كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عندما يفقد التعليم العالي قدرته على كسر التـنميط
سقى الله أيام الجامعات قبل الحرب «العالمية» اللبنانية
لا نقول جديدًا إن قلنا: إن مرحلة التعليم الجامعي في حياة كل فرد منّا (قُدّر له بالطبع أن يعيشها كحراك جدّي وفاعل على الأرض) هي عزيزة عليه، وفي الصميم من ذكرياته؛ لأن لها إيقاعها الخصوصي كتجربة علمية وفكرية وسياسية وشخصية ومجتمعية، ناضل خلالها الواحد منّا في أكثر من اتجاه، نشدانًا للتغيير، إن على نطاق طلابي ضيّق داخل أسوار الجامعة، أو على نطاق واسع يشمل الوطن في بُعديهِ: المحلي والقومي، أو على صعيد القيام بأنشطة أدبية وفكرية ذات طرح مغاير، شعريًّا، وسرديًّا ونقديًّا، أو في إطار تأسيس حركات أدبية وإبداعية أخرى متجاوزة للسائد على مستوى طرح الأسئلة الجديدة، شكلًا ومضمونًا.
ولا غرو، فمرحلة التعليم الجامعي، هي عنصر أساس للارتقاء، ليس بالذات الفردية وحدها فقط، إنما بعملية التنمية البشرية وتطوير المجتمعات، وكذلك الإسهام في الدفع بتحولات عملية كبرى وفاصلة في حياة الشعوب، ترتقي إلى ما يمكن أن نسميه بـ«الثورات التاريخية»، تمامًا كما حدث مع «الثورة الطلابية» في فرنسا في مايو 1968م من القرن الماضي، حيث فرضت هذه الثورة نفسها، ليس على سياسات الدولة الفرنسية وحكوماتها المتعاقبة في ذلك الوقت فقط، إنما على الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين الذين انخرطوا فيها وآزروها وكانوا العنصر الوازن والضاغط فيها نحو فرض التغيير على سلطة شارل ديغول ورئيس حكومته جورج بومبيدو آنذاك، وعلى رأس هؤلاء الفلاسفة والمفكرين: جان بول سارتر، وميشال فوكو، وجيل دولوز، وسيمون دو بوفوار، وويليام رايشت، وبيار بورديو، وريجيس دوبريه وغيرهم.. وغيرهم.
وأهمية ثورة مايو 1968م أنها انتقلت بتأثيراتها الدامغة من فرنسا إلى أوربا والولايات المتحدة والعالم العربي وخصوصًا لبنان، حيث راح اليسار اللبناني بتشكيلاته «المحافظة» والجديدة، ومعه فئات سياسية ليبرالية محسوبة على التيارات اليمينية التواقة إلى التغيير، يتحرك بقوة على مستوى الجامعات اللبنانية والنقابات العمالية منتهجين نهج الثورة الطلابية الفرنسية، طموحًا لإحداث التغيير المنشود وعلى كل صعيد سياسي واقتصادي وفكري، حيث لم يُكْتَفَ بنقد الفكر المتكلّس على جبهتي اليسار واليمين معًا، إنما السعي الهادر لتحطيم أوثان هذا الفكر المُسمط، على الضفتين المتناقضتين معًا. وقد عبّر عن عمق هذه المسألة وقتها المفكر الأميركي من أصل ألماني هربرت ماركوزه في كتابه: «الإنسان ذو البعد الواحد»، الذي بشّر فيه بنهايات الدور التاريخي الفعال للطبقة البورجوازية من جهة، والطبقة البُرُولِيتاريَّة المقابلة لها من جهة أخرى، لحساب قوة ثالثة «لا مرئية» باتتْ تتجه لتتحكّم في مسار الجهتين التاريخيتين الآفلتين معًا، يمكن تسميتها بـ«العقلانية العلمية التقنية».. وهذه القوة الثالثة ليست في منزلة الطبقة المعارضة، ولن تكون.
جدير بالذكر أنه طُبع من كتاب ماركوزه: «الإنسان ذو البعد الواحد» في السبعينيات والثمانينيات 4 طبعات متواصلة. وقد تولى ترجمته إلى العربية جورج طرابيشي وصدر عن دار «الآداب» في بيروت. وعُدَّ الكتاب يومها بمنزلة دستور الفكر النقدي الجديد لمجتمع ما بعد الثورة الصناعية في الغرب، الساعي إلى رفض تشييء الإنسان وتغريبه وتسليعه كيفما اتفق. وكان المؤلف هربرت ماركوزه (وهو في المناسبة رائد «مدرسة فرانكفورت» الفلسفية الشهيرة) وقتها داعمًا للثورات الطلابية ومؤثرًا في قياداتها في مختلف جامعات أوربا والولايات المتحدة، وبخاصة جامعة سان دييغو التي كان يدرّس فيها.
تجربة شخصية
هذا الكلام ليس نظريًّا، ولا هو نوع من التشجيع على الاهتمام بتعزيز جامعاتنا العريقة ومعها الجامعات الجديدة المسؤولة، بقدر ما هو خُلاصة شخصية لتجربة عشتُها بكل تفاصيلها طالبًا في الجامعة اللبنانية في مرحلة كانت ذهبية بالفعل (منذ عام 1970م إلى عام 1974م) من تاريخ لبنان المعاصر ومناخه الجامعي بشكل عام، حيث كان كل ما في البلد يدفع إلى الفرح والترقّي والريادة. وكانت الجامعات وطلابها، الوطنية منها والأجنبية، منارات فكرية حقيقية ومساحات واسعة مفتوحة لاستثمار وتفعيل المعارف والثقافة وأدب الحوار من خلال التفاعل والنقاشات الفكرية والثقافية والسياسية، تحت سقف مرتفع من سعة الصدر والمدارك يقوم على عُمُد الحرية والديمقراطية. نعم. كانت تلك حقبة ذهبية بحق، ابتدأت، في إطارها العام، من أواسط خمسينيات القرن الماضي، وترقّت متواصلة حتى عقد السبعينيات منه، حين هبطت لعنة الحرب «العالمية» اللبنانية لتغتال البسمة، وكل ما كان منسجمًا معها، من هدوء وارتياح ورفاهية، تُخصّبها جميعها أجواء التحاور والتثاقف والإشراق المعرفي، حين كان هذا البلد «سويسرا الشرق» -اللقب الذي استحقه لبنان- يوفّر للمنطقة والمحيط ولكل من يقصده من العالم (وما كان أكثرهم) أرقى الجامعات والمستشفيات والمصارف والصحافة الحرة، ودور عرض السينما التي كانت تعرض أفلامها بالتوقيت نفسه مع سينمات نيويورك ولوس أنجليس ولندن وباريس وروما.. علاوة على أحدث الخدمات الفندقية والمطاعم والملاهي وأجمل المتنزّهات ووسائل الترفيه والسياحة ورغد العيش بوجه عام.
أرجو ألّا يقاطعني أحد… فأنا عشتُ هذه المرحلة بطولها وعرضها، وعلى المستوى الجامعي تحديدًا، حيث النضج الأكاديمي والغنى الفكري والتنوّع الثقافي، وكانت الجامعة، أيّ جامعة وطنية أو أجنبية في لبنان في ذلك الزمان، مدرسة رائدة وفريدة في الشرق. أتذكر بشغف عارم تلك المرحلة المفقودة التي انطوت من حياتي الجامعية؛ إذ كنت من جملة طلاب الجامعة اللبنانية. يومها كُنّا أحرارًا ومُنطلقين، وكانت الجامعة عنوان قوّتنا ومناعتنا وبساط أماننا وإنتاجنا. كان لكل فكر منبره، ولكل اتجاه أفقه المفتوح، والجامعات (سواء منها الوطنية كالجامعة اللبنانية، أو الأجنبية كالأميركية أو جامعة القدّيس يوسف، أو جامعة بيروت العربية، التي أسست في زمن صعود الرئيس عبدالناصر وتيار القومية العربية الذي رعاه) كلّها تقوم بدورها على الوجه الأكمل، تُؤمّن إلى جانب جدّية المعارف الأكاديمية، جرعات صحية من الحُريات للطلبة على اختلاف توجّهاتهم السياسية والأيديولوجية، فتدفع بهم لتوجيه طاقاتهم وقدراتهم الفكرية المتفجرة، حتى لو كانت على الضد من «سياسات» هذه الجامعات نفسها.
وكنت شخصيًّا كطالب في الجامعة اللبنانية أتصل بنظرائي في الجامعات الأخرى ونتفق معًا على أمور مطلبية تخصّ طلاب لبنان جميعًا، كالإعفاء من دفع رسوم التسجيل، أو الحدّ من زياداتها شبه السنوية، على الرغم من اختلاف إدارات الجامعات حول هذا الأمر. وكنا نحقق إنجازات ملحوظة. كما كنا نتفق على مطالبة جميع شركات الطيران العاملة في بيروت بضرورة تخفيض سعر التذكرة إلى ربع الثمن للطلاب الذين يتابعون دراساتهم محليًّا وفي الخارج، وكنا ننجح في ذلك. فوق هذا وذاك، كنا نؤسس مطبوعات أدبية يكتب فيها طلاب من كليات آداب كل الجامعات الموجودة على الأرض اللبنانية، تهتم بالأدب الحديث شعرًا وسردًا، وقد رأست بنفسي تحرير ثلاث مجلات منها هي: «قصائد ضدّية»، و«البحر الأخضر» و«اللغة الأخرى».. وكنا نطبع الأعداد بتمويل طلابي ذاتي مشترك.
ثمار ثقافية يانعة
صحيح أن الجامعة الأميركية في بيروت مثلًا، كانت ترفل بألقاب تفخيمية كثيرة، تروج لها الطبقة الميسورة في لبنان، مثلها مثل الجامعة اليسوعية، إلا أن هذا لم يكن على حساب الجامعة اللبنانية (وبخاصة كلية التربية فيها) التي كانت تضارعهما بامتياز. هنا كان الناقد البارز الدكتور إحسان عباس على سبيل المثال أستاذًا في الأميركية، وهناك كان زميله الأبرز في الجامعة ذاتها الشاعر الدكتور خليل حاوي، أستاذًا كذلك في الجامعة اللبنانية. وفي الوقت الذي كان المفكر قسطنطين زريق مدرّسًا للحضارة العربية– الإسلامية في الأميركية، كان الشيخ الدكتور عبدالله العلايلي يُنظِّر للفكر السياسي الحر، وللإسلام الوسطي المنفتح.. فضلًا عن ريادته كأستاذ مرجع في اللغة العربية والتراث العربي في اللبنانية، ومعه أيضًا د. فؤاد أفرام البستاني أحد أساطين تدريس الأدب العربي منذ الجاهلية حتى عصر ما بعد الأندلس.
وإذا كان الدكتور برامكي الخبير العالمي في الأحافير، رئيسًا لقسم الآثار في الأميركية، فإن الشاعر والمفكر الكبير أدونيس كان أستاذًا في اللبنانية (كلية التربية)، وكذلك كانت الناقدة الأدبية الجدّية للغاية الدكتور خالدة سعيد في الجامعة نفسها وإن بفرع آخر. مقابل هؤلاء الأساتذة وغيرهم من الأكاديميين الصفوة، تخرّج من صفوف الطلبة مفكرون وسياسيون وشُعراء وأدباء وعُلماء وقادة، لوّنوا زمنهم وطبعوا تلك الأيام بطابعهم، واستمر ذكر بعضهم وتأثيره ممن خلَّدتهم أعمالهم. فالجامعة اللبنانية خرّجت شعراء وكُتّابًا ومثقفين مميزين؛ أمثال: موسى شعيب، وجوزيف حرب، وبول شاوول، ومحمد علي شمس الدين، ومحمد العبدلله، وحسن العبدالله، وشوقي بزيع، وشربل داغر، وأحمد فرحات، وحمزة عبود (شعراء)، ورشيد الضعيف، وحسن داود، ورجاء نعمة، وعلوية صبح، وجبور الدويهي، وجوزيف سماحة، وعدنان السيد حسين، وباسم السبع (روائيون وإعلاميون)… مثالًا لا حصرًا.
جامعة الفقراء
كانت الجامعة اللبنانية قد وُلدت كجامعة للفقراء، مقابل الجامعات الأجنبية التي لا يتحمّل أعباء نفقاتها غير الأغنياء، لكن هذا لم يَحُلْ دون نجاحها وتميّزها، فأثمرت من بين طلابها سياسيين ومنظّرين وأصحاب مناهج وأدوار كبيرة في المجتمع. وهذا أيضًا كان شأن الجامعات الأخرى الخاصة. احتضنت الجامعة اللبنانية الحركات العروبية واليسارية، ولم تحتكرها أو تَكتفِ بها، فكانت إلى جانبها أيضًا حركات سياسية يمينية متطرفة ووسطية، كان لها شأنها الكبير في تلك الأيام (قبيل الحرب الأهلية التي بدأت في عام 1975م) على المستويات الجامعية، حيث شهدت احتدامات فكرو– سياسية فيها، من أبرزها «حركة الوعي» التي عرفت انتشارًا جامعيًّا واسعًا، وكان صراعها مع اليسار ناشطًا ومتكافئًا في مختلف كليات الجامعة؛ وهو الأمر الذي يؤكد أن الجامعة هي مختبر العمل السياسي الراهن والمقبل للطلاب.. كيف لا والبيئة الجامعية هي بيئة مجتمعية في الأساس، تتداخل فيها المصالح والتوجهات، وتنشأ فيها العلاقات السلبية والإيجابية وتتحزّب فيها وجهات النظر المختلفة وتتصلب، خصوصًا في منطقة تشهد حروبًا ساخنة مستديمة مثل منطقتنا العربية– الإسلامية. وحال الجامعة اليسوعية، أو جامعة القديس يوسف، التي نشأت في بيروت في عام 1875م، والتي عُرفت بكونها المعقل الأبرز لليمين اللبناني المتشدد، لم تُخرِّج الرئيس بشير الجميّل فقط المعروف بيمينيته، بل تخرّج منها أيضًا جيل طلائعي من جماعات أقصى اليسار المتطرف (من الماويين، ومن تنظيم اتحاد الشيوعيين اللبنانيين). واليسوعية من الجامعات العريقة جدًّا قي لبنان. تخرج منها 7 رؤساء جمهورية في لبنان هم، إضافة إلى الرئيس بشير الجميل، الرؤساء: شارل دباس، وكميل شمعون، وإلياس سركيس، وأمين الجميل، ورينيه معوض، وإلياس الهراوي. كما تخرج منها الزعيم كمال جنبلاط، والزعيم ريمون إده، والشيخ بيار الجميل، وليلى الصلح حمادة، وجان عبيد، وجان عزيز، وميشال إده، وميشال المر. كما خرّجت اليسوعية أدباء وشعراء كبارًا من لبنان؛ أمثال: ليلى بعلبكي، وتوفيق يوسف عواد، ويوسف حبشي الأشقر، وأمين معلوف، وناديا تويني، وصلاح ستيتية. ومن خريجيها أيضًا الكتّاب: خليل رامز سركيس، وغسان سلامة، وطارق متري، وكريم بقرادوني، وعدنان منصور، فضلًا عن البطريرك نصرالله بطرس صفير، والأب غريغوار حداد، والمطران ميشال صباح.
عبدالعزيز التويجري والـ AUB
أما الجامعة الأميركية في بيروت، فهي الأعرق والأقدم في لبنان. أسّسها المبشّر الأميركي دانيال بلس، وكان اسمها في ذلك الوقت «الكلية السورية البروتستانتية». فتحت أبوابها للطلاب في 3 ديسمبر من عام 1866م. وصار اسمها في ما بعد، أي في عام 1920م، الجامعة الأميركية في بيروت: AUB. في نهاية الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا في عام 1918م، كانت قد نشأت في الجامعة المذكورة جمعية سمّت نفسها «جمعية العروة الوثقى» (تيمنًا بالجمعية السريّة التي حملت هذا الاسم وأسّسها الشيخ جمال الدين الأفغاني، بالتنسيق مع الإمام محمد عبده في باريس وبيروت)، وأصدرت مجلة رائدة بالاسم نفسه في عام 1923م، واستمرت في الصدور حتى عام 1954م. في عام 1936م أعلنت مجلة «العروة الوثقى» سياستها الواضحة، مؤكدة النضالَ الطلابيَّ القوميَّ العربيَّ في الجامعة. وعدَّت المجلة نفسها في بيان نشرته على صفحاتها في عام 1950م أن «تحقيق الوحدة العربية هو أهم أهدافها على الإطلاق؛ لأنه من المستحيل فصل التراث العربي في التاريخ والأدب والعلوم بعضه عن بعض، وأن جوهر العرب أو الشخصية العربية هو الوحدة». ومن منتدى يهتم باللغة والآداب في الجامعة، تحوّلت «العروة الوثقى» إلى منتدى للنشاط السياسي والفكري بجهد مجموعة من الشباب، من ضمنهم جورج حبش مؤسّس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وهو ما قاد إلى بداية التفكير بتأسيس «حركة القوميين العرب»، هذه الحركة التي أسهم أيضًا في تأسيسها خِرِّيج آخر من الأميركية، هو البرلماني الكويتي المعروف أحمد الخطيب. هذا من دون أن ننسى الدكتور سليم الحص (رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق لمرّات عدة)، والصحافي الكبير غسان تويني، والمفكر البارز شارل مالك، وأحد أبرز دُعاة القومية العربية الدكتور قسطنطين زريق، والمفكر اللامع منح الصلح وغيرهم الكثير.
وكان لي جلسات شهرية شبه منتظمة مع المفكر الراحل منح الصلح في منزله المتفرع من شارع السادات في منطقة الحمرا في بيروت، كنا نتداول فيها مختلف المستجدّات السياسية اللبنانية والعربية، هو المعروف بنزعته العروبية الحضارية وصداقته للمفكرين العروبيين على امتداد الوطن العربي. أتذكر أنني زرت معه، عندما كنت مدعوًّا إلى مهرجان الجنادرية في عام 1996م منزل الشيخ عبدالعزيز بن عبد المحسن التويجري في الرياض، هو الذي كان مهجوسًا بالعلم والتعليم، فضلًا عن الشعر والأدب (خصوصًا شعر المتنبي الذي كان رحمه الله يحفظ له قصائد بأكملها عن ظهر غيب). وجرى كلام وقتها عن الدور القومي العربي الذي اضطلعت به موجات الطلاب العرب الذين درسوا وتخرّجوا من الجامعة الأميركية في بيروت؛ ومما قاله نائب رئيس الحرس الوطني آنذاك: «إنّ هذه الجامعة هي التي خرجت مداميك العروبة من الجيل الأول والثاني، سواء أكانوا في الخليج أم في سائر أقطارنا العربية؛ وينبغي لهذه الجامعة ألا تتضرر جرّاء الحرب الأهلية اللبنانية، مسارًا ونتيجة». وطمأنه وقتها الأستاذ منح الصلح بالقول الذي مفاده أنه جرى اتفاق ضمني بين الأفرقاء المتحاربين في لبنان بتحييد حرم الجامعة الأميركية من القصف والقصف المضاد؛ ولذلك صمدت هذه الجامعة العريقة ولم يلحق بها أي أذى ماديّ يذكر.
وبدوري سألت الشيخ عبدالعزيز التويجري: هل يا ترى في الإمكان السعي إلى بناء جامعة عربية خاصة بالمتفوقين العرب، على غرار ما هو موجود في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، خصوصًا في الحقول العلمية، فنستفيد نحن العرب من طاقات خرّيجينا في هذا المضمار بدلًا من أن تستوعبهم تلك المؤسسات الغربية المتقدمة ويتحولون فيها إلى علماء حقيقيين يخدمون مجتمعاتهم الجديدة وينسون أنفسهم وبلدانهم؟.. أجاب الرجل بعقل ثاقب قائلًا: «هذا الأمر يشغلني منذ زمن طويل، ولا يكفي فيه أن يقول لك صانع القرار: هيّا إلى تنفيذه، بل يحتاج الأمر إلى تراكمات علمية واجتماعية عربية وتأسيس بنى قومية صلبة تقود إلى ذلك، ولكن لا شيء يمنع من البدء به، الأمس قبل اليوم، ولنستعد له ونحتاط؛ لأن الذي يستثمر طاقاتك العربية، هو كامن لك أيضًا وسيتصيّدك عند أول مفترق طريقك المستقل عنه».
لقبت الجامعة الأميركية في بيروت بـ«جامعة المتنورين». لقبها بذلك رئيسها السابق بيتر ترومان الذي انتهت ولايته في عام 2014م، حيث قال: «إن الجامعة الأميركية في بيروت اليوم تختلف عن تلك التي قام ببنائها مؤسسوها المبشرون، غير أنها تبقى مكرسة للمثل نفسها المتمثلة في تخريج قادة «تنويريين» ذوي رؤية». وقد خرّجت بالفعل هذه الجامعة كبار الشخصيات اللبنانية والعربية، ممن لعبوا أدوارًا سياسية وأكاديمية وثقافية في بلدانهم، ولا سيما في دول مجلس التعاون الخليجي؛ أمثال: حصة سعد العبدلله الصباح، وحمد بن جاسم بن حمد آل ثاني، وسعود بن صقر القاسمي، ومحمد جابر الأنصاري، وعبدالله بن صالح بن جمعة، وعبدالله بن عمر بلخير، وعبدالله النفيسي.. وغيرهم. ومن الأسماء المهمة التي تخرجت في الجامعة الأميركية نذكر: جرجي زيدان، وحسن كامل الصباح، وألبير حوراني، وأسد رستم، وإيميلي نصرالله، والبطرير ك إغناطيوس الرابع هزيم، وحليم بركات، وخليل حاوي، وتوفيق صايغ، وسعدون حمادي، وصائب سلام، وصبحي المحمصاني، وطه باقر، وعبدالكريم الكباريتي، وعلي الوردي.. وغيرهم.. وغيرهم.
بين الأمس واليوم
هذا كلّه بات اليوم من الماضي… وهو وضعٌ بائس بما لا يكفي كل الأسف لتعويضه. فاليوم تعيش الجامعات المحلية في «بلد الإشعاع والنور» الذي كان، حالة تراجع انهيارية مُريعة حتى ما عادت تُشبه البتّة ما كانت عليه في المراحل التي عشتها، ولا عاد المتخرّج منها يتمتع بالإمكانات والمعرفة والكفاءة بما يؤهله كي يدير أو يقود، بل لعله لم يعد يهدف إلى تحقيق ذلك أساسًا، مُفتّشًا عن شهادة تتيح له عملًا مأجورًا… ولو شئنا الوقوف على السبب المباشر لهذا «القدر المأسوي» لاستدعانا المثل الصيني القاسي بواقعيته وهو يقول: إنه «حين يحصل العطل في الآلة، فهو يحصل بأسوأ طريقة ممكنة». لقد تعطّلت بالفعل ما يمكن عَدّهُ «الآلة الجامعية» وسقطت، وعملية السقوط العظيم أخذت معها الأستاذ المحاضر والطالب المتخرّج في قبضة واحدة، كأنما التعليم العالي في لبنان أصيب بحالة موت سريري… لم تفارقه الروح، إنما لا عضو فيه يعمل، ولا ملكة من ملكات عقله تشرق لتضيء الطريق. والمسؤولية هنا جماعية يقع ثقلها بشكل أساسي على كاهل الطرفين الأساسيين (الجامعة والطالب معًا)، مثلها مثل عملية التصفيق التي لا تتم بيدٍ واحدة. الإدارة أولًا، وهي جزء أساس من الجامعة، «جُرْمها» أن جُلَّ اهتمامها لا يتوجّه إلى حُسن التنظيم ولا إلى حُسن اختيار البرامج ووسائل التعليم، بل يتركّز على الاهتمام بالاستثمار ومضاعفة رأس المال المستثمَر، ولو على حساب أيّ هدف آخر. مع الإدارة يأتي الأستاذ المحاضر الذي تحرص الجامعة على اختياره «بأقل تكلفة»، وتتغاضى عنه حين ينقلب «مُلقِّنًا» يكتفي بالسرد والتكرار، ويرمي كراريسه للطلاب وبين أوراقها خريطة تجاوز السنة الدراسية… مع هذا يكتفي هو الآخر بكراريس المحاضرين،. وهذا ما «مسخ» الطالب إلى تلميذ في أحد كتاتيب العصور العتيقة، يُقلِّد «المعلِّم» محدود التوجّه والمعرفة، ويجتهد للنجاة من مدى عصاه الطويلة، من دون أن ينشط في العمل على إغناء معرفته أو توسيعها وتعميقها مما هو جدير بالطالب الجامعي. حتى ذلك الوهج السحري الجاذب الذي كان «مرض» جيلنا الجامعي الأثير، فيبدو أنه خفت وانطفأ. وهذه المرحلة الدراسية فقدت اليوم ذلك التَّوْق إليها والانغماس المخلص فيها والغوص المتواصل نحو أعماقها المعرفية والبحثية، وصار الذاهب إلى الجامعة يشبه الذاهب رغمًا عنه إلى روتين مملّ لا أَلقَ له ولا عشق ولا جاذبية. وهذا على العكس تمامًا مما كانت عليه الجامعة بالنسبة إليّ وإلى أبناء جيلي الذي سبقه والذي تلاه على الأقل. هبط مستواها وضحُلت برامجها وتراجع عزم المحاضرين فيها؛ فلا المتخرّج الجامعي اليوم هو نفسه الذي كان، ولا مستواه المعرفي كذلك، ولا عمقه الثقافي، ولا إحاطته الموسوعية، ولا كفاءته… وهذا الواقع البائس ليس حال الجامعات في لبنان فحسب، بل هو ذاته واقع الجامعات عمومًا في مختلف بلداننا العربية، المضطربة منها والمستقرّة، الغنية منها والفقيرة، الكبيرة منها والصغيرة، مع شديد الأسف.
حتى الطالب
اليوم اختفى أو يكاد الطالب الجاد والمهتم بإغناء معلوماته من خلال جهده الشخصي وبحثه المنهجي خارج الحدود الضيّقة لما يوفره له الأستاذ المحاضر، وعاد الحفظ يتقدّم على الفهم في السعي اليومي، وصار البحث يرتاح إلى التقليد والنقل، وباتت الاستعادة مُفضّلة على الابتكار والتجديد. لم يَعُدِ الطالبُ مشروعَ باحثٍ يَجمعُ معارفه ويكتسبها من سعيه الدؤوب واجتهاده المتواصل، بل صار «مشروعَ باحثٍ عن وظيفة»… يعتاش منها، وباتت الجامعات كأنها «أكشاك لبيع الشهادات». أما ذلك الطالب الذي كان يلتقط من الأستاذ المحاضر رأس الخيط، ثم ينطلق بنفسه للبحث ونفض الغبار عن رفوف المكتبات؛ لإغناء الموضوع وتوسيع معرفته وتعميق ثقافته والعمل على تحصيل قيمة أكاديمية وفكرية مُضافة إلى ما اطلع عليه من المُحاضِر، فهذا الطالب لم يعد حالة شائعة، وبات اليوم يستقرب فيكتفي من المعرفة بما يحقق له علامة النجاح (البائسة) للعبور إلى السنة الدراسية التالية. وبدلًا من اعتماده الجهد الشخصي ومصابيح البحث والاستقصاء والتعمّق للارتقاء بمعارفه، صار يلوذ بأمان التلقين الذي يتلقاه من المُحاضِر، ليصبح هذا التلقين ذاته سيد لعبة التعلّم عنده. وفي هذه الظروف من المنطقي ألا تعود جامعاتنا معنية أو جديرة بتخريج الرئيس أو المدير أو الوزير أو الخبير أو الكادر الوظيفي العالي، وسوى ذلك مما شكّل العُمُد الأساس للنهضة العربية، بل صارت تجنح إلى الاكتفاء بتخريج مشروع الموظف الذي ينتظر راتب آخر الشهر.
لا أقصد مما سبقت الإضاءة عليه الادعاء أن جيلنا الجامعي كان جيلًا من الأولياء والقدّيسين الذين كرّسوا أنفسهم للتعلم على مقاعد الجامعة؛ لا بل إننا في تلك المرحلة من أعمار نهايات المراهقة، لم نكن، وآخُذُ من نفسي مثلًا، كثيري الاهتمام بالدراسة والبحث بشكل مبالغ فيه، ولا كنّا نُكرّس للدراسة إلا بعض جهودنا فقط التي يذهب أكثرها لتلبية الحاجات والرغائب. لكننا كنّا نعيش نوعًا من امتياز بلوغنا الجامعة، والكثرة منّا كانوا يستمتعون (نعم، هذه هي الكلمة) بالبحث وبالتنقيب عن المعلومة وتجاوز ما ذكره المُحاضِر وما ضمّنه كراريسه.
مواجهة الواقع
والآن، ماذا بعد؟ أين نحن من هذا كله؟
علينا أن نتحمل المسؤولية فقط، لا أكثر. نحن أبناء المرحلة الجامعية الذهبية الذين عرَفنا موسم التجلّي والإبداع وجنينا من مواسمه، علينا ألّا نركن إلى كبريائنا لننكر الواقع على عِلّاته وقساوته. ولن يجدي ركوب أعلى الخيل ولا ادّعاء ما ليس واقعًا ولا الركون إلى ما يملأ الصفحات عن تلك «الثورة التعليمية» المزعومة التي تملأ الأحاديث عنها بعض وسائل الإعلام، ولا الاطمئنان إلى تلك الميزانيات العملاقة التي يجري تخصيصها والحديث عنها في مقدمة نشرات الأخبار. فاليوم، وهذا من امتيازات الجيل الراهن مما لم نعرفه أيام دراستنا الجامعية، لم يعد ثمة أسرار ولم يعد بوسع «البروباغندات الرسمية» أن تمرّ بخِدعها على الجمهور. وكلٌّ قرأ حقيقة أن أحدث تصنيف للجامعات حول العالم، جاء خاليًا من ذكر أيّ مؤسّسة جامعية عربية (نذكر هنا تصنيف «شنغهاي الصيني»، وتصنيف «ويبومتركس الإسباني»، وتصنيف «كيو إس العالمي» البريطاني، وتصنيف «الكفاءة للأبحاث والمقالات العلمية العالمية للجامعات» في تايوان، و«التصنيف العالمي المهني لأساتذة الجامعات» الفرنسي، و«التصنيف الدولي للموقع الإلكتروني للجامعات والكليات على الشبكة العالمية» الأميركية – انظر صحيفة البيان الإماراتية، 17 جمادى الأولى 1440هـ/ 23 يناير 2019م). وهذا يعني «تقصير اثنتين وعشرين دولة (عربية) عن اللحاق بالركب العالمي، وعجز قوة بشرية تقدر بـ300 مليون إنسان، عن تحقيق جامعة واحدة تُحاكي المعايير العالمية وتؤكد بمستواها الأكاديمي اللائق أنّ العرب شركاء أصيلون في مسيرة المعرفة. وهذا يتوافق مع ما قاله بكل جرأة خبير الجودة الأكاديمية في الجامعات السعودية د. معاذ بن علي الجعفري.
الإنجاز المطلوب هنا لن يكون بالأمر السهل الذي يتحقق بين يوم وليلة. لكن ما يبعث الأمل هو أن هذه المشكلة ليست خافية على أهل الرسالة التعليمية والمربين المختصّين. فهذا نائب رئيس جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت د. هنري العويط (انظر صحيفة البيان الإماراتية- 9 جمادى الأولى 1440هـ/ 15 يناير 2019م)، يرفع الصوت عاليًا منذ سنوات محذّرًا من أن «قطاع التعليم العالي يعاني فوضى كبيرة على صعيد منح التراخيص والاعتراف بالشهادات ومستوى التعليم»، فيما ترفع صوتها الجامعة الأميركية في بيروت بشكوى دائمة من عجز الدولة عن إدارة التعليم العالي، مشيرة إلى ظهور مؤسّسات لا يستوفي معظمها الحد الأدنى من معايير الجودة الأكاديمية والشرعية القانونية، وعن الغطاء السياسي الممنوح لها. هذا فضلًا عن غياب المفاهيم التربويّة والخطط المستقبليّة، والمسح الصحيح لحاجات الوطن على صعيدَيِ اليد العاملة وسوق العمل، وانتفاء التكامل بين المناهج الجديدة على صعيد المدارس ومناهج التعليم العالي. فحين يفقد التعليم قدرته على التنافس وقيادة التغيير الاجتماعي والتنوّع، يكون في سبيله إلى نشر التخلّف والانهيار.
لا بدّ من إعادة الجامعة في البلدان العربية إلى دورها الأساسي ومهمتها الأهم: إنشاء بنية تحتيَّة عقلية ومعرفية ومهنيَّة للمُجتمعـات، من خلال إعداد قياديين في مختلف المجالات. وفي غمار الرحلة التي ينبغي لنا الانطلاق بها منذ اليوم، لا بدّ من استذكار ما قاله «بسمارك» من أن «المعلم الألماني هو الذي مكّن الألمان من احتلال باريس، وليس الجيش».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق