كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
جامعتي التي كانت.. وإلى أين آلت..
في عام 1971م، وصلتُ إلى الرياض قادمًا من الدمام للالتحاق بجامعة الرياض، الملك سعود حاليًّا، بعد أن أنهيت الثانوية العامة بشق الأنفس، فلم تكن الدراسة هي همنا الأكبر آنذاك، فقد كنا غارقين بالكامل بالسياسة وقضية «النضال» والعمل الوطني والتنظيمات السرية وغير ذلك من أمور كانت هي المسيطرة على عقول الشباب في ذلك الوقت. جئت إلى الرياض مُثقَلا بأيديولوجيا عميقة تراكمت خلال سنوات الدراسة الثانوية في الدمام، ما بين أفكار قومية ويسارية، لدرجة أن معظم طلاب المدرسة كانوا يتوزعون ما بين هذين التيارين، فمن لم يكن يساريًّا فهو بالضرورة قومي، مع عدد لا يتجاوز أصابع اليد من المتأثرين بأفكار حسن البنا وسيد قطب. كان والدي يرغب في أن ألتحق بكلية البترول والمعادن، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن حاليًّا، ولكني كنت أريد دراسة الاقتصاد والسياسة، ولم يكن هذا التخصص متوافرًا في كلية البترول، فقررت شدّ الرحال إلى الرياض، رغم حبي للمنطقة الشرقية العابقة برائحة وذكريات الطفولة.
والتحقت بكلية التجارة في جامعة الرياض، حيث وجدت عالمًا يختلف عن عالم المدرسة في الدمام، لا من حيث المستوى التعليمي بطبيعة الحال، ولكن من حيث مستوى «الأدلجة» إن صح التعبير، لم يكن هنالك استقطاب أيديولوجي أو حزبي كما في ثانوية الدمام، بل في المنطقة الشرقية بشكل عام مقارنة بالرياض، بل كانت هناك مجرد أهواء سياسية لا تصل إلى مستوى الحدية الأيديولوجية والخصام الحزبي. ولكن الأهم من كل ذلك، وهذا هو محور الحديث هنا، كانت الجامعة حاضنًا بل بوتقة لأفكار شتى تتلاقح داخل الحرم الجامعي، ليست بالضرورة أن تكون سياسية، بل كانت تشمل التيارات الفكرية والفلسفية والأدبية، وكانت أسماء مثل هيغل وكانط ونيتشه وسلامة موسى وغيرهم غير مستغربة على طلبة الجامعة تلك الأيام. بل إن روايات الأدب الروسي والفرنسي والإنجليزي الكلاسيكي، كانت مما يتداوله الطلبة كثيرًا، وينقسم الطلبة ما بين مؤيد لتولستوي ودوستويفسكي، أو تشارلز ديكنز وديفيد لورانس، أو فيكتور هوغو وأونوريه بلزاك، وتعقد جلسات نقاش طويلة حول هذه الأعمال.
عالَم بذاته
والحقيقة أن البيئة الجامعية كانت تساعد على مثل هذا النشاط الفكري والثقافي، فقد كانت الجامعة عالمًا بذاته، بطلبته وأساتذته وأنظمته، وكانت مؤسسة تعليمية مستقلة غير تابعة لأي جهاز حكومي بيروقراطي يعيد حركتها ويقيّد حريتها، كما أصبح الوضع لاحقًا. وكان هذا النشاط مشجعًا من قبل أساتذة ما زالت أسماؤهم خالدة في سجل الثقافة السعودية بصفة عامة: الدكتور غازي القصيبي، والدكتور سليمان السليم، والدكتور محسون جلال، والدكتور أسامة عبدالرحمن، وغيرهم من نجوم لامعة في عالم الفكر والثقافة، رحم الله الأموات منهم، ومتع الأحياء منهم بالصحة والعافية. كانت العلاقة بين الطالب وأستاذه علاقة صداقة في المقام الأول وليست علاقة أعلى بأدنى، لدرجة أنني أذكر مقولة للدكتور غازي القصيبي، حين درسنا مادة العلاقات الدولية بأنه يتعلم منا بقدر ما أننا نتعلم منه، أو طريقة الدكتور أسامة عبدالرحمن في التدريس وذلك بإثارة الأسئلة لا بالتلقين، أو الدكتور محسون جلال الذي كان يضيق بالغرف المغلقة فنخرج إلى حديقة الكلية، التي كان مقرها حي عليشة، فنتناقش ومن خلال ذلك يعرفنا بدهاليز الاقتصاد بيسر ودون عناء، ويتخلل هذا النقاش إلقاء الطرائف والنكت. وأذكر في هذا المجال أننا تذوقنا «الهامبرغر» عن طريق الدكتور محسون، فقد دعانا إلى حفلة مسائية في حديقة الكلية لإعداد الهامبرغر، وهرعنا إلى هذه الحفلة للتعرف على هذا الشيء الغامض، أي الهامبرغر. كانت الأجواء الجامعية، بوجود هؤلاء النجوم، تدفعك دفعًا إلى مختلف أنواع النشاط، فكري أو ثقافي أو اجتماعي، ولم تكن قاعة المحاضرات هي البداية والنهاية. كانت الجرائد الحائطية منتشرة في كل مكان في الكلية، ولا يمر أسبوع دون محاضرة عامة لهذا الأستاذ أو ذاك، أو مسرحية على مسرح الجامعة، أو نزهة اجتماعية ثقافية. أما الجمعيات الثقافية والفكرية والسياسية فكانت كثيرة جدًّا، وقد كنت عضوًا في جمعية العلاقات الدولية التي كان يشرف عليها الدكتور سليمان السليم، وكان الدكتور غازي القصيبي أحد أعضائها، يجلس معنا كأي عضو آخر، لا فرق بين أستاذ وطالب، حتى بعد أن أصبح عميدًا للكلية.
حقيقة، وفي ظل هذا الجو، تشكلت شخصيتي من جديد، وبدأت في الخروج من شرنقة الأيديولوجيا التي كنت حبيسها أيام المنطقة الشرقية، ولكن هذا الخروج لم يكتمل إلا في أميركا، ولكن هذه قصة مختلفة. المهم، مرت أربعة أعوام من أجمل أيام حياتي، وتخرجت بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، فعُيِّنت معيدًا في الكلية، وبعد سنة سافرت إلى أميركا للحصول على الماجستير والدكتوراه.
التحرر من الأيديولجيا
قضيت في أميركا أكثر من تسع سنوات بقليل. تسع سنوات أثرتني فكريًّا وثقافيًّا بشكل لا يقارن بما اكتسبته خلال سنوات عمري كله، والأهم من كل ذلك، تحررت من أسر الأيديولوجيا إلى حد بعيد، ولا أقول كليًّا؛ إذ إن التحرر كليًّا أمر مستحيل. عُدت بعد هذه السنوات التسع إلى أرض الوطن، وعُيِّنت أستاذًا مساعدًا في كلية العلوم الإدارية، كلية التجارة سابقًا، في قسم العلوم السياسية. عندما غادرت المملكة عام 1976م، كانت الطفرة التي قلبت المجتمع السعودي رأسًا على عقب قد بدأت، وكانت كلية التجارة تقبع في قصر فخم في عليشة، وعندما عدت عام 1985م، كان البلد كله عبارة عن ورشة عمل، وكل شيء قد بدا كأنه انتقل من حال إلى حال، فلم يعد أي شيء كما كان. كلية التجارة أصبحت كلية العلوم الإدارية، وجامعة الرياض أصبحت جامعة الملك سعود، وجميع كليات الجامعة أصبحت مجتمعة في مبنى واحد جميل وأنيق وفخم غير بعيد من بلدتي عرقة والدرعية التاريخيتين. ولكني اكتشفت أن أناقة وفخامة مبنى الجامعة والكلية كان يخفي قبحًا شنيعًا؛ إذ لم تعد الكلية هي تلك التي درست بها وكنت فيها معيدًا: كلية غازي القصيبي ومحسون وأسامة، فخلال الفترة التي ذهبت فيها إلى أميركا، كان ما يسمى بالصحوة الإسلامية قد فرد رداءه على البلد، وصبغ كل شيء بصبغته. كان البلد يتحول ماديًّا واجتماعيًّا بوتيرة سريعة، إيجابًا أو سلبًا هذه مسألة أخرى وقصة أخرى ليس هذا مجالها.
الموضوع هنا هو أن «الصحوة» أو الغفوة كما أحب أن أسميها، اختطفت الجامعة بمثل ما اختطفت الوطن، فغاب ذاك التنوع الثقافي والنشاط الفركي الذي كان سائدًا أيام كنت طالبًا ومعيدًا فيها، لم يعد هناك إلا خط واحد لا خطَّ غيره؛ مَنْ يَنحرفْ يُوصَمْ بالزندقة العلمانية وأمور لم نكن نعرفها في الأيام الذهبية للجامعة. هَيْمَنَ الإسلاميون على كل مرافق الجامعة وإدارتها ومناهجها، وحددوا ما يجوز وما لا يجوز تدريسه بحيث تحولت الجامعة، ومن ضمنها الكلية بطبيعة الحال، إلى حاضنة لفكر واحد مغال في تطرُّفه، ولم يعد هنالك من نشاط ثقافي إلا من خلال رعاة هذا الفكر الذي تغلغل في مسام الجامعة التي تحولت إلى مجرد منشور يُبشِّر بفكر هؤلاء. إضافة إلى الانحدار الثقافي الذي آلت إليه الجامعة، فقدت استقلاليتها بعد أن أصبحت تابعة لوزارة حكومية، فتحولت بدورها إلى مؤسسة بيروقراطية بعد أن كانت مؤسسة أكاديمية حقيقية.
حتى المناهج، وبعد أن كان الأستاذ يختار ما يدرسه ضمن المنهج المقرر، أصبح المرجع خاضعًا للتمحيص والتدقيق وفق معيار ما يجوز وما لا يجوز. لم تعد هذه هي الجامعة التي أعرف، إن كان لها أن تسمى جامعة. في مثل هذا الجو، الذي حوربت فيه كثيرًا، حاولت أن أقاوم حتى أكمل عشرين عامًا من التدريس كي أحصل على تقاعد مبكر، ولذا ما إن حل عام 1990م، حتى طلبت إحالتي إلى التقاعد المبكر، فغادرت محبوبتي التي كانت غير آسف.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق