كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أزمة جامعة أم أزمة مجتمع؟
أذكر أن أول مرة أضطر فيها للتفكير في الجامعة كمؤسسة، كان في درس للمتخصص الشهير في الدراسات الكانطية راينهارد براندت، الذي قضينا رفقته في جامعة ماربورغ فصلا دراسيًّا كاملا نقرأ كتاب «صراع الكليات» للفيلسوف إيمانويل كانط. أتذكر أيضًا أننا كنا طلبة من بلدان مختلفة، أغلبهم جاء من جامعات إيطالية أو إسبانية وبعضهم من كوريا واليابان، وكان من بيننا مترجم إسباني، أرسلته دار نشر إسبانية خِصِّيصَى لمتابعة هذا الدرس معنا؛ لأنه كان بصدد إنجاز ترجمة جديدة لهذا الكتاب.
كان كتاب «صراع الكليات» الذي صدر في عام 1789م من آخر الكتب التي أصدرها كانط خلال حياته إلى جانب كتابه «الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براغماتية»، ويمكن أن نحسبه لا ريب على الكتب التي تدخل في باب مرافعته من أجل التنوير، ولربما هذا ما جعل الرقابة البروسية تمنع صدوره، ولن يتمكن كانط من نشره إلا عندما استلم فريدريش فيلهلم الثالث مقاليد السلطة. تتمحور الفكرة الأساسية للكتاب حول أن أهمية العلوم لا تكمن في الفائدة المرجوة منها ولكن في الحقيقة التي تقدمها.
وعبر نقده لمؤسسة الجامعة في عصره، كان كانط يدعو لحرية أكاديمية أكبر للعلوم الإنسانية والعلوم الحقة تجاه الرقابة والدولة، منافحًا في الآن نفسه عن فكرة أن تقود شعبةُ الفلسفةِ الشُّعَبَ الثلاثَ الأخرى داخل الجامعة، التي هي اللاهوت والقانون والطب، باعتبار أن موضوعها هو العقل، وأن العقل هو الطريق الوحيد إلى الحرية والحقيقة. إن كتابه: «صراع الكليات» ينضاف لا ريب إلى سلسلة الكتب والمقالات التي دبجها دفاعًا عن التنوير، وعن مبدأ التفكير الذاتي المتحرر من كل وصاية وخصوصًا تلك المتعلقة بالرقابة السياسية أو الدينية المفروضة على النشاط الفلسفي في الجامعة، وعلى العقل وما ينتجه من معارف.
الجامعة موضوعًا للتفكير الفلسفي
ولأول مرة ستتحول مؤسسة الجامعة إلى موضوع للتفكير الفلسفي في تاريخ الفلسفة، وسيفتح عمل كانط الباب أمام فلاسفة آخرين لكي يفكروا من جهتهم في الجامعة؛ منهم: فيشته، وشيلينغ، وهيغل، وشلايرماخر، وصولًا إلى هايدغر الذي سيستبدل في خطابه الافتتاحي كرئيس لجامعة فرايبورخ سنة 1933م، مبدأَ الزعيمِ بمبدأ العقل، كما أوضح دريدا في «سياسات الصداقة». إذ على الجامعة الألمانية أن تكون معبِّرة عن الجوهر الألماني الخالص. ومقارنة مع كانط وعقله التوَّاق للاستقلال عن كل سلطة خارجية، يبدو مشروع هايدغر، مشروعًا رجعيًّا إلى حد كبير. سينتبه دريدا إلى لغة هايدغر في هذا الخطاب الذي سيطرت عليه كلمتا «الكفاح» و«إرادة القول»، في سياق تاريخي سيطر عليه مفهوم «الزعيم». إن مشروع هايدغر لإصلاح الجامعة الألمانية هدف إلى توحيد القوى العقلية لخدمة جوهر محدد، ولكنه في النهاية كان يهدف لإعلاء صوت الزعيم فوق صوت العقل، ولكن لربما يكون ذلك التأليه للعقل لدى كانط وكل المثالية الألمانية، قد عبَّدَ الطريق لمثل هذا التحول. أما دريدا الذي انتقد هايدغر وخطابه الافتتاحي في «سياسات الصداقة»، فسيَعمِد هو الآخر إلى التفكير في الجامعة في كتابه «الجامعة غير المشروطة»، ولن يبتعد كثيرًا عن كانط فيما سيقوله في هذا الكتاب، إذ سيدعم حق الجامعة في الدفاع عن نفسها ضد كل أشكال السلطة، وهو حق عليها أن تفكر به وتطوره. وفي الكتاب نفسه سيطالب دريدا العلوم الإنسانية بإعادة النظر بتاريخها ومفاهيمها وإلى أن تكون مكانًا للاختلاف والتفكيك.
لو كان لي أن أختار بين موقف من الموقفين الأساسيين اللذين حكما التفكير في الجامعة داخل الفلسفة الغربية؛ أي الموقف الذي يربطها بالعقل أم الموقف الذي يربطها بالهوية، لتوجَّب عليَّ، لا ريب، أن أرفض الموقفين معًا، وسأرفض الموقف الكانطي الذي يتردد صداه عند دريدا أيضًا؛ لأنه موقف غير واقعي، فلا يمكن للعقل أن يحكم الجامعة؛ لأنه أولًا لا وجود لشيء اسمه عقل بالمُطلَق، كما أنه لا يمكن لهذا العقل أن يتمتع بالحرية؛ لأن الحرية نفسها أضحت اليوم شأنها في ذلك شأن العقل موضع سؤال. وثالثًا، لأنه من الوهم أن نتحدث عن حرية مؤسسة تخضع للدولة، ولسياساتها ومرتبطة بدعمها. وقد نستمر في نقد هذا الموقف إلى ما لا نهاية. أما موقف هايدغر، فيمكن أن أقول، بأنه رغم كل الانتقادات التي وُجِّهت إليه، أقرب ما يكون إلى ما نحتاجه اليوم، نعم نحتاج لجامعة تعبر عن هوية السياق العربي، لكن اختلافنا مع هايدغر يتعلق بطبيعة هذه الهوية، ففي الوقت الذي يفهمها هايدغر بشكل قومي، أفهمها بوصفها هوية اجتماعية، وبلغة أخرى: إن هوية الجامعة أسئلة مجتمعها.
الجامعة والابتزاز النيوليبرالي
يتوجب على الجامعة في السياق العربي ألّا تخضع من جهة أخرى للابتزاز النيوليبرالي، الذي يبحث عن «الفائدة» خارج «الحقيقة»؛ لأن ذلك يعني تخليها عن وظيفتها النقدية، وبلغة أخرى إن مصير الجامعة مرتبط بالمصير النقدي للعلوم الإنسانية، فحين تتحول هذه العلوم عن دورها النقدي، ينتهي دور الجامعة وينغلق أفقها، وتتحول عن دراسة الواقع إلى دراسة التراث أو بالأحرى إلى اجتراره. وبلغة أخرى: هل سيكون على طالب الأدب اليوم أن يدرس الأدب من دون دراسة الكتابة الإبداعية؟ هل طرحنا يومًا السؤال: لماذا نقرأ القدامى؟ هل يكتفي طالب الفلسفة بدور المترجم الرديء للصرعات الأخيرة للفلسفة الغربية وفقاعاتها اللغوية؟ أم يدرسها انطلاقًا من أسئلة مجتمعه؟ هل يمكننا أن ندرس علم النفس من دون أن ندرس التحليل النفسي كعلم اجتماعي؟ هل يمكننا دراسة علم الاجتماع من دون معرفة بالثقافة الشعبية والجغرافيا البشرية للبلد الذي نعيش فيه، ومن دون بحوث ميدانية تُنجَزُ بالتساوق مع الدرس النظريّ، وفوق كل هذا وذاك، هل يمكن دراسة العلوم الإنسانية اليوم باللغة العربية فحسب؟ أخشى أن أقول: إن دولة ما بعد الاستقلال أجهزت على الجامعة المغربية، وأكبر مثال على ذلك أن تبدأ مثل هذه الجامعة بأمثال عبدالكبير الخطيبي وبول باسكون ومحمد عزيز لحبابي، لتنتهي في جبة فقيه.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق