كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
قسوة الشاعر ونعومة الفيلسوف
تنطوي العنونة أعلاه على إجحاف بحقّ الشاعر وحقّ الفيلسوف، سواء بسواء. فهي إذ تصف الشاعر بالقسوة على اعتبار أنه ناعم بالأساس، وتصف الفيلسوف بالنعومة على اعتبار أنه قاسٍ بالأساس. فإنها تنتقل مباشرة إلى صفتيهما الاعتباريتين، وتتعامل معهما تعاملًا بَعْديًّا، مرحلة ما بعد التكوّن والتشكّل الهُوياتي، أي في مرحلة الكينونة والتعبير عن الذات وتطلعاتها تجاه العالَم وموجوداته. كما أنها تنتصر -أعني العنونة- لمقولات جاهزة وناجزة، حول الانطباع العام عن الشاعر والفيلسوف. فالمُتداول أن الشاعر كائن حسّاس؛ لذا يميل إلى العاطفة والحالة الوجدانية، في حين الفيلسوف كائن صارم؛ لذا يميل إلى العقلانية والمقولات المنطقية.
ربما كان هذا الإجحاف على شيء من الصحة، ليس لأنه غير قائم على الانطباعات الغيرية عن الفلاسفة والشعراء فقط، بل لأن النتاج الشعري للشعراء والنتاج الفكري للفلاسفة ساهم إلى حدّ كبير في بلورة هذا الإجحاف أيضًا، وحوّله بالتقادم إلى سياق فاعل على أرض الواقع. فالكتُب الفلسفية اتّسمت في العموم بقسوةٍ ناتجة عن الحاجة الكبيرة إلى التركيز على متونها، لغاية فهمها وتفكيكها، ومن ثمَّ الاستفادة منها. فكتُب مثل «المنطق» لـ«أرسطو»، و«رسائل الفارابي الفلسفية» و«فينومينولوجيا الروح» لـ«هيغل»… إلخ، هي كتب بحاجةٍ إلى تركيز شديد لفهم سياقاتها وربط بعضها ببعض ربطًا يفضي إلى نتيجة ما. في حين أن المُتُون الشعرية اتّسمت في العموم بنعومةٍ ناتجة عن تدفّق سياقاتها لحظة القراءة تدفقًا أريحيًّا، ولا يحتاج إلى إعمال ذهن، فالصورة الشعرية والموسيقا ينسابان في الذات القارئة انسياب الماء في جدولٍ رقراق. فقصيدة كقصيدة «النائمون» لـ«والت وايتمان» وقصيدة «وتريات ليلية» لـ«مظفر النواب» وقصيدة «المثيل» لـ«إيمان عبدالهادي»، هي قصائد ليست بحاجةٍ إلى إعمال ذهنٍ مُركَّز وشديد، فالمتن يتدفق في وجدان القارئ بيسرٍ وسهولة.
لكن ثمة خروقات حدثت لهذين التصنيفين العتيدين؛ إذ جَرَتِ المُزاوجة بين الشِّعر والفلسفة أثناء تقديم القصيدة الشعرية أو الأطروحة الفلسفية، كما حدث مع «أفلاطون» و«نيتشه» في الفلسفة؛ إذ لا تزال كتابات أفلاطون تنضح بحسٍّ أدبي عميق يجعلها أهون وأيسر على القراءة، ولقيتْ شذرات «نيتشه» رواجًا كبيرًا لدى القُرّاء. وحدث شيء بالمثل في عالم الشِّعر، فشاعر مثل «أدونيس» سيكتب أطاريح فلسفية تُعيد صياغة مفاهيم معرفية على هيئة قصائد شعرية، وشاعر مثل «طاغور» سيُفلسِف العالَم جماليًّا. وفي العموم، رغم هذا، بقي الانطباع سائدًا، وشيئًا فشيئًا أخذ يترسخ في الوعي البشري، حتى إنه حال إلى شبه لازمة على الألسن، فما ذكر شاعر إلا واقترن حضوره –أعني حضوره النصّي- بالنعومة، وما ذكر فيلسوف إلا واقترن حضوره –أعني حضوره النصّي أيضًا- بالقسوة أو الخشونة.
الكينونة والدفع بها تجاه الفناء والعَدَم
لكن، أليس في هذا التصنيف (البَعْديّ)، نوع من التحايل على الصفة الأصلية (القَبْلِيّة)، صفة الإنسانية التي يحتكم إليها كل من الشاعر والفيلسوف، قبل أي نتاج شعري أو فكري؟
نعم، ثمة تحايُل من نوع ما، تحديدًا على صفة الإنسانية التي يخضع لمقتضياتها كل من الشاعر والفيلسوف. فقبل أن ينطبع الشاعر بطابع النعومة نظرًا للبُعد المائي في نصوصه، وقبل أن ينطبع الفيلسوف بطابع القسوة نظرًا للبُعد المعدني في نصوصه، ثمة جانب ناعم أو وجداني في طبيعة الفيلسوف، وثمة جانب قاسٍ أو عقلاني في طبيعة الشاعر. فالمُكوّن الجدلي للإنسان يجعله سبّاقًا في تشكيل الانطباعات الأولى عن الشاعر أو الفيلسوف، وذهابه إلى الحَدِّيَّة في المرحلة البَعْديّة، وتموضعه في طابع قاسٍ أو ناعم، هو إقرار أخير بالكينونة ودفع بها باتجاه الفناء والعَدَم. فالحديث بشكلٍ قاطع ونهائي –سواء من جانب الشاعر ذاته أو الفيلسوف ذاته، أو من جانب الآخرين- عن تصنيف ما، هو انتقال من مرحلة (الصيرورة) حيث يتحقّق الشرط الجدلي للإنسان على أكمل وجه، إلى مرحلة (الكينونة) حيث يخفق شرط وجوده الأصلي، ويدخل في ناموسٍ ليس من اختصاصه أساسًا، أو هو بالأحرى ضد شرط وجوده أصلًا. فالإنسان لا يمكن أن تقوم له قائمة ضمن شرط وجوده الآني، دون قانون الجدليات: فوق – تحت/ أعلى – أسفل/ حار – بارد/ يمين – شمال/ أمام – خلف… إلخ. أما عن ركونه إلى طرف واحد من طرفَيْ قانون الجدليات، فذلك إيذان بالتحقُّق في كينونة مؤذية.
على طرفٍ موازٍ، لا بُدَّ من كينونةٍ ما تطبع الشاعر أو الفيلسوف بطابعها الخاص، وإلا لانتفت صفته الاعتبارية في العالَم، ولأصبح بُعده الهُوياتي بُعدًا مهددًا. فالشاعر لا بُدّ له من نصّ يحسم فيه رؤيته للذات وتعالقاتها مع العالَم، كذلك الفيلسوف لا بُدّ له من نصّ يحسم فيه رؤيته للذات وتعالقاتها مع العالَم. لكن تجسّد هذه الكينونة لا يعني بأي حال من الأحوال نفي الشرط الجدلي عند الشاعر أو الفيلسوف، بل على العكس قد يتمثّل هذا الشرط أفضل تمثّل، ولا سيما ساعة كتابة هذا النص وانتصاره للمقولة الإنسانية القَبْلِيَّة، حتى إن طُبع الشاعر بطابع ناعم في الأذهان، وطبع الفيلسوف بطابع خشنٍ في الأذهان هو الآخر. فـ«لايبنتز» كان لا بُدّ له من نصّ «مقالة في الميتافيزيقا»، و«ابن رشد» كان لا بُدّ له من نصّ «فصل الحكمة فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، و«أمين الربيع» كان لا بُدّ له من نصّ:
«فجأةً
قبَّلَ البَحرُ رِجْليكِ مُندهِشًا
وابتعَدْ
خُطْوَةً
ثُمَّ عادَ بمَدْ
وَقَعتْ في يدي يومها
ريشَةٌ مِنْ جناحِ الأبَدْ!»
وعليه، فلا بُدّ للشاعر أو الفيلسوف من كينونة ما يركن إليها، حتى لا يكون محض امتهانه للشعر أو الفلسفة امتهانًا ذهنيًّا، غير مُجسّد في نصّ ما. إذًا، نحنُ أمام معادلة سأعيد صياغتها على النحو التالي:
شاعر ناعم + فيلسوف قاسٍ = نتيجة في الذهن الجمعي.
شاعر إنسان + فيلسوف إنسان = مقدمة معرفية.
في المقدمة المعرفية يخضع كل من الشاعر أو الفيلسوف لشرطِ الوجود الأساسي، ألا وهو الشرط الجدلي. وأعمق ما يمكن أن يصل إليه الشاعر أو الفيلسوف هو تجسيد هذا الشرط في نصٍّ شعري أو متن فلسفي، يغذي هذا الشرط، لكي تتجلّى الكينونة المُتحققة عبر هذا النص أو ذاك المتن، تجليها الباعث على الحياة، لا تجليها الباعث على الموت والفناء، فأي كينونة هي بمعنى من المعاني موت وعَدَم.
وفي النتيجة الجمعية، ثمة تأشير بطريقةٍ ما على كينونة ما، كينونة غير منسجمة مع شرط الجدل المبدئي. فثمة حَدٌّ يتمثَّلُه الشاعر أو الفيلسوف في مقاربته للعالَم، ولا ينبغي تجاوزه أو الاضطلاع بغيره، فعلى الشاعر، وفقًا لهذا الحَدّ، أن يكون ناعمًا أو أن يكون نتاجه ناعمًا بالأحرى. وعلى الفيلسوف، وفقًا لهذا الحَدّ، أن يكون قاسيًا أو أن يكون نتاجه قاسيًا بالأحرى.
وفي الجمع بين المقدمة المعرفية والنتيجة الجمعية، أرى أنّ بالإمكان الإبقاء على الأطر العامة لهاتين المقاربتين، مع البحث عن تأصيل أعمق للنتيجة الجمعية، وربطها بالمقدمة المعرفية. فالشاعر ينطوي –اقتضاء لواقع الشرط الجدلي- على بنية قاسية في ذهنه، لكنه يروم إخراجها إلى العلن أو التعبير عنها وصياغة فكرتها صياغة وجدانية أكثر منها صياغة عقلانية. فالشاعر الذي يتمثّل فكرة الألم ذهنيًّا وواقعيًّا، عبر مشاهدات لآلام الآخر أو مكابدات لآلام ذاتية، فإنه يتمظهر تمظهرًا حقيقيًّا في قسوة من قسوات الحياة، لكن سيَعمِد إلى نقلها على هيئة دفقة وجدانية رقيقة وناعمة.
البحث عن مقاربة جديدة
وإذا كان لنا أن نستشهد بمثالٍ فسيكون مثال مجنون ليلى أكبر معبِّر عن هذا التوجّه. فالنعومة الفائقة في أشعار المجنون نتجت عن قسوة بالغة تعرَّض لها الشاعر مع حبيبته وأطاحت به، لكنه ارتأى أن يُنصّصها في متنٍ عاطفي ينساب انسيابًا في الوجدان لحظة القراءة، ويجعله يشعر بنشوة الكلمات وقدرتها على التعبير، رغم المكابدات الهائلة التي عاينها الشاعر وعانى تفاصيلَها المُتعبةَ. لذا فكينونة الشاعر أو المجنون في نصوصه لم تكن كينونةً ضد الشرط الجدليّ التأسيسيّ، بل اعتمدت عليه في الأساس، أو بالأحرى ستعتمد عليه في لحظة ما بعد القراءة، تحديدًا في لحظة التأويل، والبحث عن مقاربة جديدة للنصّ الناعم. فهو نصّ لم تكن كينونته ناعمة بالأساس وتَمَظْهَرَ تمظهره النصّيّ في نعومةٍ تالية، بما يجعل الشاعر يخضع لشرط التصنيفات الجمعية، بل هو نصّ ناعم تمخّض عن قسوة مفجعة.
وإذا كان لنا أن نستشهد بمثالٍ فلسفي، فسيكون مثال «مارتن هايدغر» هو أكبر مُعبّر عن هذا التوجّه، فالخشونة القاسية في كتاباته، اقترنت بقصة حُبّ عاصف جمعته بالمفكّرة «حنة آرندت». فهو إذ يتجسد نصيًّا في متن فلسفي مُستغلق، فذلك النصّ ليس نصًّا كينونيًّا يتمثله «هايدغر» كنسقٍ مُضاد لشرطه الوجودي، بحيث تصبح صفة الخشونة صفة اعتبارية، أو تعبيرًا عن كينونة قارّة ونهائية. بل هي صفة مُتواشجة مع صفة ناعمة في شخصية «هايدغر» ابتداءً، فتلك القسوة الفكرية، اقترنت بنعومةٍ عاطفية، تمثلت مقولة الجدل الإنساني في واحدة من صورها الواضحة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، أمكنني الحديث عن تواشج بين المقدمة المعرفية والنتيجة الجمعية، متمثلة بمرحلة ما بعد قراءة النص الشعري أو المتن الفلسفي. فقراءة النصّ الشعري وإنِ اقترنت بحضورٍ عاطفي ناعم، إلا أنها قد تستوجب آلامًا لاحقة على المستوى الفردي أو الجمعي، ولا سيما إذا ما كان النص الشعري يستنطق حادثة أليمة أو عذاب جسيم. فهَهُنا، تصير الجرعة الوجدانية الناعمة مثل شفرات صغيرة تدخل الوجدان من دون أن تلحظها العين نظرًا لدقّتها ورشاقتها. وفي هذا المجال ستكون قراءة «مرثية سانشو مخياس» لـ«لوركا» تمثيلًا لما ذكرته، فهي قصيدة تدخل مباشرة إلى الوجدان، فهي لا تحتاج إلى كثير تفكير، بل إنها تدفق مثل الماء إلى مشاعر القارئ. لكن بعد الانتهاء من قراءتها يشعر المرء بإجهاد في روحه، ويشعر أن داخله مليء بالدماء التي انبجست من جسد «سانشو مخياس» بعد أن أرداه ثور المصارعة قتيلًا في الحلبة. فثمة حالة قاسية تتأتى مرحلة ما بعد القراءة، ناتجة عن حالة ناعمة تتأتى لحظة القراءة، بما يدمج أيضًا بين المقدمة المعرفية والنتيجة الجمعية كما أشرتُ آنفًا.
وبالمثل، ستكون قراءة المتن الفلسفي عملًا مُرهقًا لحظة القراءة، لكنه سيتحوّل إلى عمل ناعم لحظة ما بعد القراءة. أعني ساعة تحويل الأنساق الفلسفية إلى أنساق فاعلة في الأذهان والأعيان. وفي هذا المجال ستكون قراءة كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى» لـ«رينيه ديكارت» عملًا عسيرًا وقاسيًا، لكنه سيتحوّل مرحلة ما بعد القراءة، تحديدًا مرحلة ما بعد القراءة الجمعية، عملًا ناعمًا، نظرًا لانعكاساته الإيجابية على مجمل الحضارة الغربية تحديدًا والعالمية عمومًا.
وعليه، فنحنُ أمام مقاربتين لمعادلة: المقدمة المعرفية والنتيجة الجمعية، فيما يتعلق بمسألة قسوة الشاعر ونعومة الفيلسوف، الأولى ذاتية أعني متعلقة بالشاعر ذاته أو الفيلسوف ذاته؛ إذ يخضع نصه أو متنه لشرط الجدل الخاص به، فالنص الناعم أو المتن القاسي –من دون الدخول في تعميمات مُطْلقة- ناتج بالضرورة عن حالة قاسية أو حدث ناعم. والثانية غيرية، مُتعلقة بالقارئ سواء أكان قارئًا فرديًّا أو قارئًا جمعيًّا، فالتوتّر الحاصل بين نصّ شعري ناعم يقرأ بشغف كبير وما ينتج عنه من قسوة وجدانية لحظة ما بعد القراءة، أو ذلك التوتّر الحاصل بين متن فلسفي قاسٍ يقرأ بِتَرَوٍّ وصبر شديدين، وما يمكن أن ينتج عنه من خير عميم على حضارة ما، يؤكد على حضور جدلية المقدمة المعرفية والنتيجة الجمعية.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق