كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الخطاب الديني من التنوير إلى التكفير
في مطلع القرن التاسع عشر، وبعد أن أفاق العالم العربي والإسلامي من صدمة الاستعمار الغربي، أصبحت هناك رغبة قوية في التعرف إلى هذا الآخر/ العدو. كانت إرادة القوة تثوي خلف إرادة المعرفة؛ فقد تأكد للشرقيين أن الغرب تفوَّقَ بسبب علمه لا بسبب شجاعته أو عَدده. فبادر محمد علي باشا، والي مصر، بإرسال البعثات إلى الغرب ليتعلم أبناء مصر والمسلمين علومَ الغربِ. وهناك حدثت صدمة حضارية ألقت بظلالها على مؤلفات الأدباء والعلماء الأوائل مثل رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي. بعد الجيل المندهش، ظهر الجيل المتسائل مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان وعبدالرحمن الكواكبي وعبدالعزيز الثعالبي. وأصبحت طبيعة العلاقة بين الأنا الحضارية الإسلامية والآخر الغربي واضحة. فثمة غربي مستعمِر، ولكن ثمة الغربي العالم والفيلسوف والمتنور. وتبنى هؤلاء كثيرًا من الأفكار التي وجدوها لدى الآخر الغربي كالديمقراطية والمساواة والحرية والاستقلال السياسي والعلمانية. ولكنهم كانوا يقظين ضد مكر المستعمر وخاضوا صراعات وسجالات حادة دفاعًا عن هويتهم الإسلامية (مثلًا، حوار الأفغاني وعبده مع رينان وهانوتو).
ورغم حدة السجال إلا أنهم لم يقطعوا مع الغرب وبحثوا في سبل تطوره، فوجدوها في العلم والعقل والتسامح، وانتهى بهم السجال والتدبر إلى تقديم مدوّنات فلسفية وسياسية واقتصادية عظيمة. ويرى جمال الدين الأفغاني أن معضلات العالم الإسلامي تكون من خلال إنشاء مؤسسات سياسية وعلمية على النمط الأوربي، ويرى أن «حياة الشرقيين تكون بالعلم الصحيح» (خاطرات الأفغاني، ٦/١٢٤)، ويشاركه محمد عبده الذي كان يرمي إلى «إنعاش آماله في شفاء العالم الإسلامي» من خلال الاتصال بالعلم والفكر الغربيين (ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ١٦٨)، أما عبدالرحمن الكواكبي فيرى أن الأصالة لا تتعارض مع الاتصال بالآخر والتفاعل معه، والنموذج الغربي عنده يعد نموذجًا تحريضيًّا، حسب عبارة أدونيس في (الثابت والمتحول). وهؤلاء المفكرون، رغم رفضهم القاطع للاستعمار الغربي، كانوا على وعي بأهمية علم الغرب.
التوماويون الجدد
وهذا الجيل اليقظ المتسائل يعد بحق جيلَ التنوير. ومثلما كان مارتن لوثر، رجل الدين، سببًا في التنوير الغربي (مع أسباب أخرى)، فإن الأفغاني وعبده ورفاقهما، وهم علماء دين، هم رواد التنوير العربي والإسلامي. ويرى ألبرت حوراني أن الأفغاني كان يهيئ نفسه ليكون مارتن لوثر الإسلام، ولعل محمد عبده أيضًا تاقت نفسه لهذا الدور، ولكن هشام شرابي يرفض ذلك قائلًا: «ليس هناك أبعد عن الحقيقة من هذه المفارقة» (المثقفون العرب والغرب، ٣٨)؛ إذ لم تكن دعوة محمد عبده من أجل إعادة صياغة للعقيدة بل للعودة إلى الإسلام الصحيح، ومن ثم فهم يشابهون التوماويين الجدد وليس اللوثريين. يريد شرابي أن محمد عبده لم يكن مجدِّدًا بل كان سلفيًّا يهدف إلى العودة للمنابع. وهذا كلام غير دقيق؛ فابن تيمية وابن عبدالوهاب وغيرهما كانوا يرمون إلى الغاية ذاتها، ومع ذلك فهم يسيرون في طرائق قدد وسبل شتى. وشتان بين دعوة محمد بن عبدالوهاب ودعوة محمد عبده. وعلى كل حال، فلسنا، والحال هذا، ملزمين برأي هشام شرابي، بل بما كان يعتقده الأفغاني في نفسه، وما كان يعتقده محمد عبده في نفسه. ويذكر يوهانسن جانسن أن محمد عبده كان يدعو المسلم المعاصر إلى عدم جعل التفاسير حاجزًا بينه وبين القرآن (جانسن، تفسير القرآن في مصر الحديثة، ١٣٩)، وهذه بالضبط كانت دعوة مارتن لوثر الذي رفض أية وَسَاطة بين المرء وربه.
كان هذا الجيل يعرف خصومه بوضوح، ويعرف أيضًا أصدقاءه ومن له معهم مصلحة يفيد بها أمته. ولا جرم، فهم -في جُلِّهم- علماء وفلاسفة وأدباء. هذا الجيل اندثر، وأخلى مكانه لفكرٍ ديني مأزوم ابتعد من طريق الحضارة وسلك طريق الأيديولوجيا الحركية والعنف. ولا غرابة لو قلنا: إن رواد هذا الفكر الحركي ليس فيهم علماء ولا فلاسفة ولا أدباء إلا نادرًا، ويغلب عليهم الجهل والأمية، وأفضلهم حالًا لا يقف ندًّا لأحد من رجال التنوير الأوائل.
ظهر الفكر الديني الحركي مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا في عشرينيات القرن العشرين. وبدءًا من هذه اللحظة، أخذ الإسلام الحضاري يترك الفضاء العام تدريجيًّا للإسلام الأيديولوجي. ويصح القول: إن الإسلام الأيديولوجي صار المتسيدَ في النصف الثاني من القرن العشرين، وترافق ظهوره مع ظهور تيارات أيديولوجية مشابهة كالفكر الاشتراكي والقومي. والتشابه بين التيار الحركي الإسلامي والتيار اليساري عمومًا يتجلى، ليس في المضمون، بل في الوسائل والآليات التي يتوسل بها كل فريق في فرض سيطرته على الوعي الشعبي العربي.
الحكومة الدينية
لقد قطع الإسلام الحركي مع الإسلام التنويري بشكل جوهري. فعلى سبيل المثال، التنوير الإسلامي لم يكن يؤمن بالحكومة الدينية: فمحمد عبده يؤكِّد أن ليس في الإسلام حاكم ديني، «بل هو حاكم مدني من جميع الوجوه»، وكذلك الكواكبي الذي يقول: «إن الأمم الحية ما أخذوا بالترقي إلا بعد عزلهم شؤون الدين عن شؤون الحياة، وجعلهم الدينَ أمرًا وجدانيًّا محضًا» (مقتبس من محمد ظاهر، الصراع بين التيارين الديني والعلماني، ١٩٧). أما الإسلام الحركي فظهر بمفهوم مغاير تمامًا وهو (الحاكمية). فبعد أن كان المتنورون الإسلاميون يؤمنون بالنظام السياسي الديمقراطي أو شبه الديمقراطي، فإن الحركيين بدءًا من حسن البنا حتى الوقت الحاضر يخلطون بين الدين والسياسة خلطًا صريحًا، ففي رسائله، يقول البنا: إن «سياستنا هي ديننا». ويعد أبو الأعلى المودودي من أوائل من أذاع فكرة الحاكمية. ويقول هذا الرجل بشكل واضح في كتاب (حول تطبيق الشريعة): إن «السلطة المطلقة لله» ويرفض فكرة الفصل بين السلطات الثلاث فالنبي كان «شارعًا وقاضيًا وحاكمًا» و«أن لا علاقة للإسلام بالديمقراطية». وتابعه في ذلك المفكر الإخواني الشهير سيد قطب ومن تأثر به. ففي «معالم في الطريق» يكرر دومًا أن دعوتهم هي نقل الناس من حاكمية البشر إلى حاكمية الله. بل إنه في كتاب العدالة الاجتماعية يجعل الحاكميةَ «أول خصائص الألوهية». ويصر قطب على تميز المشروع الإسلامي بقوله: «لم أستسغ حديث من يتحدثون عن اشتراكية الإسلام أو ديمقراطية الإسلام وما الى ذلك من الخلط بين نظام من صنع الله وأنظمة من صنع البشر».
بعد الاعتقالات والاغتيالات التي تعرض لها رموز الإخوان في عهد جمال عبدالناصر، صار الإسلام الحركي أكثر ميلًا للعنف. ونشأت منظمات جهادية وتفجيرية. ورغم زوال حكم عبدالناصر والسادات، فإن الخطاب الإعلامي الديني لا يزال يحمل في أَطْوائِهِ عنفًا رمزيًّا وفعليًّا واضحًا. صحيح أن الفكر الإخواني القطبي سيطر على الخطاب الديني السني، لكنه بدأ يشهد منافسة من جانب الفكر السلفي. ودار بين الفكرين صراع خفيّ حينًا وجليّ أحيانًا، واشتد الصراع مع ظهور ثورات الربيع العربي، ولا يزال. لكن الخطاب الإخواني كان هو المتسيد ولا يزال؛ لأن نظيره السلفي ليست له أجندة سياسية وليست له مطامع للهيمنة على الفضاء السياسي العام، بل يكتفي بالولاء والطاعة للحاكم الموجود.
ليس هناك طريقة لإصلاح الخطاب الديني إلا بالعودة إلى المشروع التنويري الإسلامي واستئنافه، فهو مشروع عقلاني ومنفتح على الآخر المخالف، وفي الوقت عينه يراهن على تطوير الأنا الحضارية. وأما الاستلاب إلى خطاب منغلق وعنفي فلن ينجم عنه سوى الدمار والهلاك الذي تشهده المنطقة العربية في العقود الأخيرة بسبب تصاعد تيارات الجهاد والتكفير.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق