كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
رسائل الشاعرة «أليخاندرا بيثارنيك» و«ليون أوستروف».. العلاقة الأبوية
يختلطُ حب الشاعرة الأرجنتينية «أليخاندرا» للأدب بحياتها ذاتها، كما جاء في مقدمة الكاتب والأستاذ في علم النفس «إدموند غوميث مانغوا» في الطبعة الفرنسية من هذا الكتاب، 2016م، فقد عانتْ ألمَ الحياةِ الممزق مذ مراهقتها، ولم تعثر على بريق الأمل إلا في الكتابة. إذ كانت ترى في فعل الكتابة خلاصها من كل شيء حتى الحياة نفسها! عاشت حياة جد قصيرة. بَدَتْ كأنها تجسِّد في حياتها بيتَ الشاعر«روبن داريو» (ما من ألمٍ أكبر من ألم الحياة). إذ كانت رغبتها في الموت هي الأقوى: انتحرت وعمرها ستة وثلاثون عامًا، في شقتها الصغيرة في «بيونس آيرس» في سبتمبر من عام «1972م» وكانت قد عادت من مراجعتها لمشفى الأمراض النفسية، بعد أن عبَّرت عن رغبتها بلا لَبْسٍ: «لا أريد أن أذهب إلا إلى أعماق الأشياء، أيتها الحياة، أيتها اللغة، يا (إيسيدورا)». وهذه آخر كلمة خطتها الشاعرة بالطباشير الأسود في غرفتها. لم تطفئ حياتها إلا بعد أن ذكرت اسم الشاعر «إيسيدورا» الذي كان قد سبقها بالانتحار في شقته في باريس المحاصرة عام «1870م».
«ليون أوستروف» من المحللين الأرجنتينيين القلائل الذين لم يكونوا أطباء. درس بكلية الفلسفة والآداب بجامعة «بيونس آيرس» ليعمل في الجمعية الأرجنتينية للتحليل النفسي. في نهاية الخمسينيات عمل مدرسًا بالكلية مع محللين معروفين من الأرجنتين.
نشر مجموعة من المقالات المتعلقة بعلم النفس في مجلة الجامعة. وقد ألف كتاب «الحقيقة والكاريكاتير» للتحليل النفسي عام «1980م»: «انطباعي الأول عنها حين رأيتها هو أنني كنت أمام مراهقة بين ملائكية وغريبة الأطوار. أدهشتني عيناها الواسعتان الشفافتان والمفزوعتان، وصوتها البطيء الذي ترتعش فيه المخاوف كلها» يقول أوستروف عنها، وكانت زيارتها الأولى له وعمرها «18» عامًا وهي لا تزال طالبة. لحظ المحلل النفسي منذ زيارتها الأولى ثنائية متصارعة في صمت تلك المرأة، وشغفًا يوجهها نحو الأعلى، نحو الشعر الكبير، نحو تجليات هذا الفن الأكثر سموًّا، في مقابل ألم نفسي يُخيفها من إقامة علاقة طبيعية مع عالمها المُحيط، وهو الأمر الذي يحدُّ من قدرتها على الاستجابة لمتطلبات حياتها اليومية؛ ليمثلَ لها فيما بعد شخصية أبوية محتوية، حيث كان الملجأ الآمن الذي تؤوب إليه مثل الأب في أوقات الضعف واليأس الأشد قسوة وإيلامًا، حين تلفها أعنف مشاعر الخوف والاضطراب والقلق.
وُلدت الشاعرة في الأرجنتين لعائلة مهاجرة روسية- بولندية من أصل يهودي، وهو ما قرَّبها من المعالج أوستروف ذي الأصول الروسية. كانت مترددة بين دراسة الفلسفة والآداب والصحافة. أحبت الرسم وأخذت تتردد على مشغل رسام معروف هو«خوان باتل» في الأرجنتين. وتابعت دروسها الأدبية بمواظبة الحضور لدروس أستاذ الأدب الحديث «خوان خامويا باخارليا» الذي ساعدها في التعرف إلى أعمال عدد كبير من الكتاب المعاصرين كجيمس جويس، وبروست، وأندريه جيد، وغيرهم.
وصف بأنها قارئة نهمة وذكية تبحث عن لغتها الشعرية الخاصة. نشرت كتابها الأول في سن التاسعة عشرة بعنوان «الأرض الأكثر غرابة» وهو عنوان يحيل إلى تجربتها التحليلية وخضوعها للعلاج النفسي المبكر. أهدت قصيدة من ديوانها الثاني لمعالجها أوستروف بعنوان «البراءة الأخيرة» ومطلعها: «سيدي صار القفصُ عصفورًا وطار. وصار قلبي مجنونًا؛ لأنه يعوي للموت، ويبتسم خلف الريح والأوهام/ ماذا أصنع بالخوف. ماذا أصنع بالخوف؟» أحست أليخاندرا بأنها مستعدة للقفزة الأولى بالابتعاد عن عائلتها، والرحيل عن بلدها الأرجنتين؛ لتكتشف أرضًا جديدة، فسافرت إلى باريس عام «1960م».
في هذه الرسائل وعددها 21 رسالة وخمسة ردود من المعالج النفسي، تعرض الشاعرة بلا مواربة حالاتها النفسية الأدعى للألم، عندما تغرق في أقسى حالات الكآبة. القراءة المنتظمة لمجموع الرسائل تسمح ببناء سرد واضح عن إقامتها في باريس، وعلاقاتها وصداقاتها، ومكان إقامتها، وتفاصيل عملها الإبداعي، وتحولاتها النفسية وتجاربها العاطفية، وتعرفها إلى كتاب وشعراء من أميركا اللاتينية مثل أكتافيو باث، الذي كتب مقدمة ديوانها الثاني، وقيصر باييخو (شاعر من البيرو، يعد من كبار شعراء الإسبانية، أقام في فرنسا وانتحر في شقته الباريسية). وغيرهم، وتعرفها إلى المُنظِّرة النسوية «سيمون دي بوفوار» صديقة سارتر ومارغريت دوراس، وغيرهم من الكتاب والشعراء الذين كانت باريس وجهتهم آنذاك.
من خلال ردود المحلل النفسي على رسائلها تبدو جهوده واضحة بمنح هذه «الأنا» الشاعرة التي كانت على وشك التفكك وحدة وتماسكًا، وحاول بشتى الطرق رفع روحها المعنوية، وتقوية احترامها لذاتها الممزقة، ودعمها في اتخاذ قرارات على المستوى الإنساني والإبداعي، وتشجيعها في مشاريعها المختلفة.
بمعنى آخر، حسب «إيفون بوردوا»، فإن أوستروف كان بمنزلة الأب للشاعرة بيثارنيك. وتُمثل الرسائل المتبادلة بينه وبين أليخاندرا، في مجموعها، سردًا دقيقًا ومفصلًا لحياتها الباريسية المضطربة. إن وصفها للمنازل التي تعاقبت على السكن بها وحياتها البوهيمية الفوضوية، وإشارتها إلى عملها الروتيني في مجلة «دفاتر مؤتمر حرية الثقافة» الذي مكنها من العيش والإقامة في باريس، وحديثها عن صداقاتها الأدبية، وتأمُّلها في المعاناة التي سبَّبها لها بعضٌ من العلاقات، وفي الرابطة العائلية المعقدة ولا سيما مع أمها، وظهور آلامها الجسدية، وسردها لحالات معينة خاصة تعيشها في وحدتها الباريسية، تعطينا صورة واضحة عن سنواتها الأولى في باريس، فالشاعرة لا تبخل بأدنى تفصيل في رسائلها.
في هذه الرسائل ترتسمُ أماكن وأحلامٌ، وعادات وطقوس، وأشخاص وأشياء، وقلق وكآبة، من حياة الشاعرة اليومية لتجعل من هذه النصوص- الرسائل ملمحًا حسيًّا وجسديًّا قويًّا. هنا جسدٌ يعاني ويتألم ويتفكك ويستمتع ويكتب، لكنه حاضرٌ في أسمى تجليات الفكر. «إنها الثامنة صباحًا، تسير الحافلةُ بمحاذاة نهر السين، الغيومُ تغطي مياه النهر، والشمس تنعكس من زجاج كنيسة نوتردام، أرى الضباب وأنا ذاهبة لعملي، مشهدٌ رائع. وما زال المطر وما زالت هذه السماء الخريفية الرمادية التي تنعكس تمامًا ما أحسُّ به- هذه السماء التي أحبها أكثر من الشمس. هذا الحزن الذي يبدو فيما هو خارجي». من الرسالة 9. أو تكتب في واحدة من الرسائل «حالتي الصحية سيئة، تركت القهوة والكحول والتدخين. أعاني دوارًا ووهنًا، يمكنني أن أقول وأنا في الخامسة والعشرين من العمر: إنني متعبة من العمر». من الرسالة «16».
هنا في هذه الرسائل أيضًا، يمكن التعرف إلى كثير من الجوانب والاهتمامات، وحالات من القلق والخوف التي عذبت الشاعرة طوال حياتها. مع ذلك يبدو أن هناك كثافة خاصة، تعريًّا كاملًا، ومجهودًا كبيرًا، ربما نشأ إثر العلاقة العلاجية التي استمرت سنواتٍ مع المعالِج النفسيّ ليون للتعبير عن حالاتها النفسية والبوح بما يرعبها وهو ما يميز هذه الرسائل. «تتطلب مني هذه الرسائل مجهودًا ضخمًا، لقد بلغ جنوني منتهاه، وهلوساتي تضاعفت، مشفوعة بخوف، أشتبك في صراع محتدم مع صمتي وصحرائي، ووعيي المحطم، وذاكرتي المشتتة».
من الواضح أننا أمام كِتابة تتخطى حدود الأنواع الأدبية؛ رسالة، يوميات، نثر، نثر شعري… كِتابة يعاد كتابتها وتعديلها المرة تلو المرة وفي أشكال مختلفة، وطروحات متتالية، وصور متواصلة وبحث دائم. نصٌّ وحيدٌ قابل للتغيير، شارد، مترحل، لا يتوقف أبدًا، يعيدُ بناء نفسه في معركة مستمرة مع اللغة؛ إذ كانت الشاعرة ترى اللغة عائقًا كبيرًا ربما لمعاناتها «التأتأةَ» أو التعلثمَ بالكلمات، وكانت ترى في اللغة حاجزًا أو سدًّا منيعًا. إنها استثمارٌ شعري يتجاوز الحدود بين الكتابة وأنواعها. ثمة تداخل بين العام والخاص، إنه بحث دائم عن الخلاص عبر الكتابة، بحث متواصل عن الجمال، عن الهوية، عن الحب، بحث شعري وبحث حياتي، بحث باللغة وبحث عاطفي، طرد للصمت؛ كي لا تصاب بالجنون. الكتابة هي المرآة ونصوص الشاعرة تفيض بالمرايا وتعكس جوهرها. من قصيدة لها بعنوان العاشق تكتب: «توخزك النهارات/ الليالي تصب لومًا عليك/ فتؤذيك الحياة أكثر وأكثر/ محطمة، أين تذهبين؟ خائبة، خائبة».
شكَّلت هذه الرسائل التي استمرت من عام «1960م» إلى «1964» بين شاعرة غنائية ومعالجها النفسي البروفيسور«ليون»، حدثًا أدبيًّا نادرًا حاز اهتمام عشاق الشعر وعلم النفس والمهتمين.
نُشرت هذه المراسلات في بيونس آيرس عام «2012م»، وقدمت لها «أندريا أوستروف»، ابنة المعالج النفسي، «ليون» في طبعة منقحة وموثقة، وقدمت لها مقدمة مفصلة، ورأت في هذا الإصدار «رد اعتبار» لهذه الشاعرة ومعالجها النفسي الذي صار يشبه الأب لهذه الشاعرة التي عاشت حياة قصيرة. قامت بترجمة هذا الكتاب/ الرسائل/ الشاق والمميز الشاعرة والمترجمة المغربية رجاء الطالبي وراجعه بسام البزاز، وقد بدت جهود المترجمة بديعة ومهنية، في هذه الطبعة المنقحة والموثقة بالهوامش والأحداث. صدرت الطبعة مطلع هذا العام «2019م» عن دار المدى في بغداد.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق