كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
السلطات الثلاثة الأب، الرب، المعلم
أنا أشتغل في ميدان المعرفة، منذ نصف قرن. ومع ذلك لا أدعي أنني أعرف نفسي حق المعرفة. تعتريني حالات أشعر فيها بأن نفسي تعاندني، وفي حالات أخرى أشد وطأة، أشعر بأن رغباتي أصبحت أقوى مني، وبأنني أكاد أفقد السيطرة على نفسي.
في هذه المقالة أسلِّط الضوء على جانب من جوانب شخصيتي بالحفر في طبقات وعيي ودهاليز ذاكرتي؛ للوصول إلى تلك الأحداث والمشاهد أو النصوص والكلمات التي أسهمت في تكويني على ما أنا عليه، وبغير وعي مني ولا عِلْم.
أتوقف عند ثابت من ثوابت شخصيتي لازَمَني وما زال؛ هو الخوف. وعندما أعود إلى نشأتي الأولى، أجد كما قلت ذات مرة في حفل تكريمي، أنني كنت ذلك الطفل الذي يخشى أباه وربه ومعلمه. وهي السلطات الثلاث التي تتعهد تربية الولد وتنشئته، بزرع الخوف في نفسه، عبر استخدام العنف بمختلف أشكاله اللفظية والجسدية.
المعلم الأول
أبدأ بسلطة المعلم. وما أرويه هنا، نقلًا عن الأهل، لأنني أتحدث عن واقعة لا أتذكّرها، أنني كنت أهرب من مدرستي الأولى؛ لأن المعلم كان يعامل تلامذته بعنف شديد. ومع أنني لم أتعرض لأذاه، فقد خشيت منه على نفسي، وصرت أخرج من المنزل، ولا أذهب إلى المدرسة، بل أختبئ في بيت مهجور. ولما علم والدي بالأمر، وكان يؤمن بأن الولد لا يتعلم في جوّ من الخوف، نقلني من المدرسة الرسمية، وكانت ذات معلم واحد، إلى الكُتّاب، ريثما يُنقل المعلم، بعد أن ضجّ الأهالي من سوء تصرفه. وفي الكُتّاب تعلمت شيئًا من القراءة والحساب، وختمت القرآن الذي هو أساس التعليم في المجتمعات الإسلامية. وهكذا كانت تجربتي الأولى مع المدرسة مَشُوبة بالخوف الذي زرعه المعلم السيِّئ والفاشل في كياني.
الربّ الغائب
السلطة الثانية هي سلطة الرب، وكان يمثّلها بالطبع الأب ورجال الدين الذين يتوعدون ويهددون باسم الله الرحمن الرحيم. وهذه السلطة تفعل فعلها عبر الكلام. وقد قيل: في البدء كانت الكلمة. ولا شكّ أنه كان لكلام القرآن وقعه في النفس وأثره في نسج خيال الصغار، كما يتجسد ذلك في ترداد الآيات التي تتحدث عن القصاص والعقاب في اليوم الآخر، حيث الله الذي خلق السماوات والأرض، ثم استوى على العرش، لا عمل له سوى أن يترصد عبيده ويراقبهم من عليائه، لمحاكمتهم وفرزهم يوم الدينونة بين جنة ونار. صحيح أن القرآن يَعِدُ المؤمنَ والمطيعَ بجنة الفردوس، ولكنه ذو مخيال جهنمي شأنه في ذلك شأن ما سبقه من الكتُب الدينية التوحيدية. والطفل إنما يتأثر بحديث العقاب والنار أكثر مما يتأثر بحديث الحور العين وأنهار اللبن والعسل. وكثيرًا ما ينسى هذا الجانب من جوانب الثقافة الدينية، القائم على التخويف والتهديد، كما تعبّر عنه مفردات العقاب الإلهي، بالحرق والكي وقطع الأطراف. وما تفعله المنظمات الجهادية، التي تصدم الكثيرين من المتدينين، ليس سوى ترجمة لهذه الثقافة العدوانية قبل اليوم الموعود.
الأب المحافظ
كان والدي رجلًا له سلطته القوية على أسرته. تجلى ذلك في طاعته والامتثال لأوامره ونواهيه. ولأنه كان مهابًا، لم يستخدم العنف الجسدي، معي أو مع إخوتي، إلا في الحالات القصوى. ومما ضاعف من سلطته، أنه كان محافظًا شديد المحافظة، في ما يخص الأمور الدينية من عقائد وفرائض. وقد تعدّى تشدُّدُه الأُسرةَ والعائلةَ الكبيرة إلى المجتمع. فكان يتصرف كداعية يهتم بوعظ الناس وإرشادهم. وظل على هذه الحال حتى آخر العمر، يدافع عن أحقية الإسلام، ويتحدث عن فضائل الشريعة تحت سقفه الرمزي: الله، القرآن، الحق، الصدق، العدل. مع أنه لم يكن قادرًا دومًا على الوفاء بما يدعو إليه، كما هو شأن كل مثالي، مآل أمره أن يخرج على مبادئه وثوابته.
وأذكر أنني عندما كنت أدرّس في إحدى القرى البعيدة من قريتنا، جاء ذات يوم لزيارتي، ولمّا حضر وقت الصلاة ذهب إلى الجامع، فوجده مهملًا ولم يجد فيه من يرفع الأذان، فغضب وأخذ يتهم أهل تلك القرية بالتقصير في أداء واجباتهم الدينية، مما جعلني أجابهه لنهيه عن التدخل في ما لا يعنيه؛ إذ هو ليس حسيبًا ولا رقيبًا على الناس. حتى عندما أصبحت كاتبًا له آراؤه وفلسفته، لم ييأس من نصحي ودعوتي للعودة إلى نعمة الإيمان الذي نشأت عليه. وكان جوابي، دومًا، يستحيل عليّ العودة، بعد الخروج إلى فضاء العقل، حيث ذقت طعم الحرية. مثل هذا الكلام كان يستفزّه، ولكنه لم يكن يستسلم، بل يحاول استنباط الحجج للرد عليّ، بترداده آراء من يقول بأن الإسلام دين العقل، وأن القرآن مصدر النور والهداية.
* * *
وهكذا حاول والدي قولبتي، وفقًا للنموذج الذي كان يرى أنه الأفضل لتنشئة الولد. ولذا كان لا يكفّ عن مراقبتي فيتدخّل إذا وجد تهاونًا أو تقصيرًا في أداء الفرائض الدينية. وكان إلى ذلك صارمًا، لا يسمح لي باللعب مع أترابي في الحي، خشية أن يلهيني ذلك عن دروسي، أو يؤدي إلى انحرافي باختلاطي مع ذوي المعشر السيئ.
مثل هذه النشأة طبعت شخصيتي وقيدتني بسلاسلها الفقهية والخلقية. صحيح أنني انتقلت، وأنا في الثانية عشرة من عمري، إلى مدينة صيدا، لأتابع تعليمي المنهجي، ولكن كان لسلطة والدي ظلّها في غيابه، ولم أقوَ على التحرّر منها، إلا بعد أن أتيت إلى بيروت لأقيم فيها. وكان لاختياري الفلسفة، مجالًا للتخصص، أثره القوي في أن أشق عصا الطاعة وأتحلل من التزامي الديني. ليس هذا وحسب. بل كان من مفاعيل الخروج والتفلسف الارتدادُ على العقائد الدينية بالنقد، على نحو متطرف، كما كان شأن الأكثرين من أبناء جيلي، ممن تبنوا فلسفات حديثة أو انخرطوا في أيديولوجيات يسارية تقدمية. ولعلّ هذا التطرف كان ردّة فعل على التصلب الديني. بذلك صنَعَنا آباؤنا على شاكلتهم من حيث لا ندري.
ولا أبالغ إذ أقول اليوم بأن هذه النشأة جعلت مني شخصًا مثاليًّا يفتقر إلى المرونة ولا يحسن المصانعة، بقدر ما يتسم بالخوف والخجل. ومع أنني تحررت من أكثر السلطات الرمزية مهابةً وبأسًا، فإنني لم أتحرر من الخوف الذي لازمني حتى بعد أن تقدّم بي العمر: خوفي من الجمع، توتري وارتباكي، عندما أريد أن أتحدث في مناسبة اجتماعية، أو في ندوة فكرية، وبخاصة عندما أريد الإطلالة عبر الشاشة.
ولا أنسى هنا سببًا آخر قد زاد من منسوب الخوف عندي، يعود إلى سلطة الميليشيات. فقد حُجِزت عام 1978م، من جانب عناصر حزبية مسلحة، في أحد الأقبية، لالتباس في الأمر. وبقيت ساعات حتى أتى من عرفني وعرّف بي في اللحظة الأخيرة، أي قبل الإقدام على تصفيتي، وكما علمت بعد الإفراج عني.
ومن طرائف ما أرويه عن ضعفي أن أحد أصدقائي، وكان موظفًا كبيرًا، قد التقى ذات يوم جماعةً من أهل قريتي، فقال لهم: لا يغرّنكم المركز، فأنا أضعف خلق الله في هذه المدينة (بيروت)، ثم استدرك قائلًا: نعم هناك من هو أضعف مني، ممن أقوى عليه. إنه علي حرب. قد يعجب المرء وصفي لنفسي، بالخوف والخجل والضعف، فيما أنا أمارس جرأتي الزائدة في كتاباتي النقدية التي تستفز أو تصدم الكثيرين من القُراء. فهل أعوض بالكتابة، عما افتقدته في حياتي العملية؟ وهل جرأتي في معاركي الفكرية هي الوجه الآخر لجبني في معترك الحياة؟
* * *
أعود إلى حكايتي مع والدي لأقول بأن علاقتي به لم تكن كلها خلافية سلبية. صحيح أنه حاول أن يصنع مني شخصًا على شاكلته. ولكنه صنع مني أيضًا شيئًا آخر، بإصراره، مع معاكسة الظروف، على متابعة تعليمي، فيما معظم أبناء جيلي كانوا يتعلمون الشيء اليسير، ثم ينصرفون إلى تعلم المهن والصنائع، أو يهاجرون إلى بلاد الاغتراب. ولهذا عندما صدر كتابي الأول «التأويل والحقيقة» (1985م)، وكنت قد تأخرت في الكتابة والتأليف، كما كان يأخذ عليّ، أهديته نسخة منه كتبتُ عليها: «إلى والدي الذي انتظر طويلًا. هذا بعض من زرعه قد أينع وحان قطافه». فقد أرضاه ذلك وسرّه، بالرغم من معارضته لي في المسألة الدينية. وكان يقول متباهيًا بأن الكاتب هو شخص مميّز، لكونه يترك أثرًا بين الناس.
الدوافع والنماذج
أختم بالسؤال: هل أدعي، بعد كل هذا السرد لوقائع متوارية أو منسية من سيرتي أنني فككت عقدتي وعرفت نفسي؟ ولكن مَنْ مِنا يدّعي بأنه يعرف نفسه حق المعرفة في هذا العالم، المضطرب غاية الاضطراب، وفي زمن هو زمن التسارع والتسابق والتكالب على الثروات والسلطات والملذات؟ إنه زمن يكاد فيه المرء يفقد سيادته على نفسه والسيطرة على زمامه، بعد أن أصبحت رغباته وأطماعه ونزواته أقوى منه. وإلا كيف نفسر هذا السقوط المدوي، تحت وقع فضائح مالية أو خلُقية، لسياسيين وشخصيات ذوي شهرة عالمية كفرنسوا فيون المرشَّح لرئاسة فرنسا عام 2017م، أو دومينيك ستروس كان مدير البنك الدولي السابق، أو كارلوس غصن مدير شركتي رينو ونيسان للسيارات؟
أتوقف عند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فهو بعد فوزه بانتخابات الرئاسة، تصرف خلال حفل تنصيبه كملك أو كإمبراطور، فيما هو سياسي ومثقف حداثي، ديمقراطي، ليبرالي؟! وهكذا ثمة صور وأطياف تطفو على سطح وَعْيِنا آتية من أقاصي الذاكرة أو من أزمنة أخرى تشكل طيَّة من طيّات فِكْرنا. وأعتقد أن علوم النفس لم تكشف كل ما يمكن كشفه، بدليل أن ازدهار التحليل النفسي بنظرياته وطرائقه لم يُفضِ إلى التقليل من الاضطرابات النفسية والأمراض العقلية.
ولهذا فإن معرفة النفس تتجاوز التحليل النفسي للدوافع إلى التحليل الوجودي للنماذج، للكشف عن الهوامات والصور التي زرعتها في العقول الثقافة والإنسانية على اختلاف الديانات والفلسفات والأيديولوجيات: النرجسية، والقداسة، والعَظَمَة، والعصمة، والبطولة، والنجومية، وسواها من المفردات التي صنعتنا، لكي نُفاجأ ونُصدم بشرور أعمالنا وكوارث مشاريعنا، بعد كل هذه المساعي والنضالات من أجل تحرير البشر.
لعل ما نحتاج إليه هو قلب الآية: أن نتحرر من إنسانيتنا بالذات، كما يجسدها ورم الأنا وداء التألُّه، الذي يجعل الواحد يفكر ويتصرف بوصفه الأحق والأفضل أو الأعلى والأولى أو الأجدر والأكفأ… فيما الحديث المأثور يقول: يا ربّ لا تَكِلْنِي إلى نفسي طرفةَ عين.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق