريخ ومواد القرابين رغم اقتراح الأحرف لطبقة نسخية متطورة. ويشير ذلك بدوره إلى مجتمع مركب. ولكن هل أُدِيرَ هذا المجتمع بأشكال من الكتابة؟ لا يوجد دليل على ذلك. وثمة أمور أكثر غموضًا في تاريخ الكتابة في أميركا الوسطى. تظهر أشهر الأمثلة من كتابات المايا والزابوتك التي تعود إلى المدة (600: 300 قبل الميلاد). حُفرت أمثلة الكتابة كافة في بلاد ما بين النهرين على الصخور أو الجداريات، في حين تحللت الكتابة على مواد أخرى مثل سعف النخيل أو فقدت أو أُتلفت من جانب الغزاة الإسبان.
وُجدت دراسة الأيقونات قبل الكتابة اللفظية، ومثلت الكتابة المبكرة الزعماء والحكام واحتجاز الأسرى والغزوات، ولم يوجد أي شيء اقتصادي أو إداري. ونرى هنا وهناك أن الكتابة أشبه بالبارود منها إلى القنبلة النووية. وفي كل مكان من مواقع الاختراع المستقلة الأربعة للكتابة، أما أنه لم يتوافر دليل بطريقة أو بأخرى أو وُجِدَ دليل على أن بادئة الكتابة سبقت الاحتياجات الإدارية للدولة.
غايات سياسية صريحة
استُخدمت النصوص المسمارية اللفظية في بلاد ما بين النهرين لمدة مئات من السنين في المحاسبة قبل استخدام الكتابة لغايات سياسية صريحة. أما فيما يتعلق بالجدل المختزل القائل بأن المحاسبين اخترعوا الكتابة في بلاد ما بين النهرين نقول: إن الكتابة انبثقت من المحاسبة، ولكن كهنة المعبد نالوا الفضل أكثر من المحاسبين. استنتج عالم الأنثروبولوجيا من جامعة براون في رود إيلاند ستيفن هيوستن في ختام مجموعة المقالات المعنونة: «الكتابة الأولى» عام 2004م أن الفرضية الإدارية بالرغم من إغرائها لا تزال «مجرد فرضية». «يبدو أن أبكر كتابات لدينا تدور بشكل ثابت حول الملوك والآلهة والنشاطات الطقوسية والتمائم. وهناك أرضية مقبولة للاعتقاد بأنها ذات بُعد مساحيّ (قوائم بقطع الأراضي وملاكها) وما شابه ذلك وظهرت في المكسيك الاستعمارية المبكرة. ولكننا لا نملك الدليل المباشر على ذلك». نظر أنثروبولجيون آخرون بشكل أقرب للحوادث التاريخية التي ظهرت فيها الكتابة خارج الدولة- وحيث وجدت الدول من دون الكتابة.
يقول بيرس كيلي وهو أنثروبولجي لساني في معهد ماكس بلانك لتاريخ التطور البشري في ميونخ: إن الدولة القديمة في هاواي لم تستخدم الكتابة قط، في حين استخدمتها بعض «المجتمعات الصغيرة التي لم تمتلك شكل الدولة». درس عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي بيير ديلياج اختراع الكتابة في العديد من الأطر الثقافية، وميَّز أشكالًا «طليقة» من الكتابة عن الأشكال «المقيدة».
تشمل الكتابة الطليقة الأداة المعلوماتية المرنة المتعددة الوظائف المسماة الأبجدية اللاتينية التي نستخدمها للتواصل باللغة الإنجليزية أو الفرنسية اليوم. وهناك الكتابة المقيدة الأقل شهرة التي تُستخدم لتمثيل أنماط ضيقة من الكلام، وغالبًا من جانب عدد صغير من الأشخاص. وكمثال على الكتابة المقيدة نشير إلى تاريخ لاكوتا المرسوم على دثار من قبل محارب لاكوتا سويفت دوج وهي واحدة من 100 حكاية شتوية معروفة كانت سجلات لأحداث كُتبتْ على جلود الجاموس.
وهناك النقوش على الكتلة الكاسجالية وهي لوح من الصخر الأرقط رُسم عليه 62 رمزًا اكتُشف في المكسيك في أواخر عام 1990م ويعود تاريخه إلى 900 سنة قبل الميلاد، وهو ما يجعله أقدم كتابة في العالم الجديد. تُستخدم الأنماط المقيدة من الكتابة غالبًا في الأطر التي تتم وجهًا لوجه إضافة إلى اللغة المحكية. لاحظ ديلياج وجودها في العديد من الثقافات الأصلية في أميركا الشمالية (الأوجيبوا واللاكوتا والنافاهو والكونا)، وفي أميركا الجنوبية (الإنكا والياجوا والكيشوا البوليفية)، وفي آسيا (الناكسي في الصين والداياك في بورنيو). ويناقش ديلياج بشكل مقنع أن فك تشفير نص مقيد يتطلب منك معرفة عما يتحدث وربما خبرة بالإنشاد أو الطقوس أو الذم (أو أي شيء) يصوره- ونادرًا أداة مفيدة للسيطرة السلطوية. لاحظ أن الكتابة التي اختُرعت في مصر وبلاد ما بين النهرين وأميركا الوسطى والصين كانت مقيّدة لدى ظهورها للمرة الأولى.
وبالتالي قد تُصبح الكتابة المقيدة طليقة لمصلحة الدولة، سواء لتعزيز السياسات الملكية أو إدارة الاقتصاد أو تمويل النخبة- أو الثلاثة كلها.
المصدر:
https://aeon.co/essays/the-roots-of-writing-lie-in-hopes-and-dreams-not-in-accounting
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق